لا بُدّ من أن يتحادث مع ابنته ليلاً. سوف يوصيها بالمزيد من الحذر والحيطة.
اليوم! يا ريت.
يودّ أن يحكي، ثمّ يغور الكلام في حلقه، ولا يعرف ما الذي يمكنه أن يناقشه معها وهي التي تحرص على إعطائه الانطباع بأنّ كلّ ما تقوم به “بيرفكت” (Perfect). تقولها بكلّ تأكيد كأنّها تُذَكّره بتفوّقها وتخصّصها في الترجمة بقسم اللغة الإنجليزيّة في الجامعة. لو طلب من زوجته أن تسألها أو أن تتابعها، فلن تلبي طلبه حكماً؛ لأنّها سوف تكون إمّا قادمة من حاجز قلندية ومترعة بالتعب والإرهاق، أو مشغولة بتحضير بعض أطباق الطعام لهم ولوالدتها المريضة كي تأخذها معها في الغد.
كم تغيّرت هذه الزوجة حتّى صارت تبدو إنسانةً أُخرى!
تدريجياً، تغيّرت فيها أشياء كثيرة. صار مظهرها مختلفاً تماماً بلباسها البالي ذي الألوان الباهتة والطاقيّة الكاسكيت، التي اعتادت عليها ولم تعد تقبل الاستغناء عنها. استبدلت ألوان ملابسها الزاهية بألوان أُخرى حياديّة، لكي تناسب الغبار الكثيف على الحاجز يوميّاً.
ولم تقبل تغيير ملابسها القديمة بأُخرى جديدة؛ لأنّ العجقة الدائمة وتزايد تدافع الناس وسط الطوابير القهريّة هناك كانا يطبعان المزيد من التجعّدات على الملابس التي ترتديها. بل إنّه صار لديها صندل مطليّ بالغبار الكثيف، تقول إنّه الأكثر راحة لها لدى الوقوف ساعات طويلة. كلّ ذلك بدا في اتّساقٍ عجيبٍ مع الجمود الذي صار يسكن تقاطيع وجهها كأنّها غائبة في مكان آخر.
كان يعرف في دخيلته ما الذي يُفتّت قلبها. وكان يعاني معها ممّا يجري في القدس، مسقط رأسها، من آلام ومآسٍ يوميّة، وينسرب كالماء تحت قدميها وتعتبره أهمّ بكثير ممّا يجري هنا في دارها. فلم تكن المسألة تتوقّف عند مرض أُمّها وقعودها عن الحركة، ولا نشوب الاحتكاكات المتواصلة بين عائلة أخيها هناك وعائلة أُختها، وقد كانا يتصارعان على من سيفوز بالدار العتيقة عند رحيل أُمّها الحاجّة جليلة! ولا اللعنات التي تهطل عليهم مدراراً من عائلةٍ قدمت من الخليل منذ سنوات طويلة ومكثت في بيتٍ قديمٍ مجاورٍ كان خالياً في البلدة القديمة، فسكنته ولم تقبل تركه حتّى عندما أراد صاحبه، الذي ترك بيته الحديث في ضاحية البريد قبل عام، أن يعود إليه كي يحافظ على أوراق الإقامة المقدسيّة.
أخرجت إسرائيل منطقة الضاحية من “حزام القدس”، فبات على الجار إيجاد مأوى في أي مكان داخل السور القديم. لذا، صار الجار صاحب البيت الأول يعاود الرجوع إليهم بين الحين والحين لطردهم منه دون جدوى أو نقير.
لا الفقر المنتشر والمستشري في كلّ الزوايا، ولا التلاميذ الذين تزداد أعداد من يعانون التسيّب المدرسي وتعاطي الموادّ الضارّة منهم، لا، لا، لا… لا، هو يعرف أنّ آلامها آتية من مكان آخر لا تعترف به. إنّه يعرف أنّ فقدان الحلم هو أصعب ما يواجهه إنسان، وأنّه ليس باستطاعة الجميع التأقلم مع الواقع المرّ الذي لم يخطر لهم مستوى بشاعته أو ابتذاله.
