وهكذا تنشأ ظواهر عجيبة: مثلاً، أن يكون هناك مؤلف يحظى نتاجه باهتمام أكاديمي ملحوظ، تكتب عن نتاجه دراسات أكاديمية في أكثر من بلد وبأكثر من لغة، لكن الصحافة الثقافية والنقاد الذين يلهثون وراء الجوائز لا يرون مصلحة في دراسة أعماله أو الكتابة عنها.
كنت في العاشرة، السن الذي يكون فيه الإنسان متعطشا لمصادر تغذي خياله، حكايات، قصص أطفال. طلبت من والدي مبلغا لشراء "قصص أطفال" من مكتبة "الطبري" في طولكرم. كان والدي مدرسا، رب عائلة كثيرة الأطفال قليلة الموارد.
رد علي قائلا: مكتبة البيت عامرة بما شئت من القصص والروايات.
أصبت بخيبة أمل، فالكتب التي تعج بها رفوف مكتبة العائلة للكبار، وأنا أريد قصص أطفال.
بدأت "أجاهد" للاندماج في عوالم روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي في سن مبكر. عانيت كثيرا، لكني مع الوقت بدأت أتعود على قراءة "كتب الكبار" تلك.
كان هذا في نهاية ستينيات القرن الماضي.
كانت القراءة جزءاً من نشاط العائلات والمكتبة المنزلية، جزءاً من محتويات البيوت. كان في مدرستنا مكتبة لا بأس بها، كذلك كانت هناك مكتبات عامة ثرية في نابلس وطولكرم.
ابتداء من عقد السبعينيات أخذت القراءة تأخذ منحى جديدا: أصبحت نشاطا سياسيا، تغير مدلولها ومجالها.
أصبحت التنظيمات السياسية، خاصة اليسارية منها، تدرج قراءة الكتب المختلفة ضمن النشاطات التنظيمية لرفاقها.
هذا طبعا نشّط عملية القراءة، وإن كان حصرها معرفيا في اتجاه معين. انتشرت الأدبيات السوفياتية على نطاق واسع، وكذلك المؤلفات "ذات الطابع الثوري" أو اليساري، على حساب الكلاسيكيات, أصبح قراء غسان كنفاني وإميل حبيبي ومكسيم غوركي ونيكولاي أوستروفسكي أكثر من قراء آرنست همنغواي وويليام غولدنغ ونجيب محفوظ.
ثم جاء المد الإسلامي وانحسار اليسار، فأثر هذا على التوجهات المعرفية. أصبح اهتمام القراء منصبا على كتب الدين، وتراجعت الآداب وكتب الفكر.
بقي هذا الحال لفترة طويلة، أثرت على وضع دور النشر وتراجع توزيعها، وأدت في النهاية إلى انتشار ثقافة نشر جديدة اعتمدت حين عاد الاهتمام بقراءة الكتب، وهي إجبار الكاتب، إن كان جديدا، وبغض النظر عن قيمة منتجه، على دفع جزء من تكاليف النشر. وأصبحت الكتب تطبع بعدد محدود من النسخ كطبعة أولى، لا يتجاوز الألف نسخة في أحسن الأحوال.
أزمة ثقافة، ثقافة أزمة
تغيرت الأوضاع تدريجيا، وبدأت القراءة تصبح نشاطا رائجا، خاصة مع انطلاق جوائز الرواية والقصة. ساهم ذلك في تسليط الضوء على أعمال روائية وقصصية دون غيرها، وزيادة توزيع تلك الأعمال، وصدور عدة طبعات من الفائزة منها.
بدأ سوق النشر يشهد انتعاشا، وظهر سوق النشر الموازي أيضا، أي "نشر السوق السوداء".
أصبح هناك مغامرون و"لصوص كتب" يتربصون بالأعمال التي تصل قوائم الجوائز الأدبية ويصدرون منها طبعات رخيصة على ورق سيء النوعية، ويبيعونها للقراء الذين يفضلون توفير أي مبلغ من سعر الكتاب، ولا يكترثون إن كانت دار النشر شرعية أو "سوداء". كل ما يهمهم هو الحصول على نسخ رخيصة ، ولو من وراء ظهر المؤلف والناشر. لا بل أصبح هذا مقبولا والاعتراض عليه مستهجنا.
