توقّعنا في "بوابة اللاجئين الفلسطينيين" ومجلّة "رمّان" أن يسعد الكثيرون بالڤيديو الذي نشرناه لمقابلة غسان كنفاني بعدما قمنا بترجمتها إلى العربية ونشرها كمادة مقروءة وكذلك وضع الترجمة على الڤيديو بعد قص مقدّمته. فهو الڤيديو الوحيد المتوفّر الذي يمكن رؤية كنفاني فيه يتكلّم بوضوح ولمدّة تقارب الخمس دقائق، بنبرات مختلفة، بإنكليزيّة ممتازة وأجوبة حاسمة وذكية وصائبة.
نشر الڤيديو بدايةً على صفحته صديقٌ لابن الصحافي الأسترالي الذي أجرى المقابلة، ونال انتشاراً واسعاً، وسُعد به الكثيرون وكنّا منهم، فتلقّفناه وترجمناه لضرورة وصوله إلى قرّاء العربية، وتواصلت أثناءها مع جيمس كارلتون، ابن الصحافي، لأخبره عن الترجمة التي ننجزها ولأسأل عن تفاصيل أكثر.
الصحافي الذي أجرى المقابلة هو ريتشارد كارلتون، أسترالي، كان وقتها في السابع والعشرين من عمره وفي بداية عمله الصحافي الذي امتدّ إلى وفاته في ٢٠٠٦، وكان لفلسطين نصيب وافر من الموضوعات التي قام بتغطيتها، والمقابلة هذه أجريت إما لـ «هيئة البث الوطنية» في أستراليا (ABC) أو لفيلم وثائقي خاص كان الصحافي يعدّه.
وكان يمكن لهذا الشريط، ببساطة، أن لا يرى النور، أن يبقى حبيساً في الجامعة أو الكراج، مخزن البيت. فقد ترك ريشتارد قبل موته العديد من الكراتين التي تحوي أشرطة ومواد أخرى سجّلها أثناء عمله الصحافي، وكانت الكراتين متروكة ومنسيّة لأكثر من أربعين عاماً، من بينها شريط المقابلة مع كنفاني، دون أن يعرف أحد به.
بعد موته منحت عائلته الكراتين بما فيها، كأرشيف، لإحدى الجامعات هناك، فقامت الجامعة بإرجاعها، ومن حينها بقيت الكراتين مرمية في الكراج، وبقيت هناك لتسع سنين.
قبل أيام، وبعد عشر سنين على موت ريتشارد، خطر لابنه جيمس أن ينزل إليها في الكراج ويتفحّص بعضها، فوجد مقابلة غسان كنفاني، شعر بأهميتها فاتّصل بصديق له، فأكّد الأخير على ذلك وقام بنشر المقابلة على الفيسبوك.
أما جيمس الذي أحب أن يخبرني بأنّهم يهود وبأنّ والده كان مناصراً للفلسطينيين، فما جعله يشعر بأهميّة المقابلة هي الشخصية الاستثنائية لكنفاني كما رآها في إجاباته، وأساساً لكونه ماركسياً، علمانياً، وهذا الصّنف من الفلسطينيين نادر الآن حسبما يظن (مصيباً)، ومختلف عن كل ما يمكن سماعه من السياسيين الفلسطينيين والعرب اليوم، وهذا التباين هو ما "أبهر" الابن في كلام كنفاني فقرّر إخراج الشريط من الكراتين.
وفقط الصدفة هي التي جعلت الكراتين ترجع إليه وهي التي جعلته يقرّر بعدها بتسع سنين أن يفتح بعضها ويجد هذا الشريط، وهو أساساً جزء من مقابلة أطول لا يعرف إن كانت في أحد الأشرطة المضبوبة في واحد من الكراتين.
أخبرته بأنّ كنفاني لم يكن سعيداً بالمقابلة وأنّ ذلك بدا على نبرته وأجوبته، وسألته إن كان أبوه، بطرحه تلك الأسئلة، يؤدي دوره كصحافي أم أنّ كانت لديه مواقف سياسية معينة. لم يعرف إن كان لوالده مواقف سياسية آنذاك، لكنّه قال أن اللوبي الصهيوني في أستراليا متذمّر جداً من أبيه، بسبب زيارته لفلسطين مرّات عدّة وتصويره بكاميراته ممارسات جيش الاحتلال، في الضفة والقدس، وعند الحواجز، إذ أجرى مقابلات وتسجيلات في الانتفاضتين وما بينهما، بل منذ السبعينيات (المقابلة أجريت في ١٩٧٠ في مكتب كنفاني بمجلة الهدف في بيروت)، وحتى السنوات الأخيرة من عمره، وكان معظم ما ينقله من فلسطين إلى أستراليا جديداً على الأستراليين آنذاك. كان رجلاً واقعياً وكان مع السلام، يصفه ابنه لي دون أن أفتح نقاشاً حول المقصود بكلمة "السلام".
لم يعرف الابن أكثر من ذلك عن الشريط، لم يكن يعرف به من قبل، وفقط الصدفة هي التي جعلت الكراتين ترجع إليه وهي التي جعلته يقرّر بعدها بتسع سنين أن يفتح بعضها ويجد هذا الشريط، وهو أساساً جزء من مقابلة أطول لا يعرف إن كانت في أحد الأشرطة المضبوبة في واحد من الكراتين. ولا نعرف إن كنّا سنشاهد المقابلة كاملة يوماً ما، أو ربما غيرها.