وهذه السيّدة التي تتعامل مع الأشياء بقلبها هي آخر من يحتمل تلك المصائب المتتالية.
تتصرّف لميس، زوجته، كما لو أنّ قطاً بلع لسانها. لا تسأل عن شيء ولا تتابع شيئاً!
تُريد أن تضعه أمام مسؤوليّاته الأُسريّة التي تخلّى عنها أيّام الانشغال القديم خارج البلاد. في الماضي لم تكن تسأله شيئاً، وكانت تتحمّل الأعباء كلّها دون مناقشة، فقد كان مواطناً متميّزاً ينتمي إلى مقاطعةٍ خاصّةٍ بالفدائيّين والثورة. وكم اختلف الوضع الآن. إنّها ترنو إليه عبر صمتها صباح كلّ يوم، وهي تصنع القهوة “الفيلتر” وتشغل الماكينة، وكأنّها تحلّفه بأن يكفّ عن إثقالها بالطلبات بعد سنوات الخدمة الطويلة تلك.
وهو لم يُسمح له، كغيره من الفلسطينيّين الذين وُجدوا لسبب أو لآخر خارج الضفّة الغربيّة، بأن يُعتبروا مواطنين في بلادهم؛ اعتماداً على تعداد الإسرائيليّين السكّاني الذي أقامه الاحتلال بعد أن منعهم من الدخول إثر احتلال البلاد بأشهر
رسمت حولها مسافة مثل دائرةٍ من الطباشير غير المرئيّة، وصارت تتصرّف باقتناع كامل بأنّ من حقّها استرداد الجزء الضائع من حياتها كما تحبّ، وكما ترغب وتتمنّى. كانت قمّة المنى بالنسبة إليها العودة إلى الانصهار بالأهل إثر هذه الغربة الطويلة. سابقاً، لم تحمّله الشعور بأنّها مثقلةٌ بحياة المنافي. حافظت بتكتُّمٍ على تجديد أوراق هويّتها المقدسيّة، وظلت تدخل الضفة من دون إعلانٍ أمام مَن تعرفهم من أجل تجديدها، كلما تَحَتَّم عليها هذا. لم يكن الدخول إلى الوطن سهلاً لمن كانت مثلها متزوّجةً بصحافيٍّ يتبع تنظيماً وطنيّاً في منظمة التحرير الفلسطينيّة، التي يعتبرها الاحتلال عدوّاً له. قاست الكثير من الاستجوابات من مخابرات الاحتلال، ومن منع الدخول فتراتٍ تطول أو تقصر، حتّى ثبّتت حقها في أوراق الهويّة عبر توكيل محامٍ في مؤسّسة إسرائيليّة غير ربحيّة تناصر المقدسيّين، وتدعم حقّهم في عدم الاستسلام لاضطهاد السلطات عبر تقديم اعتراضات ضدّ سحب هويّاتهم، وفي كلّ مرة كانت تأتي وتجدّد صلاحيّة أوراقها، مهما انطبقت الكوارث فوق رأسها.
وهو لم يُسمح له، كغيره من الفلسطينيّين الذين وُجدوا لسبب أو لآخر خارج الضفّة الغربيّة، بأن يُعتبروا مواطنين في بلادهم؛ اعتماداً على تعداد الإسرائيليّين السكّاني الذي أقامه الاحتلال بعد أن منعهم من الدخول إثر احتلال البلاد بأشهر.
وها هي ليلة القدر تأتي، فيتمكّن من العودة مع عائلته إلى بلاده، فيقرّ بأنّ كلّ ما كانت تريده لميس سوف يكون مُستجاباً، وأنّ ما يَبِينُ على أنّه “صمتُها” كان بالنسبة إليها ردّ فعل على الضوضاء التي عانت منها بسبب الحروب المستمرّة في الخارج.
