تحادثني أمي هاتفياً بعد عودتي إلى المنزل وتسألني كيف كان نهارك؟ أجيبها: “الحياة يا أمي سباق سريع تحت الشمس في شهر آب، تخيّلي أنّي شاهدت اليوم في عزّ الظهيرة رائد يوصل أنابيب الصرف الصحي لأحد بالوعات بيروت الكبيرة، هذا نفسه جارنا السابق الذي درس علم النفس لخمس سنوات في جامعة دمشق.. قبل أن تسأليني ماذا كنت أعمل في الشارع في بيروت ذاك الوقت، سأخبرك بأني أتعلّم التمثيل المسرحي يومياً دون ان يتحرّش بي المخرج أو المنتج الذين تخشينهم وقضيتي عمرك تخيفيني منهم.. سأسرد عليك ما فعلت اليوم.
أمسكت بالقلم لأكتب صباحاً، وخرجت إلى العمل في زحمة المواصلات.. لا صديق لي في طريقي الطويل سوى البحر، وإذا حالفني الحظ سأجلس في الجهة المقابلة له في الباص، ما قد يحميني من لهيب آب¡ بعدها أنهيت عملي وتأخرت لعشر دقائق عن المسرح، تلك العشر دقائق يا أمي مشيتها طويلاً جداً تحت الشمس خلال هذا الشهر، واستطعت أن أركضها ركضاً قاسياً لدرجة البكاء.
لم أستطع أن أدفع الدولار، فإما أن أدفعه الآن أو في طريق العودة.
البارحة صباحاً تأخرت جداً على الطريق، استطاع موكب أحد المسؤولين اللبنانيين توقيفنا لساعتين تحت الجسر الاسمنتي.. لو كنتِ مكاني ماذا تصنعين؟
لم أصنع شيئاً، خرجت من باص النقل الداخلي ومشيت ثم ركضت.. ثم ركضت أكثر حتى وصلت.. أذكر أن لهاثي يشبه لهاث الكلب الجائع وقتذاك.. انتهى المشهد هذا، ومثلته في المسرح حينما طلب المدرّب أن نمثل جزءاً من حياتنا اليومية.
ولأجل الصدفة الحقيرة لليوم ذاته، كان موعد آخر باص إلى بيتي قريباً جداً فخفت التأخّر. رفعت فستاني الأصفر شبراً ونصف، ربطته وثبّت ربطه ثم مشيت نحو الأوتستراد. أنظر إلى الطريق، ما أطوله! لم يسعفني أي أحد من سائقي السيارات سوى باستراق النظر، وهل من أحد يستطيع أن يتولّى عني مهمة الركض الصعبة هذه؟ كم من الوقت لهثت حينما وصلت؟
أنت تعرفين جيداً أن بيتنا يجبرك على المشي التصاعدي، فهل سأمشي إلى المنزل والتعب حل ببدني كله، أو أدفع دولاراً لأصل؟ لهثت قليلا وأنا أفكر..
كان جواري ابن جارنا، بائع العلكة، ابن جارنا الذي خرج من المدرسة ليعيل أمّه الأرملة.. تذكرين حارته جيداً يا أمي وأذكر أن أمه كانت صديقتك، عملتما سويّة منذ ست سنوات، لذلك تجنبت النظر إليه لكني فشلت.
“تشتري علكة هديل؟”، المشكلة الآن باتت صعبة، فإما العلكة وإما الوصول دون تعب؟ ما أصعب اللهاث.
غداً لن أذهب إلى العمل والمسرح من نفس الطريق، ما عدت أتحمل مشاهدة قريبنا الذي ينبش الزبالة يومياً ولا جارنا عالم النفس الذي يعمل في الطرقات ولا ابن جارنا بائع العلكة الذي غادر المدرسة مبكراً، ما عدت أجد مبرراً لكل ما يمر.. نسيت أيضاً أن أخبرك بأني لا أملك ألفي ليرة لبنانية لركوب الباص غداً.. أمي هل تستطيعين إدانتي؟”.
” قومي بابا قومي عشغلك يالله تأخرتي”
يا إلهي كم هذا الكابوس مرعب. أبي، لا أريد الذهاب اليوم فالشمس حارقة والحياة سباق سريع يذيبنا في شهر آب.