تبدو قصة معارضة كامو ذريعة فنية من كمال داود لمقاربة العنف والقتل في الجزائر اليوم، ولكنه يأخذ الموضوع إلى منطقة عالمية عبر قناع كامو. صحيح أنه كان رداً بالكتابة لكنه كان رداً على ثقافة القتل الجزائرية ، قتل الجزائري للجزائري، أكثر منها رداً على كامو.
لطالما تحدثت أدبيات التحليل النفسيّ منذ فرويد عن الهفوات في الأفعال والأقوال والتي فصل فيها القول في كتابه «خمسة دروس في التحليل النفسي»، وتلك الهفوات التافهة كما تبدو لأول وهلة "هي التي بها يفضح الإنسان، في الغالب، أعمق أسراره الشخصية. ثم إنها إذا ما صدرت بصفة عادية متكررة، حتى من أناس أصحاء نجحوا في كبت نزعاتهم اللاشعورية، فذلك راجع إلى تفاهتها وقلة بروزها. لكن قيمتها النظرية كبيرة بما أنها تبرهن لنا عن وجود الكبت والبدائل حتى عند أناس متمتعين بصحة جيدة." ولطالما ألح النقاد، من جهة أخرى، على خطورة الأدب وقدرته على كشف المستور والمحظور والمنسي واللاوعي البشري. ضمن هذا الإطار، قدرة الأدب على كشف ما وراء الخطاب، يمكن أن ننزل ما فعله الكاتب الجزائري كمال داود بغريب ألبير كامو في روايته «ميرسو، تحقيق مضاد» أو كما نقلت إلى العربية «معارضة الغريب».
الأدب ليس بريئاً وعليه أن يعترف
يقول كمال داود في واحد من حواراته متحدثاً عن الرواية: "هي ليست رداً على كامو، أنا مؤمن بأنه كاتب جزائري، حتى لو أدار لنا ظهره، بتاريخه، بولادته، بطفولته، بسنوات شبابه، هو جزائري، أحبَ ذلك أم كره."
ولئن تبرّأ كمال داود من فكرة محاكمة كامو فنحن نضع أيضاً تصريحات الكاتب خارج تلقي الرواية لنُنَسّبَ من الثقل السياسي لكلمة "محاكمة" لكننا في الوقت نفسه لا يمكننا أن نتجاهل أن كتاب كمال داود هو بالفعل شكل من أشكال تصفية الحساب؛ تصفية حساب ولو مع لاوعي النص أو ما أخفاه كامو في ظاهر خطابه أو ما طمسه بالأحداث المتعاقبة وبالحبكة الروائية.
فرواية كمال داود لا يمكن أن تقرأ بعمق دون قراءة «الغريب» لألبير كامو واستحضار أحداثها وخطابها والرواية الثانية كلها يمكن أن تدرج في تحليل الخطاب نفسه؛ خطاب الأدب الفرنسي أزمنة الاستعمار. وهي بذلك أكبر من عملية تناص معلن وألاعيب فنية بحتة. إنما تكرس خطاباً استعمارياً كاملاً لا يرى في الجزائر إلا قطعة من فرنسا ولذلك العربي فيها شخص ميت وهامشي لا يحتاج إلا التوقف عنده ولا رفعه نداً جديراً بالصراع ولو روائياً، هو فقط تفصيل صغير سيء لن يحتاج لمحوه نهائياً أكثر من خمس رصاصات على شاطئ .
تنطلق رواية كمال داود منذ بدايتها بالكشف عن جريمة وعن جثة لكنها ليست جثة تقليدية كتلك التي تعترضنا في الشارع ولا حتى في الروايات البوليسية. هي جثة خاصة جداً في رواية عالمية أطبقت شهرتها الآفاق، والجريمة معروفة وفاعلها معروف ضحيتها "العربي" ومرتكبها "ميرسو" بطل رواية «الغريب»، فما الجديد إذن؟ كيف ستكشف الرواية جريمة معلنة؟
يذكرنا كمال داود بعبارة الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي الشهيرة في كتابه «الأدب والشر»: "الأدب ليس بريئاً، ولأنه مذنب، كان عليه الاعتراف بذلك في النهاية." ونحن هنا أمام أشهر ذنب ارتكبه كاتب في حق شخصية من شخصياته وما وراء تلك الشخصية من رموز. صفاها عبر شخصيته المفضلة بعدة رصاصات وتركها دون أي إحساس بالذنب.
