مهرجان السينما الفلسطينية في تولوز: السردية الفلسطينية تروي الحاضر وتستعيد الماضي

2024-03-05 15:00:00

مهرجان السينما الفلسطينية في تولوز: السردية الفلسطينية تروي الحاضر وتستعيد الماضي

في عالم محتجب، يتم فيه تظليل أكثر المواقف الإنسانية بتعابير هامشية وغير واضحة، باتت الاستعادة كفعل ثقافي وسينمائي، تعني الحركة الدائمة، وإعادة طرح الأسئلة وعرضها، ومحاولة الإجابة عنها. مهما كان هذا السياق معقداً، ومهما كانت هذه المهمة مثالية جداً،

قبل ما يقارب عشر سنوات، في مرحلة كانت مفتوحة على جميع احتمالات الحرية، بدأ مهرجان الأفلام الفلسطينية في مدينة تولوز الفرنسية بدورته الأولى، بقراءة مقطع من رواية "رجال في الشمس" للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، وعرض مقطع من فيلم "المخدوعون" للمخرج المصري توفيق صالح الذي أنتج عام 1972 بإيحاء من رواية كنفاني، المهرجان الذي نظمته مؤسسة "هنا وهناك وفي مكان آخر" الذي انطلق من أسئلة التيه، ومعنى الحدود والجدوى، ليدخل اليوم دورته العاشرة في زمن الإبادة، بعرض مجموعة مختارة من 37 فيلماً، أفلام روائية ووثائقية وقصيرة، ضمن 52 عرضاً، تمتد على ثمانية أيام من 4 حتى 12 March الحالي، بالتعاون مع Cinémathèque de Toulouse / تولوز سينماتيك، وسوف يضم المهرجان نقاشات فنية مع 22 ضيفاً مشاركاً في المهرجان، معرضاً للصور، وورشات رقص معاصر، وتكون القراءة الأدبية لهذا العام للشاعر الفلسطيني سميح القاسم. 

في عالم محتجب، يتم فيه تظليل أكثر المواقف الإنسانية بتعابير هامشية وغير واضحة، باتت الاستعادة كفعل ثقافي وسينمائي، تعني الحركة الدائمة، وإعادة طرح الأسئلة وعرضها، ومحاولة الإجابة عنها. مهما كان هذا السياق معقداً، ومهما كانت هذه المهمة مثالية جداً، ولكنها جزء من المسؤولية التي يراهن عليها الحاضر، خاصة في مضمون المهرجان ومحاولته، لعرض ثيمة الأرشيف ضمن الأفلام التي أنتجتها إدارة السينما في منظمة التحرير الفلسطينية على امتداد أعوام 1960-1980، والتي حاولت أن تجيب عن سؤال الإنكار الذي كان ومازال يتعرض له الشعب الفلسطيني، كان المحو عنصراً قائماً على إبادة شعب كامل من خلال إلغاء مضمونه، كون له تراث ووجود، ليكون اليوم السؤال التذكير بالسياق الدائم لعمليات المحو التي نشهد اليوم أبشع فصولها وهو الإبادة، لم يكن  منفصلاً عن ممارسات وطموحات صهيونية، أوصلها اليوم دورة الانحطاط، التي ينعت فيها الاحتلال الفلسطينيين بجميع النعوت غير الإنسانية والأخلاقية ليجعل من قتلنا ممكناً ومقبولاً، لنعود نحن في الخطاب الإعلامي والثقافي إلى نقطة البداية التي يريد أن يتناساها الجميع، كون الفلسطينيين بشراً، لهم طموحات وأحلام وليسوا عسكراً فقط. 

في نقطة الأرشيف يروي المخرج محمد المغني ضمن ضيوف المهرجان لمجلة رمان الثقافية :"الطمس مستمر، كان في الماضي وها هو يحدث الآن، وهذا ما يبلور جوهر الأرشيف بالنسبة لنا، وقدرته على عرض روايتنا كما نراها وعرض ما نتعرض له من اضطهاد وما اختبرناه من تجارب إنسانية وسياسية. لذلك يجب أن نرى ونشهد دائماً ونوثق ما نمر به باستمرار"

