تنمو سيرورات الثورة، في الزوايا والأماكن غير المرئية للفكر المتسرع والمتلهف للانتصار، والذي غالباً ما يكون محكوماً بإرادوية مريرة، تجعله يتسرع في إعلان النصر، بقدر تسرعه في إعلان الهزيمة. في تلك الأماكن غير المرئية، تنمو تفاصيل الحراك الثوري، وينمو معه وعي يتفتح حيناً وينغلق على نفسه حيناً آخر، وينتمي في كل الأحيان إلى التاريخ المفتوح أبداً على التجربة وعلى الصراعات الاجتماعية.
انتشرت أناشيد القاشوش الثورية في كل بقاع الثورة السورية، ورددت حناجر الثوار أغانيه في كل مناسبة خرجوا فيها إلى الشارع في مظاهراتهم ومسائياتهم الثورية. ولم تحظ أغانٍ بهذا المستوى من الشعبية كما حدث مع أغاني القاشوش. وكان ذلك يعود إلى مجموعة من الأسباب.
في المراحل الأولى من عمر الثورة السورية، اندفع الثوار من أجل تحطيم رموز نظام الأسد بكل الوسائل التي كانت متاحة، وحتى المبتكرة منها، ومنذ بدايات المظاهرات في سورية، عمد الناشطون إلى تمزيق صور بشار الأسد، وأبيه حافظ الأسد أينما وجدوها، وكانت للصور التي بثها الإعلام في حوالي نيسان من عام 2011، للشاب الذي قام في إحدى المظاهرات التي خرجت في مدينة حمص، بتحطيم صورة بشار الأسد بقدميه ويديه وعلى الملأ، أثرٌ كبيرٌ في نفوس السوريين، وأعطتهم دفعاً وإيماناً بقدرتهم على تحطيم النظام، رغم أن الشاب الذي قام بتمزيق الصورة، يقال أن أجهزة الأمن قامت باعتقاله فيما بعد، وتحطيم قدميه.
في تلك المراحل من الثورة، وتحديداً في الأشهر الثلاثة الأولى منها، أصبحت تماثيل الأسد، الأب والابن، هدفاً سعى الناشطون من خلاله إلى تحطيمها في عموم سوريا، وفي أغلب الحالات، كان الثوار قد تمكنوا من تحطيم تلك التماثيل، في درعا، وفي دير الزور، وفي مناطق أخرى. وكان الأمر يدور، حول تحطيم رمزية النظام، والتي لعبت عبر عقود، دوراً مهماً في إحكام السيطرة النفسية على السوريين، وتذكيرهم الدائم، بمركز السلطة والقوة في سورية، التي أصبح اسمها لعقود خلت، سورية الأسد.
ولم تكن المسألة متعلقة فقط بالتماثيل التي انتشرت في كل الساحات والزوايا، بل عمد النظام، ضمن أطار إحكام سيطرته على السوريين، على إطلاق اسم “الأسد” على كل الساحات والمرافق العامة، وحتى على الأحياء والمناظر الطبيعية، ففي سورية ستجد ساحة الرئيس، ودوار الرئيس، وشارع الرئيس، وحتى بحيرة الرئيس الأسد. وفي تلك المرحلة أيضاً من عمر الثورة، عمد الثوار إلى تغيير أسماء هذه المناطق عند كل مرحلة تمكنوا فيها من التقدم، وإبراز سلطتهم المتنامية، غيرت أسماء شوارع كثيرة كانت تحمل اسم الأسد، كما تم تغيير أسماء العديد من المدارس والمرافق العامة، وتم استبدالها بأسماء شهداء الثورة ورموزها، كان الصراع أيضاً يطال الرموز بقدر ما كان يطال السلطة المادية للنظام.
قدمت أغاني القاشوش، إطاراً مهماً استطاع الثوار من خلال تلك الكلمات الشعبية، من استفزاز نظام الأسد، وتدمير رمزيته، ولعبت السخرية القاسية دوراً مهماً في ذلك. كلمات مثل: “يا ماهر ويا جبان ويا عميل الأمريكان”، وكان ماهر شقيق بشار الأسد، وواحداً من أكثر الرموز سطوة في نظام الأسد، فهو الذي يتزعم الفرقة الرابعة سيئة الصيت، والحرس الجمهوري، القوة الضاربة لنظام الأسد؛ فجأة حولته أغاني القاشوش، والتي راح يزيد عليها الثوار بحسب كل منطقة، إلى مثار سخرية وتندر من قبل السوريين. ولم يكتف الثوار بالسخرية من شقيق الرئيس، بل حولوا الرئيس ذاته إلى مواضيع لفكاهتهم وتهكمهم المرير، فأطلق على بشار نعوت مختلفة من قبل الثوار، فسمي تارة “البطة”، وتارة أخرى “الزرافة”، وغيرها من التسميات التهكمية.
في تلك الأثناء كانت سلطة الأسد التاريخية تتفكك تدريجياً في الوعي الشعبي، ويجري العمل بجدية، ولكن أيضاً بعفوية، من قبل المنتفضين، على تدمير هذه الرمزية والسطوة المرافقة لها، وكانت السخرية سلاحهم الأكثر تأثيراً وقدرة على الوصول إلى الهدف.
في هذا السياق بالتحديد، اكتسبت أغاني القاشوش أهميتها ورمزيتها، وترددت على لسان جميع السوريين الثائرين، أطفالهم، رجالهم، ونسائهم، وباتت مع الوقت ومزيد من الخبرة، تحمل وعياً سياسياً مطابقاً. تقول إحدى الأناشيد: سوريا بدها حرية…. بدنا نشيلو لبشار بهمتنا القوية.. سورية بدها حرية… بلا ماهر وبلا بشار والعصابة الأسدية.. سورية بدها حرية.. ثوروا ثوروا حموية والأسد فقد الشرعية.
كان يجري في تلك الأيام تفكيك بنية النظام الأسدي مفصلاً مفصلاً، والمواجهات تدور في كل زاوية من زوايا سيطرة نظام الأسد، كان يجري إعادة بناء الوعي الاجتماعي في عموم سورية، وكان الزمن يقدم أدلة لا تدحض عن أفول عصر السلالة الأسدية، التي يجري تفكيكها على يد الثوار. تقول كلمات إحدى أناشيد القاشوش: يا وطنا ويا غالي والشعب بدو حرية.. ثوار نحنا ثوار ومنّادي بالحرية.. يا وطنا ويا غالي.. ارحل عنا يا بشار يا عدو الإنسانية.. يا وطنا ويا غالي.. بيقدروا يعتقلوا الشباب ويتركوا الحرامية.. ويا وطنا ويا غالي. كانت معارك المنتفضين في سوريا، تدور على جميع الجبهات، وكان السوريون جادين في إنجاز مهامهم الثورية في سياق محاولتهم إسقاط نظام الأسد، سيء الصيت.