وينطلق الفصل الثاني عشر من كون المناهج التطورية العربية لم تجد حتى اليوم موطئ قدم ومكانة يليقان بها لأسباب، منها عدم استيعاب هذه المناهج واختزالها في النظرية الداروينية بحمولات دينية وأيديولوجية، وضعف حركة الترجمة، وغياب شروط التراكم العلمي الأهلي،
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب "سؤال المنهج في الأبحاث الاجتماعية: مقاربات متعددة الاختصاصات"، ويحتوي على ثلاث عشرة دراسة لثمانية عشر باحثًا من المغرب وتونس والجزائر وفلسطين، متخصصين في مجالات الاقتصاد، والتاريخ، وتاريخ الأفكار، وعلم النفس المعرفي، وعلم نفس العمل، وعلم نفس التنظيمات، والجغرافيا، والموارد المائية، والنقد الأدبي الحديث، والهجرة الدولية، والفكر العربي المعاصر، والمسارات الانتقالية العربية، وإشكالات التحول الديمقراطي العربي، والتراث العربي والإسلامي، والعلوم العرفانية، ودراسات الظاهرة الدينية، وتجديد الدراسات الفقهية، وعلوم المياه، وتنمية المجالات الغابوية، ولغات الشرق القديم وحضاراته، واللغات السامية القديمة، واقتصاد المعرفة، ونظريات العدالة والديمقراطية، واللسانيات، وعلوم البيئة. تولى مراد دياني تحرير مادة الكتاب، وهو يقع في 520 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
إنّ إشكالية القضايا المنهجية في العلوم الاجتماعية والإنسانية قديمةٌ قِدَمَ العلوم. والعلوم الاجتماعية والإنسانية وإن تشكل كلٌّ منها باستقلالٍ عن البقية في الماضي، وبلغت في سبر تعقيد ظواهر المجتمع وناسه حدَّ إنتاج نظام معرفي خاص بكلّ اختصاصٍ فيها، فقد ترافق تطورها هذا مع ازدياد أهمية الأبعاد الإبستيمولوجية والمنهجية وتشعّبها وتداخلها في مقاربات عابرة للتخصصات. وقد جاء كتاب سؤال المنهج في الأبحاث الاجتماعية – مقاربات متعددة الاختصاصات ليساهم، من خلال بحوثه المتعددةِ الحقول، في محاولة حلّ إشكالية مناهج البحث، وتجديدها ومواكبة تغيراتها الذاتية والتغيرات في محيطها، وتفاعلها مع مواضيع دراساتها المتحركة دومًا ومع بقية الحقول المعرفية.
يسلّط الفصل الأول الضوء على الاكتشافات الأثرية في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وخصوصًا مدونات النقوش التي اكتُشفت في العقود الأربعة الماضية، بوصفها مكمِّلًا أساسيًّا لدراسة موروث اللغة العربية وتاريخها المبكر، وكذا اللغات الساميّة. ويُبرز الفصل محدودية دور الباحثين العرب ذوي السيطرة شبه التامة في هذا المضمار، بسبب اتجاههم التقليدي الذي لا يعتمد النقوش والمدوّنات الكتابية لأهل الجزيرة قبل الإسلام، اللتين لا يمكن دراسة التاريخ المبكر للغة العربية من دون الاعتماد عليهما. وبالتشديد على أهمية دراسة سياقَي اللغة العربية التاريخي واللغوي في بوتقة واحدة مع أخواتها الساميّة، يقدّم الفصل عدّة نماذج منهجية يمكن أن تشكّل مدخلًا لدراسة تاريخ اللغة العربية والساميّات.
أما الفصل الثاني، فيتناول المادة الاصطلاحية النقدية العربية القديمة إطارًا، لدرس إشكالية منهج معالجة بعض النقاد العرب المعاصرين للمصطلح النقدي القديم. ويُبرز إفضاء مسالك البحث المنهجية إلى تفاوت مستوى قراءته المنهجية بين التوجه التأريخي المعتمِد للمنهج الوصفي، والتوجه التنظيري المعتمِد للمنهج "المتصوري" لبنيته؛ ما مكّن النظام الشبكي مِن شدّ المادة الاصطلاحية النقدية القديمة، وإبراز القيمة المعرفية للجهاز المصطلحي المشكِّل لخطاب النقد الأدبي عند القدامى. ويخلص الفصل إلى أنّ إشكالية المنهج في معالجة المصطلح النقدي ستظل قائمة، ما لم تتضافر جهود النقاد والباحثين لاكتشاف "مداخل جديدة" وسبل غير مطروقة في قراءة تراثنا النقدي.