كذلك ازدهر ترويج الكتب المطلوبة على شكل نسخ PDF ، يستخدمها أشخاص كطعم لاجتذاب طالبيها والاستفادة منهم بشكل أو بآخر.
الغريب أن ما يرى فيه البعض "ظاهرة صحية تعكس ازدهار القراءة" يعكس في جوهره ازدراء للنتاج الأدبي، المعرفي، وبخساً مزرياً لقيمته بحيث أنه لا يستحق إدراجه ضمن الأولويات التي تخصص لها ميزانيات. من الواضح أن المجتمعات العربية مجتمعات فقيرة وميزانيات أفرادها محدودة، لكن أولويات الإنفاق من تلك الميزانيات المحدودة تعكس الموقع الذي تحتله الكتب والقراءة في حياة الناس. ثمن الكتاب من المكتبات المحترمة التي تحصل على نسخها من دور النشر، يتراوح بين 4-10 دولارات. هذا ليس مبلغا يستهان به عند شخص ميزانيته محدودة أصلا، لكن لو قارناه باشياء أخرى يستهلكها نفس الشخص الفقير لوجدنا أنه ينفق على الأكل والشرب والتدخين بأريحية. إذن المسألة مسألة أولويات.
مقارنات "ظالمة"
دعيت أكثر من مرة لفعاليات أدبية في لندن ومدن بريطانية أخرى. لفت انتباهي أنه كان على جمهور تلك الفعاليات شراء تذاكر لحضورها، ومن ثم شراء نسخ من كتبنا.
طبعا لا يمكن مقارنة دخل المواطن البريطاني بدخل مواطن عربي فقير. فعلاً؟ لندع الأرقام تتحدث: دخل شخص متواضع أو متوسط الدخل في بريطانيا يتراوح بين 1500-3 آلاف جنيه شهريا. يبدو هذا المبلغ مرتفعا إذا قورن بمتوسط دخل الإنسان العربي، لكن لنتريث قليلا: تكاليف المعيشة هنا مرتفعة، وفي العادة تبتلع تكاليف السكن والفواتير الأساسية أكثر من ثلثي الدخل. يعني القارئ البريطاني عنده استعداد لدفع عشر جنيهات على الأقل ثمنا للنسخة ومثلها ثمنا لتذكرة الدخول، أي ما يعدل واحدا في المئة من دخله المتوسط. هذه هي النسبة التي سيتكلفها القارئ العربي من دخله لشراء نسخة شرعية من الكتاب.
أما إذا أدخلنا شعوب أوروبا الشرقية، الفقيرة، في المقارنة، فستنهار خطوط دفاع المبررات العربية لاستباحة الكتب.
في المجر، مثلا، يبيعون الكتب الجديدة بما يقابل 7 يورو للنسخة الواحدة، ومعدل الدخل لا يتجاوز 400 يورو. طبعا هذا لا يناسب ميزانية الجميع، فماذا يفعلون؟ لا يلجأون لنسخ مسروقة أو مزورة، بل يزدهر سوق الكتب المستعملة. هناك الكثير من المحلات المتخصصة ببيع النسخ المستعملة بسعر زهيد. إذن القضية قضية مبدأ، لا إمكانيات مادية.
وجوه أخرى للأزمة
هذه ليست المظاهر الوحيدة لغبن المبدع العربي حقوقه، فهو في العادة بالكاد يحصل على أي دخل من كتبه. هذا هو الجانب المادي فقط، لكن هناك جانب أكثر إيلاما، وهو تعامل أبناء المهنة معه، من صحفيين ثقافيين، جوائز أدبية، نقاد.
مرة أخرى أجد نفسي مضظراً "للمقارنة الظالمة" مع الواقع الأوروبي.
