الفن النسوي سجين بين المقاومة والتمويل

2023-08-15 05:00:00

الفن النسوي سجين بين المقاومة والتمويل
العمل لفاطمة مرتضى، فنانة تشكيلية لبنانية

عالم التمويل مليء بالتحديات، وليس من السهل تقديم مساحة آمنة للتعبير والمساعدة على الظهور والوصول دون الاضطرار إلى تعديل رؤى الفنانين ومشاركاتهم. بكل بساطة "سترددون أجندتي وأيدولوجيتي الخاصّة فأنا صاحبة المال، أيّ التمويل أولًا ومن ثم القضية البيضاء.

نظراً لتاريخ النزاعات بين الأجندات الكولونياليّة، والأجندات القوميّة المضادة للكولونياليّة، كان يستحيل عادةً استنباط أيّ نقاشات بشأن ممارسات الثّقافة الأصليّة التي كانت تؤثر سلباً على النساء بسبب هذه الخلفيّة السياسيّة، والخطابيّة المشحونة بالنزاع. كانت أيّ نقاشات جادة بشأن تأثير هذه الممارسات على النساء، لا تكاد تفلت من التورط في الصراعات بين الكولونياليّة البيضاء، والقوميّة. وقد جعل هذا الموقف النساء عرضة للاستقطاب من كلا الأجندتين. حيثُ كانت النقاشات بخصوص الممارسات الإشكاليّة المؤثرة على النساء تتحوّل إلى رهائن خلافية خطابيّة، واستعراض للعضلات الثقافيّة، عن التفوق الأخلاقيّ النسبيّ للثقافة البيضاء.

يشير بارتا تشاترجي (Partha Chatterjee)، المنظّر السياسي، وعالم الأنثروبولوجيا من جنوب آسيا، إلى أنَّ "قضية النساء" في الهند مثلًا، تحديدًا في القرن التاسع عشر، لم تكن مرتبطة بوضع النساء في مجموعة محددة من العلاقات الاجتماعيّة، بقدر ما كانت مرتبطة بالمواجهة بين دولة كولونياليّة ذات الممارسات البيضاء، وبين ما يُفترض أنهّا تقاليد الشعب المُستعمَر. عادةً ما كان الغضب حول خلافات "ثقافتي أفضل من ثقافتك"، بين الحكومات الكولونيالية ذات طابع ذكوري وتفوق أبيض، وبين الحركات القوميّة في العالم الثالث ذات أغلبية ذكورية، تغطّي على حقيقة أنَّ النساء كنَّ مواطنات من الدرجة الثانية في كلّ هذه السياقات .

ولعبت الجنسانيّة دورها كـ"خادمة" لأيديولوجيّات الإمبراطوريات الكولونيالية، والحركات القوميّة في العالم الثالث، حيث ساعدت في وضع النساء الغربيات والملونات، ضد بعضهنّ البعض كتجسيدات ثقافيّة متنافسة للأنثويّة والفضائل السليمة. وفي الوقت عينه، لعبت الكولونيالية، والقومية كلاهما في بناء الأدوار الجنسانيّة سواء في الدول الغربيّة، أو في المستعمرات، وبنتائج متشابهة وبشكلٍ مفاجئ أحياناً. فتحمل المرأة الهنديّة في الخطاب القومي تشابها صادماً مع خطاب "المرأة الفيكتورية"، ليس فقط فيما يتعلّق بـالاحترام ودماثة الخلق، وإنما أيضاً في التباين الصريح بينها وبين أخواتها الخشنات الفظات من الطبقات الدنيا!

ويؤخذ برنامج "تشويش" التابع لمعهد جوته، الذي كانت أحد أهدافه، مقاومة احتكار الرجال للفنّ، وتغيير الصورة النمطية للنسوية العالمية مثالًا على ذلك. فقد شددّ اتباع هذا البرنامج ومنسقوه، على عدم استخدام أي نموذج نسويّ غربي، لكن في الوقت عينه وبحسب رأي منسقّة العروض الأدائية "نجمة حاج"، لم يناقش هذا البرنامج أي قضية محورية تخصّ البلدان التي شاركت من شرق أفريقيا، كقضية نقص الموارد، العمالة المنزلية، الحروب الموجودة ونتائج تفسّخ شبكات الدعم الاجتماعي.

