بشار إبراهيم
مع فيلمها الروائي الطويل الأول «ملح هذا البحر» 2008، كتبت آن ماري جاسر اسمها، أوّل مخرجة سينمائية فلسطينية، تُنجز فيلماً سينمائياً روائياً طويلاً. هذا وحده سيدخلها تاريخ السينما الفلسطينية، والعربية. لكن آن ماري لم تكتفِ بذلك المجد، ولم تتردّد على أعتابه، ولم تتوقّف عنده. شاءت أن يكون فيلمها الروائي الطويل الأول، لها وللمخرجات الفلسطينيات، عودةً صافية تماماً، إلى بساطة الحكاية الفلسطينية، وإلى موردها الأول.
ومع اعتمادها الحكاية البسيطة، ذات الدلات المرسومة، كما سنرى في «ملح هذا البحر»، فإن المخرجة آن ماري جاسر ستبقى على وفاء لجوهر السينما، التي تعرفها، حكايةً ومبنىً ومعنىً ودلالةً، دون أن تفلت أبجديات المهنية والحرفية في الصناعة السينمائية، من حيث حُسن انتقاء الممثلين لأدوراهم المناسبة، وإدارتهم بإتقان، والاشتغال على حياكة القصة، عبر شخصيات مُستقاة من عمق الواقع الفلسطيني، دون تحوّلات درامية صادمة، أو مباغتة، التزاماً منها بالواقعية السينمائية، المتطابقة مع الواقعية الحياتية، حتى لو ذهب بها منهج المطابقة إلى مقاربة التوثيقية في الفعل الدرامي.
في فيلم «ملح هذا البحر»، انتهجت آن ماري جاسر، الخيارات الأكثر قرباً من المشاهد، واتصالاً به. هنا ثمة أناس من لحم ودم، يشبهونها هي، ويشبهون المشاهدين أنفسهم. لا غربة، ولا قطيعة، ولا استثناءات. سيجد المشاهدون أنفسهم، أو من يشبهونهم، على الشاشة. وفيما يتابع المشاهدون حكايات شخصيات الفيلم، فإنما هم يتابعون حكاياتهم أنفسهم، وفي واقعهم الذي يعيشونه. كأنما آن ماري تمحو تلك المسافة ما بين صالة الجمهور وشاشة العرض، لتلتحما في تفاعل وجداني عميق، مخترقةً الجدار الرابع، في إنشاء سينمائي مؤثّر.
لم يكن عفواً، ولا صدفةً، اختيار المخرجة آن ماري بطلة فيلمها «ثريا» (سهير حماد) على نحو يشبهها فيزيولوجيا، أو يكاد. كأنما هي تريد القول: هذه أنا. هذه أنتن!.. تماماً كما أحسنت صنعاً باختيار الشاب «عماد» (صالح بكري)، الفنان الفلسطيني الماهر، الذي استطاع بتلقائية استئنائية تقديم صورة الشاب الفلسطيني، العادي، بقلقه ما بين عمق انتمائه إلى فلسطينه، التي يراها تتسرّب بين يديه، وقرع نواقيس أوهامه، التي يراها أحلاماً للخلاص من «نكبةِ» ما هو فيه.
فيلم يستحضر الواقع من خلال حكاية «ثريا»، والتاريخ القريب، من خلال مشاهد التدمير التوثيقية، فيما شريط الصوت يرنّ في الأسماع «شدّوا الهمّة.. الهمّة قوية»
تضع آن ماري جاسر القصة الفلسطينية، بكامل ثقلها، في إطار معادلة واضحة. هذه فلسطيننا. هي لنا. وينبغي استعادتها. ما الضير في ذلك؟.. لا تعير انتباهاً للملابسات السياسية، والتعقيدات الفكرية، والأساطير المُؤسّسة. إنها تذهب إلى بساطة الفكرة ووضوحها. هذا ما تركه لي والدي، وجدّي. أنا أرغب في استعادته. ماذا يمنع؟..
بساطة الحكاية، وتبسطيها، على هذا النحو، لا يمتدّ إلى صناعة الفيلم نفسه، بل ربما من نافل القول إن الإجراءات التي لجأت إليها المخرجة آن ماري جاسر، فنياً وسينمائياً، إنما تنتمي إلى درجة من المهنية والحرفية، في عناية واضحة لبناء نصّ سينمائي رائق ولائق، يتجاوز عثرات الفيلم الأول لصاحبه.
سوف تبذل المخرجة قسطاً وافياً من فيلمها للتوثيق والتسجيل والذاكرة. وإن كان لأحد اعتبار المشاهد الطويلة، ذات العلاقة بالمكان الفلسطيني، وتاريخ المجازر الصهيونية، خاصة فيما يتعلّق بـ«عرب الدوايمة»، نافرةً عن سياق الفيلم الروائي، وقصته، وحكايته، إلا أن ما يمكن لحظه، في هذه المشاهد، يتبدّى من خلال الدور الوظيفي الذي أرادته المخرجة، التي تهتم أصلاً بقول الحكاية الفلسطينية، من جوانبها المتعددة، لا الانشغال بفيلم جمالي فقط، اتفاقاً مع ما يراه العديد من النقاد، في أن الدور الوظيفي للعمل الإبداعي، ربما يكون أكثر أهمية من رشاقة العمل واختزالاته.
لم يحقّق فيلم «ملح هذا البحر»، حضور أول مخرجة فلسطينية روائياً، فقط، بل لعله كان المحطة السينمائية الفلسطينية الأولى التي جرى من خلالها تمثّل الحكاية الفلسطينية، على بدهيتها، وفي أبجدياتها الأولى، دون فذلكة، ودون مغامرة التيه في دهاليز السياسة، وأحابيل التاريخ، والميثيولوجيا.
إنه فيلم، ينطلق من الآن والراهن الفلسطيني، ويتطلّع إلى مستقبل مأمول، دون إغفال ما جرى منذ قرن، أو يكاد، ودون إنكار مؤثراته. فيلم يستحضر الواقع من خلال حكاية «ثريا»، والتاريخ القريب، من خلال مشاهد التدمير التوثيقية، فيما شريط الصوت يرنّ في الأسماع «شدّوا الهمّة.. الهمّة قوية»، التي يمكن لها أن تستنهض الحال من عجزها، وتقاعسها. ومن المؤكد أن فلسطين المغتصبة، لن تعود إلا باستعادة الهمم قوتها، وتخلّصها من تقاعسها.