هل تألمت يا عزيزي؟ هل ودعت أبناءك؟ هل سامحتنا لأن حبنا لك بقي أقوال وليس أفعال..؟ أتمنى أن تكون استشهدت وأنت نائم..فتحت عينيك فوجدت نفسك في الجنة مع زوجتك وأطفالك، لأنك تستحقها، فإذا لم تكن الجنة لطيبتك الفادحة، فلمن ستكون إذن يا علي..؟
كيف يمكن لبلد في ذاكرتك أن تقترن بشخص ما إلى حد أنك حين تتذكرها، يأتي وجهه لعينيك، وحين تتذكره تشم بحرها وشجرها، هذا هو علي وهذه هي غزة، كنا نعرفه بعلي فقط ونناديه "يا علي"، واليوم عرفه كثيرون باسمه الكامل علي الشعراوي.
كان كل شيء في مقهى مزاج؛ المحاسب والنادل وصديق الجميع، والمستمع الجيد، وخير صانع للقهوة، وأحيانًا يغش ليقول لك مكونات السلطة الوحيدة التي نحبها.
يحمل همومه على كتفيه ولا يمكن أن يشكيها لأحد، عائلته وأبنائه وراتبه القليل، وحقوق لم يحصل عليها من وظيفة قديمة، أغلب رواد المقهى أصدقائه لكن مستحيل أن يثقل عليهم، بل يضحك دائمًا، يداعب الكل، يحب الصغار ويحبونه، أنيق ومؤدب، ولا يزعل من "زبون" مهما كان يستحق ذلك.
أتذكر مرة قلت له يا علي "كتابي راح ينزل بالسوق وأوعدك إذا نجح راح نتقاسم الأرباح" ضحكنا كثيرًا ولم أكن أعرف أنها آخر الضحكات معه، فقد هجرت البلاد، وكتابي لم يحقق مبيعات يا علي، بل بدأت أبحث عن عمل في مقهى أيضًا، لكني لا أصلح، فلست بمثل خفة دمك، ومرونتك مع الجميع مثل فراشة تمر بين الطاولات.
لقد كنتً فراشة فعلًا يا علي، مرت بحياتنا ولم نعرف أنها ستتمزق بقصف إسرائيلي غاشم لغزة حيث استشهد معك أبناؤك وزوجتك، من كنت دائم القلق عليهم.
ارتحت يا حبيب، والله ارتحت..لكن نحن نتألم، جميعنا، آلاف يتألمون على فقدانك، كم نحن أنانيون، كم غبنا ولم نسأل عنك..سامحنا يا صديقي، سامحنا يا علي..أخذنا الموت والألم ونسينا الأحياء حتى ماتوا.
أرجوك يا صديقي.. كم أتمنى لو أنك لا تعتب علينا، لكن لو فعلت فنحن نستحق، لأن كل ما فكرنا به طوال تلك السنوات أننا نريد العودة لغزة كي نراك يا علي، نراك مع رائحة القهوة بالهيل الغزية المفضلة، أو قهوة الفلتر الخاصة، أو الأمريكانو… فلا طعم للقهوة دون ضحكتك خلف دخانها..ولا مزاج دون هيئتك خلف واجهته الزجاجية في شارع الرمال الرئيسي.
أنت موجود في الصيف والشتاء، والصباح والمساء، لا نعرف متى ترجع للمنزل يا علي، كأنك تعيش هناك، تعيش لنا، تنتظرنا..لم نهتم ..لم نسأل، ربما بعضنا فعل.
إلى درجة حين عرفنا أنك استشهدت اليوم، أخذنا نسأل بعضنا "وين استشهد؟ هو وين بيته؟"، وين بيتك يا علي؟ سؤال متأخر، أسئلة ما بعد الموت؟ أصعبها. تبقى دون إجابة...
حين كنت تغيب يوما، يصيبنا النكد كبرجوازيين، نستغرب حتى كيف يمكن أن تكون إجازة، لكن ليس لأننا مدللين بل لأننا نحبك، هكذا حب كبير وممتد وشاسع ..
نحبك يا علي.
والبلاد ليست هي بغيابك.
هل تألمت يا عزيزي؟ هل ودعت أبناءك؟ هل سامحتنا لأن حبنا لك بقي أقوال وليس أفعال..؟ أتمنى أن تكون استشهدت وأنت نائم..فتحت عينيك فوجدت نفسك في الجنة مع زوجتك وأطفالك، لأنك تستحقها، فإذا لم تكن الجنة لطيبتك الفادحة، فلمن ستكون إذن يا علي؟
ياريت الأجساد لا تتألم يا علي، ياريت كل هؤلاء الجرحى لا يأنّون، لو أن خلايانا ليست بها نهايات عصبية، فتصبح هذه الجروح والأطراف المبتورة والرؤوس المشجوجة كنسمة هواء على حامليها، كيف لهذا العذاب من القصف والخوف والقتل أن يزيد مع ألم المصابين؟، لماذا كتب علينا أن نتألم من أجسادنا؟ لماذا لم نكن من الشمع أو الجبس؟
الحمدلله لم تعش الألم هذا، لم تركض من مستشفى لأخرى كي تعالج ابنك فتجد أن غزة بلا مستشفيات، بل حتى بلا شوارع، بل لا تستطيع حتى أن تخرج رأسك من النافذة لثانية، الحمدلله أنك لم تعش كل عذابات اللاحقة للإصابة وفقدان المحبين، فالمحبين فقدوك والألم لا يطاق.
الحمدلله أنك لم تنتظر البحث عن عمل وبناء منزل جديد و20 سنة حتى تعمر غزة مرة سادسة، وطوابير بدل الإيجارات للبيوت المقصوفة من الوكالة، وبدل إصابات من الإمارات وبدل شهداء من قطر، الحمدلله يا علي مت عليًا ..لم تذل؛ واقفا شامخا مبتسما، لا تقول همومك لأحد.
حتى أحلامك لا يعلم بها سوى القليلين بأن يكون لديك مقهى صغير يجتمع فيه مريدوك يا علي.
لكنك لا تعرف أنك لا تحتاج إلى مقهى. لقد ملكت غزة كلها، فكلما تذكرناك حنينا إلى غزة وكلما حنينا إليك تذكرناها.
هي قلوبنا مقهاك الأبدي يا علي.