أخرجوني وأوقفوني على بعد عدة أمتار من باب الجناح، ثم أحضروا أخي. هو أصغر مني بثماني سنوات، وربما يعتبرني قدوته النضالية، لذلك قررت أن أتحكم بمشاعري، فلا أسمح لأي إشارة يمكن أن يفسرها على أنها ضعف.
يبدو أن إعادتنا إلى سجن تدمر لم تعد مطروحة، ولهذا نقلونا إلى الباب الأسود الموجود في الطابق الثالث أيضاً. في الواقع هو أربعة مهاجع مقتطعة من بداية الجناح ب يمين، يفصلها جدارعن المهاجع الستة الباقية والملحقة، عبر كوريدور في آخرها، بالمهاجع العشرة الموجودة وراءها في الجناح ب يسار. أما اسمه "الباب الأسود" فربما لأنه مغطى بصفيح أسود على خلاف أبواب الأجنحة الأخرى المكونة من قضبان حديدية غليظة، لا تمنع رؤية الكوريدور الممتد على طول الجناح، ويتحرك فيه السجناء طوال النهار.
يبدو أن هذا الجناح المختصر مخصَّص للسجناء الخطرين أو السريين أو المعاقبين.
نوافذ كوريدور الباب الأسود تطل على باحة التنفس. صحيح أنها عالية جداً، ولكنها لم تمنعنا من إسقاط رسائلنا عبرها، ليلتقطها بعض الشباب المسجونين مع الإخوان المسلمين، فهم غير مراقبين في الباحة، لقناعة الإدارة أن التواصل إذا حدث فلن يكون بيننا وبينهم، بل بيننا وبين رفاقنا، الذين بقوا بعيدين عن النقطة الواقعة تحت نوافذ الباب الأسود.
رفاقنا هم الذين أخبرونا أثناء نزولنا إلى محكمة أمن الدولة بأن من يتواجد تحت مرمى نوافذ الباب الأسود خلال التنفس هم شباب موثوقون، وقد كانوا صغاراً دون السن القانوني عند اعتقالهم بتهمة أعمال الشغب في مطالع الثمانينيات.
مع تكاثر وتواتر أخذنا كمجموعات إلى المحكمة، صارت إدارة السجن تتساهل حيال تجميعنا معاً في ساحة السجن أو في إحدى القاعات، فنتعارف ونتحدث ريثما ترتب الإدارة الإجراءات ( السيارة وأفراد الدورية المسلحة التي سترافقنا، والجنازير و "الكلبشات" الفردية).
في إحدى المرات أخذوني أنا وسمير الحسن من أجل المحكمة. على مشارف ساحة السجن شاهدت صديقي تركي مقداد برأسه المرفوع ونظاراته السوداء.
(تركي كفيف البصر وممتد البصيرة، علاقتنا قديمة، وقد كان بيته أحد ملاجئي الآمنة في سنوات التخفي. هو موسيقي محترف وخريج قسم الفلسفة من جامعة دمشق).
قلت لسمير أني سأذهب لأسلِّم على صاحب النظارات السوداء. فقال:
- أليس هو تركي مقداد؟
- نعم، هل تعرفه؟
- منذ عشرين عاماً التقيت به ثم سافرت، ولا أعتقد أنه يتذكرني الآن.
حين سمع تركي صوتي، فتح ذراعيه للعناق وهو يقول: كل الهلا أبو المجد.
نظر إلي سمير مستغرباً كيف ميَّز تركي صوتي من بين جملة أصوات حوله، ثم حين سلم عليه سمير أجابه تركي: والله زمان يا سمير، وين هالغيبة يا رجل؟
* * *
عرفنا أن زيارات رفاقنا في صيدنايا مفتوحة منذ سنوات، وحين مرّ مساعد انضباط السجن فتحنا معه موضوع حرماننا من الزيارات منذ قرابة ست سنوات، فأوحى لنا أنها ستصبح مسموحة فور انتهاء الإجراءات الروتينية بين المحكمة والشرطة العسكرية. قلتُ له: أنا زيارتي لا تحتاج إلى تلك الإجراءات، فأخي إبراهيم موجود هنا في صيدنايا وأنت تستطيع أن تحقق لقاءنا الآن.
سألني وهو ينظر إليّ بارتياب:
- هل تعرف في أي جناح هو؟
- ومن أين لي أن أعرف؟
في الواقع كنا نعرف كل التفاصيل المتعلقة بتوزُّع رفاقنا على أجنحة السجن وطوابقه.
- اِرفع طلباً لمدير السجين وسنرى..
- ليس لدينا أوراق وأقلام، ثم اعتبرني وكَّلتك بنقل طلبي لمدير السجن.
لم يبدُ على ملامحه أي مؤشر يوحي بالسلب أو الإيجاب.
في اليوم التالي عاد المساعد ومعه عدد من العساكر. فتح نافذة الباب الصغيرة "الشرَّاقة". نادى على اسمي ثم أبلغني أن أخي سيأتي بعد قليل لأراه بضع دقائق من أجل الاطمئنان وليس الثرثرة.
طلب الرفاق أن تبقى "الشراقة" مفتوحة، ليشاهدوا لقاءنا، فقال إنه سيتركها، ولكن عند أي شوشرة سيقطع الزيارة.
أخرجوني وأوقفوني على بعد عدة أمتار من باب الجناح، ثم أحضروا أخي. هو أصغر مني بثماني سنوات، وربما يعتبرني قدوته النضالية، لذلك قررت أن أتحكم بمشاعري، فلا أسمح لأي إشارة يمكن أن يفسرها على أنها ضعف.
ما كدنا نتعانق حتى سمعت خلفي شهقات بعض الرفاق، فأفلتُّ العنان لمشاعري بكل ما في القلب من وجيب وما في العينين من دموع.