تفتقر التجربة الفلسطينية عامة، إلى التوثيق الجاد لوقائعها. هذه ليست المشكلة الوحيدة. أحياناً كثيرة يجعل واقعُ الاحتلال والاقتلاع والتشريد والتهويد والمقاومة الحكايةَ محفورة على جلود الفلسطينيين وبدمهم، دون أن يستطيع أحد إنكارها، وحتى ليشعر كثير من الفلسطينيين أن ما يقوله الواقع أغنى مما تحكيه اللغة. ولكن! ثمة مشكلة رئيسية وعويصة في الكتابة (أو إدعاء التوثيق) من زاويتين متقابلتين بحدة، عندما يدور الحديث عن التجربة الفلسطينية عربياً، خاصة عندما يتعلق الأمر بمسار تلك التجربة في الأردن ولبنان.
هناك من يروي وقائع لا يظهر فيها سوى ما تعرّض له الفلسطينيون، من ظلم وتعسف وتآمر على قضيتهم وثورتهم. وبالمقابل هناك من يسوق سردية عن تدخل الفلسطينيين في سياسات البلدين وسعيهم إلى التحكم بالقرار وتهديد الاستقرار والأمن. في الأولى يبدو الفلسطينيون مجموعة من الملائكة، وفي الثانية تلصق بهم كل أنواع التهم التي تقود إلى شيطنتهم.
قليلة جداً هي السرديات التي تقع في منزلة بين المنزلتين، والتي ارتكزت إلى إبراز التناقض بين “منطقَي الدولة والثورة” في تفسير وقائع ومسار التجربة الفلسطينية في كل من لبنان والأردن. وهي في المجمل تُوصف على نحو باهت بـ ”التوازن”.
تبغ وزيتون
من الواضح أن معين الطاهر في كتابه «تبغ وزيتون: حكايات وصور من زمن مقاوم» لا يبدو منشغلاً بتصنيف “روايته”، إذا كانت ستُحسب منحازةً للسردية الفلسطينية التقليدية، أو مليئة بالنقد لتجربة قابلة للنقد، أو أن توصف حتى بالتوازن، لكونه بيّن في مطارح عديدة موقفاً “للتيار” الذي أسهم في تأسيسه، وجاء متعارضاً مع الموقف الذي تبنته القوى الفلسطينية بشكل عام، ومن بينها حركة فتح التي يبرز أيضاً اعتزازه بالانتماء إليها. وعندما لا ينشغل المرء مسبقاً بتوقع التصنيف، يستطيع الكتابة بكثير من الصدق.
أحسب أنه عاش تجربة تستحق أن تروى، فقام بذلك من موقع المشارك الفاعل والشاهد القادر على الاعتراف حيث أخطأ والفخر بما أنجز. دون صغار في الحالة الأولى، ودون تباه في الثانية، وهكذا جاءت الرواية تعاملاً حاراً مع تجربة إنسانية بما لها، وما عليها.
لا شك في أن تجربة “الكتيبة الطلابية” (كتيبة الجرمق) هي واحدة من أبرز تجارب العمل العسكري والسياسي، ليس داخل حركة فتح، ولكن ضمن مجمل التجربة العسكرية والسياسية الفلسطينية. فقد نشأت تحت ضغط البحث عن إجابات حول ما حدث في الأردن عام 1970، وخروج المقاومة من جبهة المواجهة الطويلة على الحدود مع فلسطين المحتلة، ونمت في ظل الإجابة على تحدي بقاء المقاومة في لبنان، وتكرس حضورها في المواجهة الاستثنائية ضد جيش الاحتلال، على الحدود مع فلسطين المحتلة في جنوب لبنان، وفي خوضها معارك اجتياح 1978، ومعركة الشقيف عام 1982.
لكن هذا ليس كل ما يميز الكتيبة الطلابية التي بدأت تحت اسم السرية الطلابية في معارك الدفاع عن الثورة الفلسطينية منذ عام 1973 في لبنان. فإلى كونها ضمت كوادر فلسطينية ولبنانية ومن أقطار عربية أخرى، غالبيتهم من طلبة وخريجي الجامعات، فقد امتلكت خطاً سياسياً وفكرياً واضحاً يجعل الأولوية للمواجهة مع العدو الصهيوني، ويغلب هذا الخيار على كل ما سواه، حتى أنها وقفت بشدة ضد “قرار عزل الكتائب” عام 1975، وهو القرار الذي أجج الحرب في لبنان. كما أنها نجحت بكادرها المميز في بناء علاقة صحية وصحيحة مع الجماهير اللبنانية في قرى ومدن الجنوب.
لا يمكن لعرض مختصر إيجاز كتاب على هذه الدرجة من الأهمية وهو المحتشد بكم هائل من التفاصيل والأسماء والحكايات. بيد أنه من الضروري التوقف عند نقطتين هامتين، أفرد لهما الكاتب المساحة المستحقة، وهما من بين ميزات أخرى تجعلان الكتاب من أهم ما كتب عن تجربة الكتيبة الطلابية، وهو ليس بالقليل.
الداخل وخلف الخطوط
“لم يكن هم الكتيبة منصباً على تعزيز مواقعنا في الجنوب اللبناني، والتصدي للاعتداءات الصهيونية عليه فحسب، بل لعل هاجسنا الأول والأساسي كان منصباً أيضاً على كيفية التوجه نحو الأرض المحتلة” (ص 171). هنا نقع في فصل شبه كامل على تجربة مبدعة، لقادة ومقاتلين مبدعين “تخصصوا في عبور النهر“.
أما تلك القصاصات بخط الشهيد “علي أبو طوق” فهي تروي وقائع مثيرة وغير معروفة عن العمليات التي قامت الكتيبة بتنفيذها “خلف خطوط العدو” بعد الاجتياح الصهيوني للبنان. (ص 239 وما بعد) ومنها عمليات أحدثت ضجة كبرى، وتسببت واحدة منها (أسر الجنود الإسرائيليين الثمانية) في تحرير الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين واللبنانيين والعرب من سجون الاحتلال.
ثم يأتي الحديث عن المآلات ودور كوادر الكتيبة في تأسيس الكثير من تيارات وقوى المقاومة التي احتلت المشهد في السنوات الأخيرة، مروراً باستشهاد القادة الثلاثة الكبار اغتيالاً في قبرص (أبو حسن، حمدي، مروان).
في الكتاب الذي أصدره “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” ضمن سلسلة “ذاكرة فلسطين” يحكي معين الطاهر عن محاولاته الشعرية الأولى، وعن مغادرته كتابه الشعر إلى الاستمتاع به. لكن القارئ يلحظ بسهولة حضور “الشاعر” في قلم “المقاتل” وقائد الكتيبة الطلابية. فإن اقتضى السرد تحليلاً عسكرياً صارماً، كان هذا هو الحال، وإن حضرت ذكرى الشهداء انثال الوجد من ريشة القلم. رواية صادقة تستحق القراءة. وهي تزيح أستاراً من التعتيم المقصود والرامي لإظهار التجربة الفلسطينية وكأنها مسلسل من الخيبات والخطايا.