يستعرض الفصل الثالث ظاهرة تنامي النتاج العربي في حقل اللسانيات ترجمةً وتأليفًا، ويتساءل عمّا يقف وراءها، وقيمتها تصوريًّا ومنهجيًّا مقارنةً بالكوني. ويبرز أهمية جعل التأمل الفكري معرفة علمية كما في لسانيات فردينان دي سوسير، ويستعرض لسانيات عربية تحاول إبراز ريادة التراث اللغوي العربي وأسبقيته المعرفية من دون اعتبار اللسانيات علمًا إنسانيًّا أو نشاطًا تحليليًّا لبنى الألسن. ويشدد الفصل على أنّ إعادة فهم التراث يقتضي الوعي بلحظاته التاريخية الفاعلة، وضرورة التمييز بين موقفَين للتعريف به: حضاري يسمح بإبراز مساهمة الذات العربية في مسار المعرفة الإنسانية الطويل، وعلمي يرى فيه منظومة معرفية محدّدة بإطارَين: تاريخي وثقافي. ويخلص الفصل إلى أهمية إعمال فرضيات اللسانيات على العربية، باعتبارها ثقافة إنسانية كونية، تتخطى التعامل مع نظام العربية إلى المظاهر الاجتماعية والنفسية والأنثروبولوجية المصاحبة للنشاط اللغوي.
يعرض الفصل الرابع لإشكاليات متعلّقة بالتصوّف في العمل المعجمي الذي يتناولها، في ظلّ "فردية" التجربة الصوفية و"جوّانيتها": ففي المعجم العام يُكتفى بوصف دلالةِ مفردةِ التصوّف العامة من دون تدقيق في المعاني، وفي معجم المتخصّصين، يجب تتبّع كلّ تصوّرات الدلالة تفصيليًّا. ويخرج الفصل باستنتاج مفاده أنّ المعجم التاريخي للتصوّف هو الذي يمكنه أن يتوجّه إلى المدوّنة بخطى مطمئنة، تثلج صدور المتخصّصين في التصوّف والفلسفة وعلم الكلام والفنون والعلوم الأخرى، ومن شأنه أيضًا أن يكون داعمًا مؤسَّسًا ومؤسِّسًا لمعجم اللغة التاريخي، من حيث عدم تشتّت الجهد المعجمي.
الفصل الخامس يعالج إشكاليات النزعة الكمية في العلوم الاجتماعية، وإن كانت محاولةً للّحاق بالعلوم الطبيعية أم أنّها في جوهرها دراسات نوعية. ولذلك يشتغل بمفهوم "نمط التديّن" كما صاغه عزمي بشارة في كتابه الدين والعلمانية في سياق تاريخي، وعلى "المؤشر العربي" الذي يصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات حول الشأن الديني في البلدان العربية، ويرى أنهما يشكّلان معًا أنموذجًا لفهم الظاهرة الدينية في المجتمعات العربية. ويبحث الفصل عدة تطبيقات لأجرأة نمط التديّن عند بشارة في قراءة معطيات المؤشر العربي الكمية المتعلّقة بمسائل الدين والتديّن. ويخلص الفصل إلى أهمية المعطيات الكمية التي تفرزها عمليات قياس اتجاهات الرأي العام في سياق مقاربة ظاهرة التديّن ومكانتها وفاعليتها في الشأن العام في المجتمعات العربية الراهنة.
