بين يدي النكبة: الذكرى والذاكرة

2023-05-17 16:00:00

بين يدي النكبة: الذكرى والذاكرة
Suleiman Mansour, FIRE IN THE FIELD, 2012, oil on canvas

ولما كان الحفاظ على هوية الفلسطينيين وذاكرتهم الفردية والجمعية أمراً أساسياً في سياق استدامة تفاصيل الرواية وتعزيز ركائزها وترسيخ أركان مشهدها، فقد وافق مجلس الوزراء الفلسطيني في جلسته المنعقدة بتاريخ 6 آذار 2023، على تصميم النصب التذكاري الذي حاز على المرتبة الأولى،

بالتزامن مع اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في جلستها التي عقدت يوم الأربعاء 30 تشرين الثاني 2022 خمسة قرارات بشأن القضية الفلسطينية والوضع في الشرق الأوسط، وقد كان لفلسطين نصيب الأسد بين جملة القرارات هذه وذلك بواقع أربعة قرارات اشتمل أحدها على بند متعلق بإحياء الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة الفلسطينيين، الأمر الذي أشار إليه مندوب "إسرائيل" لدى الأمم المتحدة بوصفه "أكاذيب منحازة".

السلطة الفلسطينية رحبت بهذه القرارات، معتبرة على لسان وزير خارجيتها أن التصويت على إحياء ذكرى النكبة يشكل اعترافاً أممياً بالمأساة الفلسطينية وما ترافق معها من تهجير للشعب الفلسطيني، وتحويل أكثر من نصفه إلى لاجئين في الشتات، في حين بقي النصف الآخر يرزح تحت الاضطهاد المستمر والقائم في ظل نظام فصل عنصري استعماري، معتبراً أن هذا التصويت يشكل خطوة على طريق تصويب الظلم التاريخي وجبر الضرر الذي لحق بفلسطين الوطن والشعب.

بالتزامن مع هذه التوجهات، أعلنت وزارة الأشغال العامة والإسكان، يوم الأحد الموافق 8 كانون الثاني من العام الجاري، عن إطلاق الحكومة لمسابقة تصميم نصب تذكاري تخليداً لذكرى النكبة، بناء على توجيهات من الرئيس الفلسطيني. وقد تضمن إعلان الوزارة، الذي استهدف الفلسطينيين حيثما كانوا والعرب وأصدقاء فلسطين، دعوة الفنانين والمعماريين والمصممين وطلبة الجامعات والمهتمين إلى تقديم مقترحات تعكس ما سببته النكبة من ألم، كذلك نص الإعلان على ضرورة أن تحتوي التصاميم على عناصر الرواية الفلسطينية المتعلقة بالنكبة واللجوء والنضال والأمل.

الإعلان أشار إلى أن النصب التذكاري سيقام على أرض حديقة الاستقلال في محافظة رام الله والبيرة واشترط أن تراعي التصاميم طبيعة المكان والمحيط. ومن الجدير بالذكر أن الحديقة تستقبل جمهور الزائرين وتشهد إقامة فعاليات مختلفة، وهي متصلة بفضاء العديد من المجمعات التجارية والمطاعم، ولا تبعد كثيراً عن مقر الرئاسة الفلسطينية. ما قد يحيل النصب عند اكتماله مزاراً وركيزة أساسية لمشهد الحديقة وحيوات الزوار اليومية وأنشطتهم المتعلقة بها، ويتيح إشراك وإدماج مختلف الشرائح المجتمعية في استحضار واقع النكبة وألمها المستمر بشكل دائم.    

قبل نحو عامين، التقيت صدفة بعجوز تجلس على إحدى عتبات المخيم لتلهمني أن الحياة لها بدايات ونهايات كثيرة. كانت تحكي للمتحلقين حولها قصة أجادت فيها ترتيب الكلام بطريقة تحاكي مشهدية وواقع التحدي والتصدي الذي يعيشه ويعايشه الفلسطيني أو يتعايش معه يوميا. وفي رفضٍ واضح لكل ما تزعمه قوانين الطبيعة وفيزياء الحدود وأوهام جوازات السفر، أطلقت العجوز عنان الحلم والأمل ليلامس سقف الطموح رغم الجرح ورغم الألم وضيق المساحة، لتروي للحضور قصة "ابن" لها رحل عن عالمنا فتختزل في شخصه كل تفاصيل الحضور والغياب والهجرة والبقاء.  

المنظومة الخلاقة من فوضى المشاعر المتشظية والأحاسيس غير العبثية المرتسمة على وجه الحاجة "خضرة" أو "أم صابر وأسعد" كما يطيب لها أن يناديها الآخرون، دفعتني كي أكون بين جمهور المستمعين. "صابر (إسّا) لو كان عايش، كان عمره 73 سنة..." هكذا استهلت العجوز حكايتها قبل أن تمسح وجهها وتقوم بتعديل حزام ثوب منطقة الناصرة الذي لا تعرف لها زياً غيره، وتكمل: "كان طالع (عالسّجرة) يلقط شوية لوز... كان اللوز يا دوب بلّش ينور وبعده مش عاقد منيح... قلّي: بدي ياكي تكوني أول وحدة بتذوق اللوز هاي السنة يا أمي... رفع إيده يناولني حبة اللوز وما وعيت غير عصوت (القواس)... وحبة لوز حمرا نزلت بحجري، وصابر كمان... قبل ما يقوسوه قلّي: تخليش حدا يقلع هاي اللوزة يمّا..."