هنا في هذه المعارضة يكشف كمال داود جريمة التواطؤ بين الكاتب الكبير وقراء الرواية في العالم عبر الأجيال عندما تناسوا جميعا الضحية الحقيقية في رواية «الغريب» التي وقع تعويضها في ساحة السرد بالقاتل "ميرسو". مع نص داود، نحن أمام تراجيديا جديدة لتراجيديا الخلق، وأمام قابيل جديد تمكّن من الناس وأصبح شهيراً ويطلق اسمه على أطفال العالم بكل فخر بينما لا أحد يذكر هابيل، الضحية. فالبشر يلعنون الجناة لكنهم يتشبهون بهم ولا يحبون الضحايا ولا يريدون أن يكونوا في مكانهم.
يقول هارون للباحث الفرنسي: "دعني أصارحك فوراً: القتيل، الثاني الذي اغتيل، هو أخي؛ أمحي ذكره تماماً، ولم يبق إلا أنا كي أتكلم نيابة عنه. صار القاتل معروفاً وقصته المكتوبة ببراعة هي التي حفزتني على تقليده، بل قل معارضته."
هكذا ينطلق البرنامج السردي عند كمال داود بنيّة المعارضة ومحاولة إرجاع من تعرّض للشطب إلى المشهد فيحاول من أول جملة قلب الرواية الأولى، موضوع الشطب.
والشطب من الأعمال التي وصف بها القتيل في الرواية الثانية، فقد عرّفه الروائي بأنّه قوي البنية ويصحب رفاقاً يشطبون الوجوه أحياناً. هكذا يبدو لنا كمال داود كمن يريد أن يشطب وجه كامو الصافي ولغته الصافية ذلك الرياضي حارس المرمى الفطن الذي حافظ على عذرية شباكه حتى اختطفه الموت وهو في ريعان الشباب سنة 1960 مخلفاً وراءه مدونة أدبية لا شائبة فيها تتوّجها جائزة نوبل للآداب حتى أتى كمال داود ليزيد ميراث كامو جثة. جثة قتيل غريب بلا اسم على شاطئ جزائري.
لم يكن خيال ألبير كامو بالنسبة للرواية الجزائرية سوى خيال قاتل وخيال مهيمن عنصري، لذلك لم يعط للقتيل حتى اسماً. فقط سمّاه عربي. وسَلْبُ اسم المرء أول عملية قتل وشطب تتمثل في محو الإشارة الدالة عليه وعلى وجوده الفعلي في العالم كذات وتغييرها بجرح وكان الجرح كلمة "عربي."
لذلك كما يقول الراوي هارون أخو القتيل :
"الأمر بسيط، يفترض إذاً إعادة كتابة هذه القصة؛ باللغة نفسها لكن من اليمين إلى اليسار "، ويقصد رواية القصة من وجهة نظر القتيل العربي.
رد كمال داوود للضحية اسمه موسى وأعطى للأخ اسماً هو هارون. وظف الكاتب الجزائري التاريخ والقصص الديني مستحضراً قصة النبي موسى وأخيه هارون الفصيح الذي استنجد به موسى ليكون صوته. وهكذا يرفع صاحب كتاب «زبور أو المزامير» القتيل العربي في رواية «الغريب» إلى مستوى القدسية عندما يخلع عليه في روايته الجديدة اسم النبي موسى.
إن التخييل المضاد لتخييل كامو مع كمال داود هو تخييل لم ينتج إلا خطاباً تخييلياً عنيفاً بدوره، فهارون لم يكن في الحقيقة إلا القاتل الفرنسي الذي قتل العربي في رواية «الغريب». تخييلٌ يحتج على القتل المجاني بقتل انتقامي. هكذا يبدو كمال داود قد "خنق كامو بوسادة من حرير" على حد عبارة الروائي الجزائري الطاهر وطار عندما أمسك بكامو متلبساً بجرمه يطلق الرصاص على رجل أعزل.
