سامحيني، لم أكن أحفظ اسمك كما أحفظ بعض أسماء الفنانات السوريات اللواتي تقمصنني في كثير من الأدوار، لكني حين رأيتك في أول مقابلة لك، المقابلة التي رأيتها خلسة عن الأعين التي كانت تراقب كل ما نفعل، وحتى كل ما كنا ننوي ولم نستطع، حينها لا أدري لماذا أحسست أنك تشكلين لي توأماً، ونداً، وتحدياً، وعالماً طاعناً من الألفة، والنفور.
كان في صوتك وتحديك، وأنت تهتفين، قوة تعينني على الاستمرار، ولكنها أيضاً، تذكرني بأني لم أزل أضعف مما أريد أن أكون، فأحببتك جداً، وكرهتك قليلاً.
في إحدى العصريات من نهاية صيف 2011 وأنا في صيدليتي المكتظة بوجوه فقدت ملامحها، وجوه أهل داريا الذين جاؤونا وقد تركوا كل حياتهم للبراميل كي تكمل عنهم أحلامهم الثقيلة، ومنهم من ترك مع حياته، أحد أو كل أبنائه واستراح من حملهم مستقبلهم، فدود التراب تكفل به، هذه الوجوه التي كانت تأتيني مليئة بالذل والمرض، وارتفاع حاد في الحرارة والقهر، ولم تكن تملك، ثمن خافض لتلك النار إن كان سيتامول، أو بروفن، أو وجهاً واحداً في مدينتي يقول: “نحن معكم فاتكؤوا علينا قليلاً ريثما تنتهي المجزرة.“
في تلك العصرية جاءتني صبية تسكن مدينتي، وقالت لي: “أنا لا أخاف من القادم، سينتصر هذا الشعب الطيب والمحب، سينتصر هذا الحب، انظري إلى فدوى سليمان من الساحل تغير المعادلة، ومي اسكاف تغير المعادلة، وسميح شقير يغير المعادلة، وهذا الحب الحقيقي الذي يسري فينا هو أكبر من كل تلك البراميل، وجلست بقربي حين فرغت الصيدلية قليلاً، وقالت: ”انظري إلى فدوى والساوروت والناس وعيونهم، واحتفائهم بهم، وشاهدتك يا فدوى لأول مرة وأنت شجرة كاملة لا تهتز، وصوتها يملأ صفحات الفيس بوك والمحطات والإنترنت والصيدلية وقلبي وقلب الصبية التي أدركت أنها كانت ترتعش وتهذي من ارتفاع حرارتها.
في المساء بحثت عنك على الإنترنت، وبدأت أشاهد لك مقاطع تلفزيونية ومسرحية، وفي آخر الليل حلمت بأني أنت، وأن صوتي، كصوتك، كسر السماء.
حين اغتيل أخي لأنه حلم بشجر ينمو في تلك المسافة بيننا وبين الحياة، تفاجأت برسالة منك على الخاص، وكنت حينها لا أميز أحداً، لكن صدق ما كتبتِ كان كافياً كي لا أنسى تلك الرسالة.
في نفس الوقت عرفت أنك ذهبت إلى كل المدن السورية التي لم تشتهيها البراميل بعد، كي تجمعي ملابساً وأدوية التهاب وخوافض حرارة للأطفال لعلها تدخل المدن المحاصرة، حين سمعت اسمك زقرق عصفور صغير كان يبني عشه على الأشجار التي حلم بها أخي، لذا تركت لك مع الملابس وخوافض الحرارة للأطفال، كلمة صغيرة “شكرا فدوى سليمان“.
بعدها يا فدوى، تتالت الخيبات والأيام، وبدأنا نكتشف أننا استُبحنا، وسرقنا، بكل الأحلام التي كنا نخبئها، وأن لوناً أسود بدأ يغزو كل هذا الطيف، فالأبيض جاء مع غياث مطر إلى أمه بلا قلب، والأزرق لم يزل هناك مع سميرة خليل ورزان زيتونة، والأخضر نزح ولجأ وهرب وتمزق مع قلب فارس الحلو، ومع قلبي وقلبك، أما الأحمر فقد بقي هناك على ملابس أخي وفي الأغنيات التي كنا نرقص فيها الشهداء ثم ندفنهم في الأغنية ونمضي راحلين، الأصفر تركناه كاملاً وطازجاً، في وجوه لم تزل تسكن زمناً توقف حين لم يكن نملك زمناً كي نودعهم، أو حتى كي نعتذر لهم عن موتنا، أو رحيلنا القسري إلى المنفى/القبر.
اكتشفنا متأخرين يا فدوى، هذا الأسود، الصاعق، الضخم، الفظيع، الذي سكن اللوحة، والذي سكن روحك، وبدأ يلتهمك رويداً رويداً.
هنا في منفاي، عرفت حين زرت باريس/منفاك، أنك اكتشفت الأسود أكثر مما يجب، وأنه يطل من عيونك التي بدأت تذوي، والتي كنت أرى نفسي فيها، أراها على حقيقتها التي أهرب منها، فأهرب يا فدوى، ونهرب كلنا من حقيقة عيونك، حقيقتها التي أسقطت عيوننا البلاستيكية الجميلة، التي حاولنا أن نلصقها، ونحميها، بمضادات الشيخوخة، ومضادات البكاء، وبمضادات المواجه، والتجاعيد.
هكذا تركناك وحدك يا فدوى، وضعناك على الرف، واصطنعنا نسيانك، كان هذا أسهل علينا يا فدوى، نحن أيضاً تمزقنا كثيراً، كثيراً، وصرنا مثل “قميص” ذلك “اللوكس” الذي عرفناه كثيراً في السنوات الأخيرة، القميص الذي نراه يتوهج، ويضيء، لكنه إذا لمسه أي شيء، حتى الريح أو الخنين، “يهر” ويسقط كاملًا، هشاً، وبلا أثر.
اليوم تعاقيبننا جميعا، وتموتين، تجلدينا بصمت موتك، وتنتقمين من عيوننا البلاستيكية التي سقطت منا مع الملح الذي سال حين قرأنا خيانتك ورحيلك، وليس هذا فقط، فأنت ترحلين وتصرين على أن تجري جثثنا خلفك عارية، إلا من صمتنا، اليوم سنغير صورنا لفترة على الفيس بوك إلى صورتك، ثم نكمل نسياننا ونستريح.
ومثلما حلمت ليلة بأني أنت، أراني الآن وأنا التي لم أكن أعرفك، والتي لم تلتق يوماً بك، أراني أدخل جثتك، البرودة تحاصر أصابعي، وخدر لذيذ بدأ يسري في كل أعضائي، وأوقن بأني سأكون معك في هذا الأبيض، وسنترك الباقين وحدهم في هذا القبر.