لم يعد من متّسع في حياة هذه المرأة إلا للعودة إلى الجذور، حيث المكان الأصلي بعد تشرّد طويل. وعليه أن يُنفّذ رغبتها هذه، وأن يتجاوب معها، سواء أأعجبه هذا أم لا. فقد أصابها الضجر الكبير من حياتهما المتنقلة غير المستقرّة سابقاً، ومن صدمتها العارمة بما وجدته من تهجّمات على مدينتها، فتحوّلت إلى “جلمود صخرٍ حطَّهُ السيلُ من علِ”…
وأكمل في رأسه بداية البيت المعروف لامرئ القيس!
في بداية ما ظهر أنّه التزامها اليومي بالذهاب إلى القدس أراد أن يناقشها، أو أن يسألها حتّى بِحِسٍّ فكاهيّ:
وين رايحة يا مرة؟
شو، وين عم بتتركينا!
فقط، لأنّه كان مشفقاً عليها من ويلات الحاجز وتعذيبه المضني للعابرين من خلاله، بل ومن احتمالات الإصابة برصاصات الجنود التي كانت تُلعلع بين الحين والآخر مستهدفةً أيّاً كان، طفلاً أو يافعاً ما يصرخ في وجوههم. وهي تخبره، وتكرّر العديد من المرات:
عندي أوراق القدس، وهم لا يستطيعون منعي من الدخول كما يفعلون مع أصحاب التصاريح من فلسطينيّي الضفّة الغربيّة.
أَدرَك في ما بعد أنّها مخلوقٌ ذو رأسين، يخلع ما يلبسه، أولاً، في هدوء وطاعة، ثمّ يظهر برأسه الآخر حينما يقرّر ما يريد أن يحقّقه. هي تريد أن تعيش هناك، فلا تستطيع سوى أن تعود إلى بيتها لكي تُوالي العودة في اليوم التالي. ببساطة، لم يعد يعنيها إلا هذا المَوّال في رأسها، تريد أن تكون هناك ولو تَمثّل ذلك في شبه انفصامٍ عن حياتها معهم.
وببساطةٍ أكثر، كان يفهمها تماماً!
حَمِدَ الله في سرّه لأنّ البنتين الكبيرتين لم تعودا معهما.
تزوّجت الكبرى، وسافرت مع زوجها إلى دولةٍ غربيّةٍ، حيث يُكمل اختصاصه في طبّ العيون لكي يُعاود العمل في مستشفىً وطني، وحصلت الثانية على بعثةٍ جامعيّةٍ في قبرص.
حياة لميس الضروريّة اقتصرت على الوصول إلى القدس فقط، لا غير!
تكون معهم وعقلها هناك، وقلبها ووجدانها في إسراءٍ حتميٍّ، وكأنّها ارتدّت إلى أيّام طفولتها ومراهقتها الأولى، ولم تعبر بكلّ هذه السنوات الطويلة خارج البلاد. وهو سرعان ما قَسَر نفسه على الانسجام مع وضعها. المرأة لم تُقَصّر في حقّه وفي حقّ العائلة، وقد استطاعت أن توصل المركب إلى شاطئ السلامة. فماذا سيكون بإمكانه أن يقول؟
رَنّ على الهاتف اليدويّ. لم تَرُدّ الصبيّة. يبدو أنّها في محاضرة. سينتظر مرور العصر لكي يتأكّد من أنّها خرجت من الجامعة؛ لأنّ أخباراً لمّحت إلى أنّ الإسرائيليّين سوف يواصلون اليوم إقامة الكمائن وتفتيش الطلبة. يريد أن يتأكّد من أنّها وصلت إلى الدار،
لأنّ الخطر سيعمّ الجميع إذا قرّر الجيش القيام بالاعتقالات. في كلّ مرةٍ ينطلق فيها هذا الجيش المُختار، والمدرَّب لخوض حروب نوويّة، للسيطرة على المنطقة، ينتهي بقتلِ طفلٍ تلكّأ في الحارة، أو مواطنٍ ما أخذته الغفلة، فتحرّك بعفويّةٍ في بيته دون أن يعرف أنّه سوف يكون الضحيّة التالية.