ويتعرض الفصل السادس لصعوبات الفقه الإسلامي المعاملاتيّة، المتمثّلة في استحالة استمرار ممارسة المنظومة الفقهية الوسيطة السلطةَ على المعاملات الحديثة، وعجز المنهج الأصولي "الكلاسيكي" عن توليد أحكام مناسبة للعصر، وفوضى "التمذهب"، وتراجع جاذبية "المرجع الفقهي الإسلامي" في الأوساط القانونية، ومحدودية مشاريع التجديد الفقهي وغيرها. ويتناول مسألة تعثّر تحقيق التجديد الفقهي انتقالًا نوعيًّا في الرؤية والمنهج يناسب حجم الانتقال في نظام معاملات الدول الإسلامية المنخرطة في الحداثة، مقترِحًا "أصولًا جديدة" ترى أزمةَ الفقهِ أصوليةً بالأساس، وتتعلق باستعمال أدلة الكتاب والسنّة في بناء الأحكام، وهو منهج الإمام الشافعي. وهي أزمةٌ يرى الباحث أنها ترجع إلى تجاهل أصول الشافعي نظرة الإسلام إلى الحياة. ويعرض الفصل أخيرًا ما سماه "فقه القيم" بوصفه طرحًا جدّيًّا لتجاوز أزمة الحداثة القانونية، وباعتباره يحقق قيم العقل والفطرة التي يحتفي بها الإسلام.
ينقلنا الفصل السابع إلى عوالم الجغرافيا وسؤال تموضعها بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية وإشكالية المنهاج العلمي فيها. وبعد عرض وضعها "المتذبذب" بين المقاربتين الطبيعية والاجتماعية الإنسانية، يسلّط الفصل الضوء على "العوز الإبستيمولوجي" لدى الجغرافيين، وعدم اهتمامهم بقضايا الإطار النظري المهيكِل لتفكيرهم. ويخلص الفصل إلى أن رفع درجة علمية المنهاج الجغرافي يتطلب تمتين الجغرافيين لجسور الحوار مع الفلسفة والتحليل الإبستيمولوجي العام والمشترك، وفي الوقت نفسه الخاص الموجَّه نحو دراسة مشكلات علم الجغرافيا.
ويعرض الفصل الثامن الإشكال المنهاجي في علم الجغرافيا، بطرح سؤال "التكامل المنهجي" وأهمية توظيفه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإن كان من شأن انفتاح علم الجغرافيا على تخصصات أخرى تحقيق التكامل المنهجي في البحث. ويؤكد أنّ هذا المبدأ هو أنسب الخيارات في تناول الظواهر السوسيومجالية، لتأسيس نموذج فكري، يرتبط بتحليل الواقع بعيدًا عن التجريد والتكهن. ويخلص الفصل إلى أن الوقت قد حان ليمارس البحث الجغرافي نقدًا ذاتيًّا لكل النماذج والتجارب المنهجية، عبر تبنّي خيار التكامل المنهجي والمعرفي والتقاطعات بين مختلف التخصصات العلمية في أفق بلورة مناهج البحث العلمي وتطويرها، ولكن من دون تذويب كنه علم الجغرافيا وإفقاده خصوصياته المعرفية والمنهجية.
في الفصل التاسع يُطرح سؤال منهجي عن المقاربات الجغرافية للمجال المحلي أو الجهوي في المغرب، في إطار ملاحظة أن البحوث والأطروحات الجامعية، دراساتٌ مونوغرافية و/ أو تفريغُ نتائجِ بحثٍ ميداني، تنتهي عادةً باستنتاجات وتوصيات. ويقدّم الفصل منظورًا خاصًّا للبحث الجغرافي في مجال التنمية الريفية هو "مقاربة نقدية" ترى هذا المجال "منظومة متكاملة" مشكَّلة من سياق تاريخي وروابط وعلاقات وهيمنة معرفية كونية لا تعترف بالخصوصيات، وتعتبر المجال/ التراب ملكًا للجميع، وتحقيق "العدالة الاجتماعية" غايةَ العلم في المقام الأول.
الفصل العاشر يناقش إشكالية المنهج التجريبي بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية التي تهتمّ بدراسة الإنسان، لتوضيح مساهمة البردايم في تغيير موضوع البحوث، وتطوير تقنياتها، مفترضًا أنّ اختلاف التخصصات والتقنيات التجريبية يفضي إلى نتائج متشابهة عند الاشتغال بالبردايم نفسه. وبالاستناد إلى خلفيتين سيكولوجية وعصبية، يحدّد الفصل هدفين للمناقشة: تشريح الأساليب المنهجية الحديثة للكشف عن الكفاءات المبكرة لدى الرضيع في غياب اللغة، وبيان كيفية تطور العلوم المُفضي إلى انبثاق تخصصات جديدة أو انصهارها في علم جديد، وكيفية ترافُق التغيّر المنهجي مع تغيّرات في الموضوع. ويخلص الفصل إلى الحاجة إلى تطوير لغة للتعبير العلمي، بعد أن أضحت أشكال التعبير الأخرى تعطّل تفكيرنا أكثر، وباتت الهوة أكبر بيننا وبين المجتمعات "المتقدمة" في هذا المجال، لتنضاف إلى التخلف الاقتصادي والاجتماعي وغيرهما.
