خوان غويتيسولو، إسباني بروح عربيّة

خوان غويتيسولو

ميسون شقير

كاتبة من سوريا

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

07/06/2017

تصوير: اسماء الغول

ميسون شقير

كاتبة من سوريا

ميسون شقير

رحل قبل يومين الأديب الإسباني المغربي “خوان غويتيسولو”، صامتاً كعادته، متعففاً عن كل السطوح اللماعة، طاعناً في جرأته، وفي حزنه الشفيف، يستريح قليلاً من حمل المعنى، ويلعب مع الموت لعبته مع الحياة، يراقبه كثيراً ثم يباغته بنهاياته الجارحة.

يرحل ويترك لنا ظله مستلقياً بين كتابات تصل القلب وتثير زلزالاً من دهشة وسؤال، يرحل ويتركنا معلقين بحبل أحلامنا، نكتشف ثقافتنا في كتب لكاتب هو أشهر كتّاب إسبانيا الحديثين، وأجمل من بحث عن ثقافة عمرها آلاف السنين كانت قد عمّرت في إسبانيا منجزاً معرفياً وحضارياً كاملاً. 

لم يكن خوان مجرد كاتب بعبر بالكتابة إلى الذات البشرية بكل ما فيها من تناقضات، ولا مجرد ثائر رفض بكل ما آوتي من أدوات، سلطة الديكتاتورية، والتي تمثلت في فرانكو، ديكتاتور إسبانيا،  بل كان حالة كاملة من المواجهة التي لا تتعب، حالة من البحث الدائم عن كل ما يمس الذات البشرية الحقيقة، ومن الدفاع عن كل ما هو حقيقي فيها، حالة من التبني الكامل لتعرية كل ما يظلم الآخر، وكل من يقصيه، وكل من يزيّف التاريخ والأدب والمعرفة والسياسة لأجل مطامع سياسية، أو شخصية، أو لأجل أسباب دينية هشة، لذا فقد تبنى خوان عدالة القضية الفلسطينية أكثر مما تبناه العديد من الكتاب العرب، ودافع عن منظمة التحرير الفلسطينية وعن حقها في نضالها المشروع، ووقف مع حق الجزائريين في الإستقلال وأعلن عداءه لحكومة فرسنا المستعمرة، كما وقف ضد مذابح سراييفو، وضد مذابح الشيشان، ورفض وبكل شدة، جائزة القذافي للآداب برغم كبر قيمتها المادية، كما رفض عدة جوائز أخرى، وفي هذه الحالة عاش خوان عمره الكامل بالصدق الذي يلزم لكي يبقى نقيا، كماء المطر.

كبر خوان وكبرت فيه صورة أمه ضحية إحدى جرائم فرانكو، صورة حوّلته لعدوّ كل الدكتاتوريات في العالم، وهو أشد معارضي فرانكو، وكان خوان كلما كبر، كلما تعمق في فهم الأسباب التي تقود إلى وجود الأفكار التي توصل الى هذا الاستبداد. وقد أيقن خوان الدور الرئيسي لمفهوم الأنا الأوربية المتضخمة لدى الشعوب الأوربية بشكل عام، وللأساطير المؤسسة للقومية الإسبانية، بشكل خاص، لذا فقد تحول إلى مهاجم شرس ينتقدها بشدة، ويعري سقوطها الأخلاقي وزيفها الحضاري، ومن أكثر ما انتقده خوان الباحث دائماً على الحقائق، هو الإهمال الممنهج الرسمي الذي تقوم به المؤسسات الثقافية الرسمية في إسبانيا، للدور الأساسي والمحوري للثقافة، العربية في بناء ملامح للشخصية الإسبانية، ولبناء بنيتها المعرفية والحضارية، وقد اعتبر خوان في كل لقاءاته، أن أسوأ ما قامت به إسبانيا، منذ بدء تشكلها، هو طرد العرب المورسكيين من أراضيها، وأنها بهذا الطرد طرت أهم وأجمل ما تحمله الشخصية الإسبانية، وأنها بطردها لهم من قبل فكر كاثوليكي متطرف، فإنها قد جعلت الإنسان الإسباني يعاني فقداً حاداً في هويته، وخسارة عميقة في تركيبته النفسية والفكرية والإبداعية، واعتبر أن هذا الطرد هو تعد على التاريخ، واغتيال للحضارة وقد كرس كل حياته لإثبات هذا الدور من خلال ما قدمه من كتب بحثية تاريخية، كان أهمها كتاب “وقائع إسلامية” الذي انتقد  فيه بشدة القيم الرسمية الكاثوليكية التي قامت عليها إسبانيا في عهد فرانكو،  والتي لم تزل موجودة في الوجدان الإسباني حتى الآن، كما أن سيرته الذاتية “ملوك الطوائف” كانت أوضخ الأمثلة عن إقراره بشدة إعجابة بالثقافة العربية الإسلامية وبدور هذه الثقافة في بلورة تجربته الأدبية. 

ترك لنا خوان عدداً من روايات مميزة ومتفردة بطريقة سرديتها، وبعمق معالجتها للقضايا الكبرى والمفصلية في تاريخ البشرية، ولقد صارت تلك الروايات من أهم الروايات الأوروبية الحديثة. وستبقى تشكل لنا، نحن العرب المحكومين بالقهر، مرايا مدهشة لنتفرج فيها على أنفسنا، ولنرانا في مراياه أجمل.

لقد أدخل خوان عمق معرفته بالصوفية الأندلسية وبالأدب الصوفي الأندلسي في كل روايته، ولعل رواية “فضائل الطائر المتوحد” هي من أمتع ما يمكن لعربي ضاعت أندلسه منه وفيه، أن يقرأ، فكم هو ملفت أن نقرأ لروائي إسباني ما لا نعرفه نحن عنا، وأن نكتشف في ما ترك لنا، الحضارة الرائعة التي أنجبتنا، فالرواية هي حكايات متتالية متقاطعة ومعقدة تتشابك وتتفرد ضمن طروحات فلسفية وشعرية لابن عربي، ولابن الفارض، أما رواية “الأربعينية” -أو ما سميت “برزخ”- فقد تسببت بزلزال نقدي حولها وقد سماها الكثير من النقاد بأنها الرواية الحديثة الرديفة لرواية “الجحيم” لدانتي ولعل أكثر ما يدهش فيها هو بناء كل أحداثها على المكان الذي عاش فيه خوان أجمل أيام عمره، والذي كان أقرب الأمكنة إلى روحه، إنه ساحة جامع الفنا في مراكش، وقد شكل المكان مع البعد الفلسفي التصوفي، حالة من الدهشة ضمن مزج رشيق لكل محتوياته مع إسقاطات تاريخية وفلسفية خطيرة تجعل من الأنا الأوروبية العرقية مجرد أسطورة فاشلة.

لا كلام لنا ننعيه فيه، لقد رحل “خوان غويتيسولو”، هناك في مدينته مراكش، المدينة التي أهدى إليها جائزة “ثرفانتس للآداب”، حين قال أنها مدينته الحقيقية التي استقبلت شيخوخته المتعبة.

الكاتب: ميسون شقير

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع