"المغيبات": منار حسن تستحضر حالات المدينة والمرأة حتى عام النكبة

2023-03-07 22:00:00

Tamam Al-Akhal, Horses in Paradise, 1990-1999

تستدل الباحثة من خلال مقالات في الصحافة الفلسطينية على أن فضاءات الترفيه والثقافة العامة في المدينة الفلسطينية إبان الانتداب قد بدأت تتنوع وتختلف، فتعود إلى مقال لأسمى طوبي وهي صحافية وناشطة في الحركة النسائية الفلسطينية في إبان الانتداب البريطاني حيث تنتقد أسمى النساء الذين يتحدثن بلغة أجنبية مع أولادهن في المقاهي والحدائق العامة.

تطرح الباحثة المتخصصة في علم الاجتماع الحضري والجندر منار حسن سؤالها بقوة: لماذا غيبت المدينة الفلسطينية ومحيت من الذاكرة الفلسطينية الجمعية ومعها مكانة النساء فيها؟ لقد كانت الأسباب وراء محوها من الذاكرة الصهيونية جلية وواضحة، ولكن أسباب غيابها من الذاكرة الجمعية الفلسطينية تحفز البحث في أكثر من موضوع.

كي تجيب على السؤال في كتابها المهم الصادر حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان" المغيبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1984" تبدأ بالدخول الى الفن من خلال تأمل لوحتين تشكيليتين، أحدهما للفنان إسماعيل شموط "الربيع الذي كان" والثانية لزوجته تمام الأكحل "يافا عروس البحر".

 ففي لوحة إسماعيل شموط يظهر الريف الفلسطيني من خلال منظر طبيعي وعائلة ريفية، بينما في لوحة تمام الأكحل تحضر الموتيفات الحضرية والنسائية، تناقش الباحثة ذلك بأنه حوار بين الفنانين، حيث تستحضر الفنانة ذكرى المدينة التي غيبت من الذاكرة الجمعية بينما يستحضر الفنان فلسطين "كقرية" ولكن لماذا؟ تقول "تكمن الإجابة المحتملة عن هذا السؤال في الدور السياسي الذي أداه شموط رئيسا لقسم الفنون التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. كان تأسيس الفن الفلسطيني في إطار منظمة التحرير الفلسطينية قد لعب دورا في هيكلة الذاكرة الوطنية كذاكرة ريفية حسب الباحثون. وحسب الحقيقة التاريخية فإن عشر مدن من أصل احدى عشر فقدت صبغتها الفلسطينية سنة 1984، في أعقاب خراب الكينونة الحضرية. ولذلك حسمت أيضا القومية الفلسطينية عن طريق رمنسة القرية وتعزيزها في الذاكرة على حساب المدينة.

تشرح الباحثة أن المجتمع الفلسطيني كان في ذروة مسار التحضر عشية الشرح الكبير الذي حدث مع إقامة دولة إسرائيل عام 1984، فقد سكن 35 إلى 40 بالمئة من مجمل سكان فلسطين في المدن، ومن التغييرات الأهم التي حدثت بتأثير مسار التحضر ووجود المدينة الفلسطينية حتى سنة 1948 هي التغييرات التي طرأت على العلاقات الجندرية ومكانة المرأة.
 


الصحافة كأرشيف

لتسليط الضوء على هذه المسارات، ظل الأرشيف المنظم غائبا، وبقي تاريخ هذا المجتمع خفياً فحاولت الباحثة استعادته ولو جزئيا عبر استرجاع المصادر البديلة التي كانت متاحة لها، وهي الجرائد وجماعة الذاكرة المكونة من رجال ونساء قابلتهم. تقول الباحثة عن دور الصحافة كمصدر للأرشيف في هذا المضمار:" ليست الصحافة مصدرا أرشيفيا للمواد التجريبية فحسب، بل هي أيضاً لاعب قائم في المضمار البحثي ذاته. كانت الصحافة الفلسطينية ظاهرة حضرية في جوهرها، وصدرت الأغلبية الساحقة من الصحف في المدن". لذلك تستند الباحثة في كتابها على عدة جرائد فلسطينية على رأسها جريدة فلسطين، والكرمل والدفاع والصراط المستقيم وجريدة الشرق. وتؤكد أن نمو الصحافة الفلسطينية وتطورها هما أداة مركزية في مسارات الكشف الجماهيري والتسييس التي طرأت على المسألة الجندرية. فقد كتبت الصحافة عن النشاطات العامة التي أخذت تزداد مع الوقت، ومكنت النساء من إسماع أصواتهن والمشاركة في النقاشات العامة، وتبادل الآراء بقضايا النساء بين الصحافة الفلسطينية والعربية، وقد برزت هناك أصوات نسائية كتبت عن العلاقات الجندرية كفكرية صدقي التي طرحت مسألة مكانة المرأة و القضايا الجندرية الأخرى في صلب النقاش العام. 

وبرزت أصوات رجال يكتبون عن النساء أيضا، إسكندر الخوري البيتجالي ومصطفى فهمي الدباغ ورفول سعادة وبدأت نقاشات في الصحافة حول أزمة الزواج، فاتضح من خلال النقاش ارتفاع جيل الزواج او التنازل عنه لدى النساء المتعلمات ونمو أنماط زواج بديلة خارج تدابير العائلة البطريركية..

نشاط النساء السياسي

وبالعودة إلى مدخل الكتاب، تشرح الباحثة تلك العلاقة بين تحرر المرأة والنضال القومي في الأقطار الكولونيالية، فتقول في المدخل: "أنا لا أدعي عدم وجود علاقة بين النضال من أجل تحرير المرأة واليقظة القومية في الأقطار الكولونيالية، فهذه العلاقة قائمة فعلا، لكنها في أفضل الحالات علاقة ذهنية ومزج بين الأسباب، وليست علاقة سببية، وتشير قراءة التاريخ بشكل دقيق ونقدي، سواء في الغرب، أو في الدول الكولونيالية، إلى أن مسارات كهذه لم تكن لتحدث فعليا خارج المدينة".

وهكذا أيضاً نرى في الفصل الثاني حيث يتبين لنا أن نشاط النساء السياسي وخصوصا ذلك المنضوي مع النضال الوطني والمناهض للكولونيالية لم يبدأ كما يبدو إلا في نهاية عشرينات القرن الماضي، حيث كان تنظم النساء الفلسطينيات ضمن أطر حضرية في إبان الانتداب البريطاني، وشملت هذه الأطر المنظمات السياسية والتربوية والدينية والجمعيات الرياضية وحركات الشبيبة والاتحادات والنوادي الثقافية والمجموعات العسكرية ونقابات العاملات.. فأدى مسار التحضر إلى إبراز منظومة قيمية وثقافية كانت كامنة ومكبوتة، فكان حضور النساء في الفضاءات السياسية يتأتى عبر نشاطاتهن في الحركات النسائية القوية التي أسسنها، والتي شاركت ضمن نشاطاتها في النضالات الوطنية ضد الكولونيالية.

النساء في الثقافة والترفيه والاقتصاد

تستدل الباحثة من خلال مقالات في الصحافة الفلسطينية على أن فضاءات الترفيه والثقافة العامة في المدينة الفلسطينية إبان الانتداب قد بدأت تتنوع وتختلف، فتعود إلى مقال لأسمى طوبي وهي صحافية وناشطة في الحركة النسائية الفلسطينية في إبان الانتداب البريطاني حيث تنتقد أسمى النساء الذين يتحدثن بلغة أجنبية مع أولادهن في المقاهي والحدائق العامة. ومن هنا تستنتج الباحثة أن هذه الأماكن لم تكن متاحة أمام النساء في القرى. وتعود أيضا الى مذكرات النساء المدينيات والرجال أيضا، وهن يتحدثن عن الحدائق العامة والشواطئ، والمطاعم والمقاهي والبارات وساحات الرقص.

أما المرأة في الفن التشكيلي، فاستعادت الباحثة الفنانة زلفى السعدي، وما كتب في الصحافة عن المعرض الذي عرضت فيه الزلفي أعمالها سنة 1933. وقد رسمت الطبيعة الصامتة والرموز الوطنية وأيضا الفنانة صوفي حلبي والفنانة نهيل بشارة. وتذكر أنه رغم اختلاف الآراء بشأن بداية تطور الفن التشكيلي الفلسطيني فإنه لا خلاف أنه نشأ وتطور في المدينة. أما السينما، فهناك نساء أدرن دور سينما كما كانت أنيسة زريق. وحضرت النساء أيضا في النوادي الرياضية، وفي فضاءاتهن الخاصة. 

وكان حضور المرأة مهما أيضا في الخياطة والتصميم، وفي الغناء والعزف والجناكي. وكما هاجرت النساء في فترة الانتداب من القرى الى المدن بحثا عن فرص العمل، أو برغبة التحرر من املاءات رب العائلة. ولكن على الرغم من كل ما تقدم عن الفرص الجديدة، التي بدأت تتوفر للنساء في المدن الفلسطينية، فإن الصلات والعلاقات الاجتماعية التي نشأت فيها لم تكن كلها ذات طابع تحرري وتقدمي، فظهرت ظاهرة الاتجار بالجنس وكانت مدن فلسطين وعلى رأسها مدن الموانئ مركز جذب للمهاجرين والأجانب. 

 منع تذويت الرواية الصهيونية

يواصل التأريخ الصهيوني تغييب المدينة الفلسطينية كما فعل دائما، لكن براعم التغيير قد بدأت في التأريخ الفلسطيني قد بدأت في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي. تقول الباحثة: " ونحن نشهد هذا في مسار يمكن وصفه بأنه عودة المقصي الحضري إلى التاريخ والذاكرة. عبر نشر مواد نصية وبصرية وأعمال فنية عن المدن التي كانت في فلسطين". لذلك تتابع الباحثة أن "تذويت الرواية الصهيونية يحمل الكثيرات والكثيرين على تصديق أن ما يوجد من الصلات والعلاقات المجتمعية التي تؤدي إلى تغيير العلاقات الجندرية ومكانة النساء ليست مجرد الحياة في المدينة والتجربة المعاشة الحضرية، بل الحياة بين اليهود وتأثير هؤلاء في الفلسطينيين".

وهكذا تسعى الباحثة في هذا الكتاب المرجعي المهم إلى تحطيم تلك الخرافة عبر فهم معمق للتاريخ الحضري في فلسطين الانتدابية ومكانة المرأة فيه، وذلك ما يجعلنا نبحث في الفن والأدب والتاريخ والذكريات من حولنا عن تلك المدينة الغائبة.