في مقالته ”بقالة في السويد“ يتساءل الكاتب إبراهيم جابر إبراهيم عن الوطن: ”هل هو حقيقة تمشي على الأرض أم ضرورة “نوستالجية” كخبز الأمهات وشايهنّ؟“، وينهيها بسؤال آخر: “لماذا كان علينا دائماً أن نبرهن لهذا الوطن عن حبنا: مخبز الوطن، بقالة الوطن، صالون الوطن، دجاج الوطن، بار ومقهى الوطن، حزب الوطن، وكأننا عبيد هذه البقرة المقدسة، وكأنّ كل مواطن يولد متهماً ومطعوناً في وطنيته؟ حتى يثبت العكس: أن يموت والده في معركة، أو يكتب قصيدة طويلة في مديح الوطن، أو أن يُوفّق في شراء بَقّالة ويسميها: سوبرماركت الوطن“.
في الفيلم الذي كتب مخرجه السيناريو بالاشتراك مع المنتج لؤي حفار، يروي المخرج قصة علاقته النوستالجيّة مع الوطن، منذ تشكّل وعيه على اللون الخاكي الذي يرتديه طُلاب المدارس في سوريا -والخاكي أو الكاكي، بحسب ويكيبيديا، هي كلمة فارسية تعني: ترابي زيتي، وهو لون الأزياء العسكرية-ويحكي المخرج كيف صار هذا اللون طاغياً على ألوان الحياة في سوريا، دلالة على حقبة حكم البعث، التي لم تزل مستمرة حتى اليوم، ورمزاً لنظامٍ يحاول أن يفرض سطوته على كل تفاصيل المجتمع، كما يقول الرسّام خالد الخاني في الفيلم.
يعود بنا المخرج بالذاكرة عبر سيارة تدخل نفقاً معتماً، ليبدأ القصة من البداية، بعد أن نُشاهد طفلاً يرتدي الزي الخاكي وكأنه ينفذ عقوبة مدرسية، واقفاً تحت المطر ويخبرنا بأنه وُلد في زمن الخاكي في السلمية، التابعة لمحافظة حماة، وكان والده شيوعياً، لكنه بعد انضمام الحزب الشيوعي إلى الجبهة التقدمية التي أسسها النظام انسحب لأن “السقف واطي“.
يصحبنا الفوز طنجور في رحلة طويلة، تقارب الساعتين، حاول فيها أن يختزل عمراً كاملاً ليقول لنا كلّ ما في قلبه من أمل وألم وحلم ونوستالجيا عن الوطن؛ الوطن الذي يجعل أقصى حلم للمواطن هو ألا تنقطع الكهرباء والماء. هذا الوطن العاجز عن تحقيق أحلام بسيطة لساكنيه. فما ذنب هذا الوطن؟
يعود طنجور إلى جذور هذه الإشكالية، ليُحمّل الذنب لنظام فرضَ عليهم لوناً واحداً، وحكمهم بيد من حديد، ولولاه لما غادر المخرج بلاده، ويختار بيروت ليبقى قريباً من الشام. لكن “الهواء ثقيل” فيها، لذا يغادرها مع عائلته إلى النمسا، في الوقت الذي نراه من مهجره يعود من جديد لذاكرته “الهشة والسريعة وكلها بلون الخاكي” التي تركها أمام باب المنزل.
يستحضر المخرج طفولته، ويستعيدها بلقطات تمثيلية نعيشها معه في التفاصيل، كيف كان يهرب من دروس حزب البعث إلى سينما الزهراء، هروبه لعوالم قصص تشيكوف وتولستوي عند اختناقه من عالمه الواقعي، في الزمن الخاكي، الأمر الذي كان دافعاً له لدراسة السينما، ليذهب بذاكرته عميقاً حيث طفولته وهو يلعب مقلّباً قنوات الراديو، ومرّةً في صالة السينما، غارقاً في انطباعاته عن الحياة والحرية، الشاشة التي كان يرجع من خلالها إلى حاضره، ومن الواقع الحالي لشخصيات فيلمه، ليمر على صورٍ متعددةٍ في الوطن، كالانتقال من لوحة خالد، إلى بالون يحلق في السماء ومنها إلى لقطة عامة درون- تُظهر آثار الدمار في سوريا،كأنه يتساءل: هل تستحق الحرية كل هذا؟
في ذاكرة باللون الخاكي يُفصح طنجور عن الحقيقة التي في داخله عما عاشه في زمن الخاكي، ويحاور نفسه وضيوف فيلمه الذين تجمعهم به علاقة شخصية، حول حياتهم التي كانت قبل لجوئهم. مثل الكاتب والأديب إبراهيم صموئيل، الذي كانت إحدى قصص مجموعته «رائحة الخطو الثقيل» هي قصة أول فيلم صنعه طنجور وعلى أساسه قُبل لدراسة السينما في مولدافيا “هذا البلد الفقير الذي نسيته كل الخرائط”. وعندما عاد للشام وأراد صنع فيلم عنها، كان أول شخص خطر بباله هو إبراهيم لأنه أكثر شخص يُشبه دمشق؛ الرسام خالد الخاني، الذي هدم النظام منزله واقتلع عيون والده في الثمانينات خلال أحداث مدينة حماة التي شهدت مجزرة ارتكبها النظام السوري هناك وتعرف عليه المخرج بالصدفة خلال البحث عن شاهد من المدينة.