ما هو الفنّ؟ وكيف يخرج من دائرة التعبير عن الأصالة المزيفة (الأوثينتك الميديوكيرتي)؟

يُعرّف رانسير الفيلسوف الفرنسي، الفنّ بأنه في "إطار النظام الجمالي يعدّ بالضرورة سياسيًّا." فلا مشكلة في الأدلجة بل في القيود التي يتعرض لها الفن إثر تحكّمات الممولين/ات ، والمنظمات النسوية الفنية غير الربحية. فهل يُعتبر ما تنتجه المعارض، والورش أسلوب مقاومة، أم كيتشًا عالميًا؟ أو نوعًا من البروبغاندا؟ حسب تعريف كلّ من غارث غويت وفيكتوريا أودونيل، في كتابهما «البروباغندا والإقناع»، حيثُ أنَّ البروباغندا محاولة متعمَّدة وممنهَجة لتشكيل الإدراك والتلاعب به، وتوجيه السلوك نحو تحقيق استجابة معينة لتحقيق أهداف منشودة؟

يعدُّ "الشيء" لـجاك رانسير عملًا فنيًّا إذا كان ينتج تصورًا جديدًا للعالم. ويمكن وصفه بأنه دمج لثلاث عمليات أو ثلاث خطوات: فهو ينتج شكلًا حسيًا للغرابة، ويُطور الوعي السياسي للعقل بسبب هذه الغرابة، ويعبئ الأفراد سياسيًّا نتيجة لهذا الوعي. ومن ثم، يجب وصف التأثير السياسي للفن في هذه الشروط (المصطلحات). وفي السياق، فإنَّ هذا "الشكل الحسيّ للغرابة" يظهر بوضوح في نصوص رانسير التي تتناول الفن السياسي. ويسميه رانسير "فاعلية الانشقاق" وهو نوع معين من الصراع بين الإحساس والمعنى: "ويعد الانشقاق صراعًا بين المظهر الحسي وطريقة فهمه، أو بين عدة أنظمة حسية و/ أو هيئات". وليس الهدف من الفن السياسي، كما يوضح جوزيف تانكي، الفيسلوف الأمريكي، مجرد تغيير النظم السياسية بل تغيير معنى الحياة. وبعبارة أخرى، يجب أن يبدع العمل الفني خبرة جديدة تميز نفسها تمامًا من خبرة الحياة اليومية؛ ويقدم خبرات «تختلف اختلافًا جذريًّا عن التنظيم اليومي للحس».

في سياق متصل، لا تسعى تلك المنظمات النسوية الممولة، إلى تغيير حقيقي، ذلك لسبب استمرارها في سياسة الاستجداء والتعاطف والشفقة وتثبيت دور الضحية. فقد نظمت مؤسسة "كارفان "النسوية معرض على شرف كتاب "الدعوة للعمل: النساء، الدين، العنف، للرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر. وقد ضمّ المعرض ٣١ فنانة في المتحف الوطني بعمّان، وبرزَ اختلاف تعريف الفنانات عن أنفسهنَّ و أعمالهنَّ تبعًا لجنسيتهنَّ و هويتهنَّ.

هيلين زغيب، الفنانة التشكيلية الأمريكية تصف عملها بأّنّه استلهام من قوة المرأة ورونقها، بينما البحرينية نبيلة الخير، التي تمثل المرأة كقوة تاريخية قومية، وضحية تاريخية فى آن واحد، تصف عملها بأنه تعبير عن التراث البحريني الفني الذي يعود إلى ٣٠٠٠ ق.م. وتتجنب الفنانة العراقية بالا أحمد من أن تطلق على نفسها "نسوية"، وتتهمّ الجمعيات والمنظمات النسوية غير الحكومية في العراق بأنها غير صادقة، إذ إنّها عملت على امتصاص مبالغ ضخمة من المال مع تأثير لا يذكر على النساء أنفسهنّ. 

وتختلف الفنون النسوية فى الغرب تمامًا، فيكفي إلقاء نظرة إلى عنوان معرض متحف الفن المعاصر شمال ميامي 2016، و معرض بنيالى برلين 2018، "لا نحتاج لبطل آخر"، ليظهر اختلاف التوجهات التى تعرضها تلك النسويات البيض بين أوطانهنَّ، وبين دول العالم الثالث.

مثال آخر، يمكن ذكره، وهو مشروع "بلاصتي" الصادر بدعم من جمعيات ألمانية كـ social vision، مع المؤسسات التونسية والذي يضمّ فتيات ونساء من كافة الأعمار. ويسعى المشروع على حدّ تعبيرهم إلى "تمكين المرأة التونسية" والتعبير عن علاقتها بفضاءها ومكانها الخاص باستخدام "التصوير الفوتوغرافي"، حيثُ تعتبر مثلًا الدكتورة مريم ستوك، المستشارة البيداغوجية لمشروع "بلاصتي"، مع شريكتها المصورة آنيا بيتش أنَّ هذه المبادرة تساعد المرأة التونسية على انخراطها في محيطها وفضائها العام. وكأنَّ "النساء التونسيات" مفصولات عن أمكنتهم ويأتي هذا المشروع "المُخلّص" لهنَّ كيّ يتمكنوا من فهم ما يدور حولهنَّ، طبعًا وفقًا لشروط التمويل، وبعيون المشروع فقط.

رقابة الممولين الداعمين

تتدخّل تلك المنظمات في الفنون من خلال فرض الرقابة، أو الدعم للقيمة الفنية ذاتها، أو من خلال التوظيف في الدعاية السياسية، والتعبير عن الأيديولوجيا السياسية لها.

لكنَّ الشرط الضروري "للفن السياسي" هو: أن يكون معناه خفيًّا، و يجب ألا يكون متوقعًا. ولا يمكن أن تكون هناك أي خطوط إرشادية للفنان عن كيفية إبداع الفن السياسي. ويعدّ، على سبيل المثال، خطأً شائعًا بين الفنانين وجود افتراض أساسي بأن "الفن يجبرنا على التمرد عندما يُظهر لنا الأشياء الثائرة".

 أما رانسير يؤكد أنَّ كون الفن فعلًا سياسيا ظاهريا ، فذلك لا يجعله مؤثرا بشكل واضح فى العالم من حولنا حتى لو كان عملا نابع من فهم للقوى العالمية، لأنَّ فهم العالم يحثّ على تغييره و غياب ذلك الشرط حاليًا، يؤكد عدم قابلية ذاك الفن الناقصّ الى التغيير او التأثير. 

تمتد نفس السياسة إلى عوالم الفنون التشكيلية النسوية بأنواعها. ففي هذا السياق، تتحدث مسؤولتا منصة "haven" النسوية الفنية في لبنان دينا أش، وياسمين رفاعي، عن كيفية دمجهم للنساء والكويريين والفئات المهمشة في المجتمع فنيًا ودعمهم، مع التأكيد على "قاعدتنا الصارمة الوحيدة هى أن يتبع الفن و الفنانين إرشادات ومبادئ "هافين" فيما يتعلق بالوعي في السياسة الاجتماعية، والصوابية السياسية" معللّات ذلك بجهد التمويل، إذ إنَّ "عالم التمويل مليء بالتحديات ومن الصعوبة تقديم مساحة آمنة للتعبير، والمساعدة على عرض الأعمال والوصول إلى النجاحات والشهرة دون الاضطرار إلى تعديل رؤى الفنانين." 

عالم التمويل مليء بالتحديات، وليس من السهل تقديم مساحة آمنة للتعبير والمساعدة على الظهور والوصول دون الاضطرار إلى تعديل رؤى الفنانين ومشاركاتهم. بكل بساطة "سترددون أجندتي وأيدولوجيتي الخاصّة فأنا صاحبة المال، أيّ التمويل أولًا ومن ثم القضية البيضاء.