يفتتح المهرجان يومه الأول، برؤية أكثر تحديداً لفلسطيني الداخل، بفيلم "برعم" من إنتاج عام 2022 للمخرج كاميل كلافيل، وفيلم "بيت في القدس" للمخرج مؤيد عليان، لا يخرج الفيلمان من مضمون فكرة الأرض بصورتها الأولى، كونها مساحة لطرح الأسئلة وفهم السياقات التاريخية والاستعادة المبهمة في رؤية المدن والبلدات الفلسطينية، وغالباً ما تكبر الأسئلة تدريجياً في العمل في واقع أبطال الأفلام، الأول بصورة الفتاة الفلسطينية التي تقرر العودة إلى قرية عائلتها "برعم" التي دمرت أثناء النكبة، والثاني بصورة الفتاة الصغيرة ريبيكا ووالدها مايكل التي قدم رؤية جديدة في السردية الفلسطينية، في حالة الأب الذي يبحث مع ابنته عن أشباح المكان وسكانه الأصليين، الذي يظهرون ويختفون، ليخوض بحثاً تاريخياً وسياسياً واجتماعياً، لفهم أصل المكان وسياقه.

اختيار أفلام هذه النسخة من المهرجان، ومحاولة ترتيب سياقاتها يطرح أكثر أسئلة الواقع الفلسطيني المستمر الذي يحاول الاحتلال فرضه على الزمن، حتى في أبسط صور المقاومة تبسيطاً، نرى ما هو أعمق من المواجهة، بل تأمل احتمالات وطقوس الخيارات الفردية والشخصية والاجتماعية للفلسطينيين، وما تعرضوا له، في مرحلة يتم فيها فرض أكثر احتمالات التاريخ قسوة وهي الترحيل والإبادة، لذلك عرض فيلم "الطنطورة" من إخراج Alon Schwars / ألون شفارتز الذي يوثق مجازر الاحتلال في القرية عام 1948 في النكبة جواباً لا يشمل الماضي فقط بل الحاضر أيضاً، وكيف يحاول الاحتلال ضغط الزمن كله في إجابة واحدة، وهي فرض سياسة القتل بوحشية، ثم ترحيل السكان الأصليين للأرض، وهو الذي يجيب على السؤال الكبير، لماذا لا يوجد رواية رسمية لمجزرة قرية الطنطورة الفلسطينية، خاصة أن مجزرة الطنطورة جاءت بعد شهر على مذبحة دير ياسين، وأنها تحدث الآن بعد 75 سنة من شمال غزة حتى جنوبها. 

ليجيب المهرجان بفيلم "باي باي طبريا" للمخرجة لينا سوالم، عن أسئلة محاولات النجاة والتذكر بسرد قصة عائلتها التي تركت طبريا وخاضت تجربة البحث من جديد عن معاني الأرض، لنرى في هذه التجارب كيف يبدو سؤال الأرض بمعناها السياسي والاجتماعي محكوماً بالهشاشة التي تفترس كل شيء، من خلال العلاقة التي يفرضها الاحتلال على الفلسطينيين، والخيارات التي يحاول محوها من حياتهم، يتحويلهم أما إلى لاجئين أو لقتلى. 

في هذه النسخة من المهرجان، تم اختيار لبنان كدولة ضيفة من الشرق الأوسط، بعرض فيلم (حديد، نحاس، بطاريات) والذي اختلف في اللغة الإنكليزية إلى (Dirty, Difficult, Dangerous) 

للمخرج اللبناني وسام شرف، الذي يحاول عرض سيرة الهامش وما تحاول السلطة اللبنانية تضليله، بتقديم قصة حب بين أحمد اللاجئ السوري في لبنان، ومهدية عاملة المنزل الإثيوبية القادمة ضمن مكاتب توفير "الخادمات"، لنرى في المهرجان قدرته على ربط المصائر والوفاء لكل القضايا التي لا تخرج عن إطار مفهوم الحرية، وخوض النضال الشخصي والاجتماعي، واعتبارات الماضي ورفض الحاضر لما يكسوه من تلوث أخلاقي وسياسي ومناطقي، يجعل الأفراد دائماً في مواجهة مستمرة لا مع سؤال نجاتهم الفردية فقط، 

أخيراً يدخل مهرجان السينما الفلسطينية في مدينة تولوز الفرنسية، عامه العاشر في لحظة استثنائية، قائمة على حجب مكرس وإلغاء مستمر ليقول لنا أن فلسطين لا يمكن أن تكون مقبرةً فقط، وأن الفلسطينيين ليسوا للموت، وأن العالم بكل ما فيه من احتجاب ما زال قادراً على امتلاك بعض المساحات القادرة على عرض، والنقاش والكلام، ليكون اليوم الأول الذي سوف يبدأ اليوم، بأن السردية لا يمكن أن تطوى، والحكاية مستمرة.