في حواره الذاتي مع نفسه يحكي المخرج بأنه خاف حين سمع قصة الخاني، لذا سأله: “بعد كل اللي صار معك.. كيف قدرت تصير رسام؟” خالته أماثل وهي المعارضة التي ظلت مختفية عن أعين النظام لمدة عشرين عاماً، تحكي كيف أن في دم السوري كريات دم بيضاء وحمراء وكريات بلون الخاكي، وصديقه المخرج الوثائقي شادي الذي اعُتقل أكثر من مرة لدى النظام، وظل مُصراً على سلميته وإيمانه بانتصار الثورة، والذي يقول: “في الحالة السورية، الناس لا يمكن ترجع لورا لأنه الناس ذاقت طعم الحرية”.
استخدم المخرج لقطات ومقابلة أرشيفية مع صموئيل من فيلمه «دمشق.. سيمفونية مدينة»، 2010، ليوضح بأنه قد عاد له في فيلمه «ذاكرة باللون الخاكي» بعد حوالي سبع سنوات ولكنه لم يعد في دمشق بل انتقل إلى الأردن، ومن صور لطفل يتحسس قطرات المطر من خلف الزجاج يأخذنا إلى صموئيل الذي قضى عمره كله يسعى إلى “تلوين الحياة“، وينظر من الشباك.
هذه الحياة التي كانت محكومة بالعقوبة كما يتذكرها طنجور، وفيها الأمل هو “النطرة بطابور طويل قدام مؤسسة التموين العسكرية لجيب لأمي حصتنا من الرز والسكر المر“، أما الحرية الوحيدة التي عرفها فكانت اختياره لنوع العقوبة، ولكن مع ذلك شكلت السينما متنفساً له، فقد استطاع أن يُشاهد سوريا من خلال الأفلام، وعندما خرج منها حملها معه. وهنا يعيدنا إلى تلك الحالة النوستالجية وارتباطه بالوطن، الذي يشتاق له على الرغم من كل القهر والوجع، وكيف ظلّ يردد شعارات البعث لمدة 12 عاما (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة… أهدافنا وحدة، حرية، اشتراكية.. إلى الأبد يا حافظ الأسد)، ومع لقطات للدمار الذي لحق بسوريا، ولمبنى مهدم كُتب عليه ”طلائع البعث أمل المستقبل“، يخبرنا عن مدى كرهه لكلمة “الأبد”، بينما كانت “حرية” هي الكلمة الوحيدة التي يقولها بصوت عال.
كان واضحاً في الفيلم تأثّر طنجور بالمخرج السوفيتي أندريه تاركوفسكي (1932-1986)، إذ بدت صور الذاكرة وما يختلج في داخل الشخصيات ولقطات وحدتهم هي ما يطغى على بناء المشهد العام في الفيلم وعلى حساب الأماكن التي كانت صورها بالفيلم مبعثرة كلمحات تعكس رؤيتهم الخاصة للوطن وما فيه، ومعنى البعد عنه، فلم يكن المكان الذي يعيشون فيه مهماً بقدر غربتهم الذاتية؛ هذه الغربة التي طالت بعضهم منذ وجوده في الشام، مثل إبراهيم وحديثه عن ضيق الزنزانة التي سُجن بها وكيف كان غريباً في وطنه، وعن خالته التي قالت لها أمها حينما هربت عن أعين النظام: “سترجعين اليوم” ولكنها لم ترجع وظلّت مختبئة في بلدها وغائبة عن بيت أهلها حوالي عشرين عاماً.
يقول تاركوفسكي في كتابه «النحت في الزمن»: إنني أدرك تماماً أنه، من وجهة نظر تجارية، سيكون مفيداً أكثر الانتقال من مكان إلى آخر وتقديم لقطات مأخوذة من زاوية متقنة إلى أخرى، وتوظيف مناظر طبيعية ساحرة ومواقع داخلية مؤثرة. لكن بالنسبة لما أحاول أساسا أن أفعله، فإن المؤثرات أو المظاهر الخارجية تؤدي ببساطة إلى إقصاء وتضبيب الهدف الذي أنشده. إنني مهتم بالإنسان لأنه يحتوي الكون داخل ذاته“.
يتذكر المخرج الياسمين، الجمعة، المخيمات، محاكم أمن الدولة، المخابرات، الشعارات، قوانين الطوارئ، الدستور مع صورة لقصف جوي، ثم يقول: “تغيب الدار وأهلها ونصبح صوراً مبعثرة وأفلاماً تسجيلية قصيرة على اليوتيوب”. في حين نراه طفلاً صغيراً يركض في الحقل توقاً إلى الحرية.
