تدخل عامك الرابع في سجنك، وتدخل العصافير عامها الرابع للسقوط، ولا وقت في الوقت، لا وقت للقذيفة كي تختار لحظة انفجارها، ولا وقت لتلك الطفلة كي تكمل تمشيط شعر دميتها الطويل.
لا ورد يكفي لكل الشواهد التي نمت فوق حدائق البيوت يا ناصر، لا ورد يكفي كي يرقص الشهداء جيداً قبل أن ندفنهم في الأغنية ونمضي راحلين.
في عامك الرابع لاعتقالك، صار لنا خيام تملأ قصائدنا بالهاربين، وصور مالحة في جيوب الغرقى، وشهقات أطفال تملأ الأصداف بلؤلؤها، وشرفات تهوي على ظلها، وقصائد تبحث عنك.
لا أدري يا ناصر بما سأخبرك حين تخرج، وكيف سأحمل لك كل الغزلات الميتة في تلك البراري، وإلى أية جهة سوف أدير هذا القلب
كان علينا يا ناصر أن لا نصدق الأغاني، كان علينا أن نحب أقل، وأن نعرف أننا لم نخلق للطيران، وأننا لا نستحق أصابع الأطفال في مدارس درعا، كان علينا أن نجفف دمنا فينا، أن نقدده، أن نعلقه كالبامياء على زوايا الروح، كي يسري بنا لاحقاً بلا لون.
حين يعتقل الشاعر هكذا يا ناصر تسقط السماء في حفرة من الأرض ويهال عليها تراب القلب كي يتكمل موتها فيها، ليتنا يا ناصر لم نستجر بالشعر، ولا بأصواتنا في الساحات، ليتنا لم نكمل موتنا فيه كي يكمل انتحاره فينا
أربع سنوات يا ناصر، زادت فيها الصور المعلقة على جدراننا لتسندها من الانهيار، وتركتنا معلقين على زاويتها، ومربوطين بشرائط سوداء.
أربع سنوات، صارت الأمهات تعد لأسمائهم العشاء، وكل ليلة تقص على الصور الحكايا كي يناموا في قبورهم سالمين.
لن تجد البيت اذا خرجت يا ناصر، لن تجد الطرق التي حملت أشجارها ورحلت، لن تجد ظلالهم على القلوب.
أربع سنوات، متنا فيها كثيراً يا ناصر، متنا أكثر من كل ما وعدنا به الله من موت، شنقنا من حبل سرتنا، ومن شعر أحلامنا الطويل. الرصاصات الثلاث اللواتي ثقبن ظل أخي، كبرت أربع سنوات، وحملت شهقته الأخيرة ووزعتها على كل العشيقات، وعلى البرية التي ستبقى تسيل من قصائدك، والتي تعرف فقط أن تنتظرك هناك في أحراش المعاني، وفوق عشب العبارات الطري والتي تربي معك الحياة، الحياة التي تموت بجانبك الآن تحت التعذيب.
هناك حيث أنت لم تزل تتوهج، وكلما عذبوك أكثر كلما صرت زيتا في قنديل عتيق.
هناك حيث أنت، حي كروح كانت تبحث دائماً عن الشعر فيها، عن حريتها فيه، وكانت دائما سجينة هذا البحث، حزين كظل يبحث عن قامته، وكقامة تنثر ظلها في كل اتجاهات العواطف.
حر كصوت، شديد الضعف وشديد القوة، شفاف كياسمين يخدش الروح بأظافره البيضاء الحادة
مبلل كشاعر من ماء، كنهر عصي على التوقف.
متفرد كزهرة بحرية مالحة.
هناك في نبوءة البراءة الأولى التي كنا نكتشفها كلما قرأناك، وفي تمرد الوعول على دهشتنا بها، وفي جناحيك العصيين على الانحناء، وهناك حيث تجدك قصائدك، لم تزل السماء تحلم بسماءات لا تعرفها، ولم تزل الأرض تحتفي بزلازل دمك.
هناك حيث نرحل، والطريق تحيك لنا آثار أقدامنا، كي لا تجف.
وحيث المطر لم يزل يسقي عيون الميتين وعشب القبور.
هناك، مهما تأخرت، سننتظرك.