صوت يهمس من الخلف "ملهاش ولاد... معندهاش ولاد..."، معلومة إذا ما كانت دقيقة فهي تحيل على أن العجوز قد أرادت أن تتحلل من ضغوط الحياة الواعية وأن تتحرر من العقلانية ومن قيود الواقع وتتحدى المنطق بطريقة سريالية تطلق العنان لاستكشاف وتحليل مضامين وتجليات الخيال والأحلام الواقعية أو غير الواقعية كي تجسد قصة ومسيرة شعب بأكمله، في مشهد لا يقل في دقته وبراعة عن رائعة المخرج الفلسطيني وليد سيف ومشروعه الروائي الدرامي "التغريبة الفلسطينية" الذي حمل في طياته وعياً ومسؤولية تجاه توثيق رواية الفلسطينيين ونكبتهم، أو عن حضور زهر اللوز الذي أعيا وصفه محمود درويش رغم فصاحته وبلاغته، ويبدو أن علاقة الحاجة "خضرة" مع الأرض والوطن واللوز متصلة ومستمرة ولها حضورها الموسمي والغرائبي.

كل عام، في وقت زهر اللوز، تجلس الحاجة "خضرة" على عتبة البيت... تطوي أوراق الذاكرة الحاضرة في نقاط وشمها الثلاث المدقوقة بعناية فائقة أسفل ذقنها... بخضابها المنقوش على يديها، تداعب وجه القمر المنعكس على صفحة ماء النبع، تتحسس فيه وجنتي أسعد، وتنفث دخان سيجارة "الهيشة" الممزوج بنغم الترويدة، "هدي يا بحر هدي... طولنا في غيبتنا..." وكم تبدو هذه العجوز قوية وعتية وعصية على الدمع إلى أن تخنقها العبرات رغماً عنها حين يقودها الغناء إلى "وبعدا أمي الحنونة بتشمشم بمخدتنا..." 

حينها فقط تدرك سر المخدة التي تصر الحاجة "خضرة" على احتضانها ودلالها، وترفض أن تغسلها منذ أكثر من سبعين عاماً، ففيها عبق الأحباب ورائحة فلذة الكبد وكل أبيات العتابا التي كان يشدو بها أسعد عند ذات الباب حيث قبّل يدها حين هم بالمغادرة للعمل في الكويت... وفجأة لا تعود العجوز تتمالك نفسها فيتعاظم الدمع ويتحشرج الصوت لتقول "وبعدو العصفور الشادي بيغرد لعودتنا..." مطوّل يما يا أسعد؟ مش إنت اللي غنيتلي "هيلا يا واسع... مركبك راجع" مش قلتلي سنتين وبترجع عشان أخطبلك جميلة بنت الجيران؟ 

ليش رحت وتركتني؟ مين بده يلقط اللوزة من بعد أخوك صابر؟ ليش ما سمعت كلامي لما قلتلك ما بدنا مصاري الغربة؟ أسعد كان ضايله أسبوع وبرجع من الكويت... الحارة مزينة وجميلة قاعدة جنبي، وفي 19/2/1965 -ولا أدري كيف قفز هذا التاريخ إلى ذهن العجوز أو ما هو سر حضوره في ذاكرتها- طلّت البارودة والسبع ما طلّ! جابولي هويته وساعته وقالوا أسعد مات بحادث سير على طريق البصرة... الدنيا لفّت في ودارت... وما صحيت على حالي غير بعد أسبوعين، ولما فقت سمعتهم بيقولوا الله يعينها، كيف لو تعرف إنها جميلة كمان تزوجت وسافرت... شو أقول غير الله يهنيها، بكرة بتجيب صبي وبتسميه أسعد!

بحثنا في أطراف المخيم عن خبر يوصلنا إلى جميلة... فلم نهتدي إليها، ووجدنا أن الحاجة "خضرة" حاضرة في ذاكرة المخيم تماماً كحضور ذكرى وذكريات وتفاصيل حياة صابر وأسعد في ذاكرتها. طفل في العاشرة أخبرنا أن جدته روت له حكاية طفلة اسمها "خضرة" وقعت على رأسها حين هربت مع عائلتها من الناصرة... فقدت العقل ولم تفقد الذاكرة! 

ولما كان الحفاظ على هوية الفلسطينيين وذاكرتهم الفردية والجمعية أمراً أساسياً في سياق استدامة تفاصيل الرواية وتعزيز ركائزها وترسيخ أركان مشهدها، فقد وافق مجلس الوزراء الفلسطيني في جلسته المنعقدة بتاريخ 6 آذار 2023، على تصميم النصب التذكاري الذي حاز على المرتبة الأولى، فيما تم الإعلان في 18 نيسان 2023 عن قرار الحكومة بتخصيص 7.5 دونم من حديقة الاستقلال لغايات إنشاء نصب تذكاري للنكبة ومتحف للذاكرة. 

ويبدو أن التفات العالم نحو مركزية وعدالة القضية الفلسطينية والإحالات الرمزية والفعلية التي قد يجسدها النصب التذكاري الذي تعتزم الحكومة الفلسطينية إقامته -والذي يظهر أن أعمال الحفر والتجريف وتجهيز الموقع المخصص له قد بدأت بالفعل- وما قد يحتضنه من فعاليات وممارسات تساهم في تكريس الرؤية والرواية الفلسطينية لدى الأجيال والأطياف المجمتمعية المختلفة، يشكل تأكيداً على رمزية الفعل المقاوم وتجسيداً للحضور المستمر والمتصل للقضية الفلسطينية وأحقية هذا الشعب وحقه في "الاستقلال" والوجود على أرضه وإصراره على استعادة حريته ومقدراته التي لا يزيلها امتداد الزمن ولا يمحوها أو يلغيها تراكم السنين.