كامو ذلك القناع للسير في سوق القتل الجزائري
إن المعارضة هنا جاءت بقاتل جديد ومقتول جديد هو هارون. أما صورة الأم التي كتب خبر موتها كامو بكثير من البرود واللامبالاة عندما بدأ روايته بقول الراوي:"اليوم ماتت أمي. أو ربما البارحة، لست أدري، لقد تلقيت برقية المأوى تقول: "الوالدة توفيت. الدفن غداً. احتراماتنا". فقد عارضها كمال داود في البداية بافتتاحية معلنة: "أمي اليوم مازالت على قيد الحياة. صامتة، لا تنبس ببنت شفة..." غير أننا أثناء السرد نكتشف أن علاقته معها أفظع من علاقة ميرسو بأمه عندما يكتب كمال داود على لسان بطله هارون: "نعم لا تزال أمي اليوم على قيد الحياة، وما أنا مبال بذلك بتاتاً. تأكد أنني لذلك ناقم على نفسي، لكنني لن أسامحها أبداً." فالأم مع كمال داود لم تعد الثكلى فقط بل القاتلة، امرأة قتلت ابنها الثاني وهي تبحث عن الابن الأول الذي صفاه بطل «غريب» كامو. قتلته بمحوه وشطب شخصيته عندما ألبسته ثياب المقتول وظلت تجره وراءها بحثا عن الجثة المفقودة. ولأن الجثة ظلت مفقودة ظل هارون يمثل دور الجثة في لباسها. فما كان منه إلا أن راح يطلق اسم موسى على الجميع، ساقي الحانة ومرتاديها... حتى يتخلص منه ويستعيد ذاته التي محتها الأم في حدادها.
يقول هارون: "لقد حكم عليّ بدور ثانوي لأنه لم يكن عندي شيء مميز أقدمه. صرت أشعر، في آن واحد، بأنني مخطئ لأنني على قيد الحياة، ومسؤول عن حياة ليست حياتي..."
هكذا يأخذنا كمال داود من العنف الفرنسي عند ميرسو ذلك العنف الوجودي إلى العنف الجزائري الذي تحول من حالة نادرة إلى شأن يومي وسلوك طبيعي يمارسه الجميع على الجميع، فالكل في وهران يلغي الآخر وكل واحد فيها يعتبر نفسه الأصل والباقي مجرد عرض وطارئ وليس بأصيل.
تحاول رواية «ميسرو تحقيق مضاد» أن تحقّق مع الذات الجزائرية أكثر من التحقيق مع كامو الاستعماري الذي لخص القتيل في كلمة "عربي" وحسم في أمر وجوده ببضع رصاصات. لكن من الذي يشكّل مخيال الشعوب؟ أليس الخطاب الاستعماري جزء من مكونات المخيال الجزائري نفسه الذي جاء بعد ذلك بالعشرية السوداء؟ أليس رصاص هارون سليل رصاص ميرسو نفسه؟ ألم يقل كمال داود نفسه بأن كامو جزائري رغم أنفه؟
تبدو قصة معارضة كامو ذريعة فنية من كمال داود لمقاربة العنف والقتل في الجزائر اليوم، ولكنه يأخذ الموضوع إلى منطقة عالمية عبر قناع كامو. صحيح أنه كان رداً بالكتابة لكنه كان رداً على ثقافة القتل الجزائرية ، قتل الجزائري للجزائري، أكثر منها رداً على كامو.
حتى أنه أنهاها بصوت الراوي هارون يصف نفسه بالكاذب، وبذلك ينسف الكاتب الواقعية ويرفع التخييل إلى موقعه ويعيد للرواية جوهرها. يقول هارون للطالب الفرنسي: هل تناسبك قصتي؟ هذا كل ما يمكن أن أقدمه لك. هذا كلامي،[..] أنا شقيق موسى أو شقيق لا أحد. مجرد شخص مولع بالكذب اجتمعت به لملء دفاترك... الخيار لك صديقي. الأمر أشبه بسيرة الله. هاهاه لم يسبق لأحد أن التقاه، ولا حتى موسى، ولا أحد يعلم ما إذا كانت قصته حقيقية أنهم لا. العربي هو العربي والله هو الله ، ما من اسم، ما من أحرف أولى. زرقة بذلة العمل وزرقة السماء. ....مجهولان وقصتان على الشاطئ نهاية له."
لقد قال كمال داود كل ما يريد قوله للجزائريين وللفرنسيين عبر قناع كامو مستغلا هفوة «الغريب»، تلك الجثة الضخمة التي كانت مرمية على الشاطئ بلا حراك قبل أن تختفي إلى الأبد. ليكون الموت كما يقول جان ماكوري: "هو آخر الممكنات جميعاً، هو الإمكان الذي يجعل بقية الممكنات كلها، أياً كان نوعها، غير ممكنة." لذلك يعود بطل كمال داود في آخر الرواية يوقّع بنفس السطر الأخير لبطل «الغريب» ميرسو قائلاً: أنا أيضاً أود أن يكون المتفرجون علي كثراً وأن تكون كراهيتهم ضارية."
هكذا تظل رواية «الغريب» نصاً خطيراً ملهماً للإنسانية وللأدباء يتفاعلون معه عن وعي أو دونه، نص لم يخرج من قراءته أحد سالماً مهما كان موقفه من ألبير كامو ومواقفه.