يعود بنا طنجور إلى أحد أفلام تاركوفسكي وهو «نوستالجيا» حينما نشاهد طفلاً صغيراً يدرس وبجانبه شاشة التلفاز تعرض الفيلم الذي يتحدث عن ”شاعر يذهب إلى إيطاليا في القرن الثامن عشر لجمع مادة عن الموسيقار الروسي ماكسميليان بريوزوفسكي الذي كان عبداً مملوكاً لإقطاعي، فذهب مبتعثاً من سيده إلى إيطاليا وهناك حقق نجاحاً موسيقيا كبيراً، وظلّ هناك لسنوات طويلة لكنه عاد مدفوعاً بالنوستاليجا الروسية إلى العبودية، وبعد فترة قصيرة انتحر شنقا..“ وكأنه يؤكد على أن النوستالجيا السورية ترافقهم رغم ما في الوطن من قهر وعبودية لنظام اللون الخاكي، وكما تقول أماثل: “مثل حبل سري بزودك بالحياة وبنفس الوقت بخنقك“.
نسمع المخرج وهو يردد كلمات باللغة الألمانية التي يُحاول تعلمها، في إشارة إلى علاقته بغربته وتفاصيل منفاه ومنها: شباك، مدينة، حرية.. ويختمها بالقول: “أريد أن أعيش” مع لقطات لقصف وانفجارات في سوريا. تختصر حكاية شعب بأكمله يريد أن يعيش بحرية.
وبطفل ينظر من النافذة، وكأنه ينظر إلى الحاضر خائفاً من الهرب خارج الوطن، ويسأل نفسه: أيهما كان أفضل؟ ينقل لنا الجواب على لسان إبراهيم: “مجرد انتقالك من بلدك هو مقبرة.. السمكة إذا تمّ بيع النهر تقفز لتموت على البر.. وأنا ما بدي أنباع.. أنا لست مُلكاً لأحد إلى يوم القيامة“.
هو الصراع الدائر في نفوسهم ما بين البقاء في الوطن والعبودية للطغاة أو معاقرة الحرية التي لم تنجح في انتشالهم من نوستالجيا الوطن، الذي يعيش ثورته، وكما يقول شادي: “ما طلعنا خوف من البلد، ومش إنه تركنا الثورة.. أكثر شجاعة إنك تواجه السلاح بصدرك العاري، تحمل السلاح مش مزحة، شوف سوريا وين صارت؟ وبالنهاية ممكن تتقسم سوريا، وصار ميّت نص مليون بسوريا. أكيد بتستاهل الحرية والديمقراطية، بس بالنهاية كان ممكن ما ندفع كل هالثمن وننتصر، نحن عدونا الديكتاتورية والقمع والحكم الشمولي“.
هي ليست حكاية الفوز وحده ولا أبطال فيلمه، بل حكاية شعب بأكمله، “أنا مواطن عادي، مقسم ومطروح بعلن وأنا بكامل الشتات انشقاقي النهائي لـ ٢٣ مليون حلم…” إلى أن يختم حديثه بالقول “لهلأ أطول ثانية بعيشها هي كل ليلة لما غمّض عيوني وأتمشى بشوارع الشام للصبح“.
طوال الفيلم يمزج المخرج ما بين صور ذاكرته ولقطات متنوعة وعديدة تعكس حالة الحنين والشوق إلى الشام، والتوق إلى الحرية؛ فنرى الجاكيت الخاكي معلقاً على حبل غسيل في أحد الحقول وكأنه يحاول الهرب منه، وعجوز على بسطة خضار وسط الدمار يشاهد التلفاز ويسمع الأخبار؛ وما بين توظيف لقطات من المنفى للغابة والأوراق المتساقطة عن الشجر وتساقط الثلج، وبين لقطات دمار في بلاده، وصور قاسية للاجئين سوريين في محطات المترو، في أماكن مختلفة من أوروبا، يجمع صور الماضي والوجع اليومي ليعيد حكاية الثورة والحرب في سوريا منذ البداية؛ بين ما حصل وما كانوا يتمنوه وبين ما وصلت إليه الأحوال، نرى طفلا يركض في الحقل ثم جندي في ثكنته يطلق رصاصة لا نعرف لها مستقراً، ولكن يُمكن لها أن تغتال وطناً بأكمله.
يبرع الفوز طنجور في استعادة ذاكرته ويعرضها حيةً أمام المشاهد ويدخله إلى عالمه الخاص، مازجاً ما بين ماضيه وحاضره، وندرك مدى إصابته بــ”العودة” إلى الشام حين يحكي: “هون بفيينا بضل بردان، برد يبنخر العظم، بذكرني ببرد الشام، مالو حل ”.