ويتناول الفصل الحادي عشر الخصوصية الثقافية للظاهرة الإنسانية من خلال نموذج علم النفس، مبرزًا أنّ التعامل مع العلوم الإنسانية معرفيًّا وإبستيمولوجيًّا بمنطق الخصوصية الثقافية لن يساهم في تطوير هذه العلوم في مجتمعاتنا العربية، مع خطر تعطيل فاعليتها تطبيقيًّا. ومن ثمّ يطرح الفصل سؤالًا عن جدية فكرة الخصوصية الثقافية مع انخراط الباحثين والمشتغلين في مختلف المجتمعات، بدءًا بأوروبا ومرورًا بالأميركتين الشمالية واللاتينية ووصولًا إلى آسيا، في مسيرة تطوير هذه العلوم باعتماد الأطر نفسها، من دون أن تَحول الانتماءات الثقافية لكل مجتمع دون ذلك. ويخلص البحث إلى أنّ اندماج مساعينا العلمية في بوتقة المساعي العلمية العالمية ليس ممكنًا فقط بقدر ما هو ضرورة، إذا أردنا إرساء مشاريع العلوم الإنسانية وتطويرها في المجتمعات العربية.
وينطلق الفصل الثاني عشر من كون المناهج التطورية العربية لم تجد حتى اليوم موطئ قدم ومكانة يليقان بها لأسباب، منها عدم استيعاب هذه المناهج واختزالها في النظرية الداروينية بحمولات دينية وأيديولوجية، وضعف حركة الترجمة، وغياب شروط التراكم العلمي الأهلي، وغيرها من المعوِّقات التي يشترك بعضها مع نظيرات له في العالم، بينما يكتسي بعضها الآخر خصوصية عربية. ويشرح الفصل تمايزات الأفكار التطورية في العلوم الاجتماعية والإنسانية عن منشئها البيولوجي، وتمايزات مدرستَيْها اللاماركية والداروينية، والنظر في آلياتها ومناهجها. ويعرض نماذج تجسّد المناهج التطورية وأهم تطبيقاتها في مجال الاقتصاد التطوري، من قبيل المعرفة والابتكار والإبداع. ويخلص الفصل إلى أنّ للمناهج التطورية أهمية كبرى في فهم ظواهر اجتماعية، كالانتقال الديمقراطي، والتحولات الديموغرافية، والانتقال إلى اقتصادات المعرفة، وغير ذلك من الظواهر الاجتماعية المعاصرة.
في الفصل الثالث عشر والأخير، يُسلَّط الضوء على تقلّص الهوة بين الأبحاث العلمية وصنع السياسات العامة وتنفيذها في ميدان العلوم الطبيعية، في مقابل تعثر عملية تفعيل العلوم الاجتماعية في البلدان النامية؛ ما أسفر عن جدل واسع حول مكامن الخلل وتقصير المعنيين. وهو جدل يكتسي أهميةً خاصة في الوطن العربي في ظل تخبّط العلوم الاجتماعية، والهوة الواسعة بين طموح الأكاديميين والسياسات العامة، ومدى مسؤولية البعد المنهجي عن ذلك. كما يعرض الفصل لـ "الوصفات المنهجية" التي يمكن اعتمادها لجسر هذه الهوة، مثل مراجعة أساليب الأبحاث الاجتماعية وأنماطها، ووضع آليات لتسويق مخرجات الأبحاث وتقريبها من صنّاع السياسات العامة، وتشجيع ثقافة الأبحاث التشاركية لباحثين في العلوم الاجتماعية وصنّاع السياسات العامة. ويخلص الفصل إلى توصية تؤمّن تأثير الأبحاث الاجتماعية في السياسات العامة من أربعة عناصر: السياق العام للأبحاث، والأدلة، والروابط، والأخلاق.