بدأت نشاط الكتابة الروائية والنشر في بلد أوروبي (المجر). طبعا بدأت رحلة الانتشار من "الصفر" بمعنى الكلمة: بلد غريب، إسمي لا يعني شيئا لأي قارئ أو ناشر أو ناقد. لم تكن لي علاقات في الوسط الأدبي أو الإعلامي وبالتالي فلا يمكن الحديث عن "علاقات عامة". مع ذلك، حظيت بانتباه أهل المهنة، من صحفيين ثقافيين ونقاد، وبالتالي قراء، منذ أول رواية نشرتها باللغة المجرية. لم أكن حائزاً على جوائز ولا حتى مدرجا في قوائمها الطويلة أو القصيرة، مع ذلك أخذت مؤلفاتي حقها من اهتمام أهل المهنة، لأن العمل الأدبي هو موضوع الاهتمام لا مؤلفه.
في العالم العربي أنت ومؤلفاتك رهن بمعادلات السوق العجيبة: عليك أن تحصل على جائزة ما، أو تصل إلى القوائم الطويلة أو القصيرة لتلك الجوائز. طبعا حظك، موضوعياً، فقير، في الوصول إلى تلك القوائم، وذلك لأن الأعمال الإبداعية التي تستحق الاهتمام أكثر عدداً بكثير مما تستطيع الجوائز بقوائمها الطويلة والقصيرة استيعابه، وحظك رهن بذائقة أعضاء اللجنة التي تختار الروايات الفائزة، خاصة أن بعض تلك الجوائز والمنصات الثقافية تعيد التدوير: تصل روايتك إلى القائمة الطويلة أو القصيرة لجائزة البوكر مثلاً فتصلك دعوة للمشاركة في معرض الشارقة السنوي للكتاب أو مهرجان طيران الإمارات، فتدعوه محطات تلفزيونية ضيفاً في برامجها، فيراك القراء فيشترون كتبك، فيراك الصحفيون الثقافيون فيكتبون عنك، فتلتفت إليك لجان جوائز أدبية أخرى... وهكذا.
أما إذا لم تصل إلى تلك القوائم، أو اخترت عدم المنافسة على الجوائز أصلاً بسبب بؤس واقعها، فقد حكمت على نفسك بالاستبعاد من بقية حلقات السلسلة، مهما كانت القيمة الإبداعية لما تكتبه.
وهكذا تنشأ ظواهر عجيبة: مثلاً، أن يكون هناك مؤلف يحظى نتاجه باهتمام أكاديمي ملحوظ، تكتب عن نتاجه دراسات أكاديمية في أكثر من بلد وبأكثر من لغة، لكن الصحافة الثقافية والنقاد الذين يلهثون وراء الجوائز لا يرون مصلحة في دراسة أعماله أو الكتابة عنها.
أما أكثر الظواهر بؤساً فهي تحول النتاجات الإبداعية إلى "أعراس" بالمعنى العشائري للكلمة: ستجد كاتباً احتشد على منصة إشهار عمله الروائي الأول عدد كبير من النقاد والأكاديميين والصحفيين، وستجد صحافياً ثقافياً يكتب عن رواية لمؤلف صديق بمجرد أن يقرأ خبر صدورها، وسيتضح من العموميات التي يكتبها أنه لم يقرأ العمل، لكنه يطريه إطراءً شديداً "عالعشم".
ستجد صحفياً ثقافياً آخر يكتب عن روائي في دولة بعيدة، ويتجاهل آخر ربما يقيم في نفس مدينته، وذلك لاعتبارات الربح والخسارة.
هذا غيض من فيض من مظاهر بؤس واقع الأدب ومقومات الانتشار في العالم العربي، وواضح أن الأمور متجهة نحو الأسوأ.
قبل أسابيع قرأت خبراً عن ازدهار مبيعات الكتب في بريطانيا، حيث بيع 200 مليون كتاب خلال العام المنصرم، بسبب ظروف الإغلاق التي فرضها وباء كورونا.
شهد العالم العربي، في المقابل، شكلا آخر من "الازدهار": ازداد توزيع النسخ الإلكترونية المسروقة.