يذهب الكل ولكنه يبقى الاسم… هكذا قال سركون بولص في إحدى قصائده، فهل كان يفكر باسمه الغريب عن اللغة التي كان يكتب بها، سيكون هذا هو اكتشافه الأخير في ساعة خمود الأمة الأخرى التي كتب بلغتها، وهو المولود في الخزي الأكبر: إفلاس الاستقلال، وإفلاس الدولة، وإفلاس الأمة، ففي العام 1933 قررت الدولة العراقية قتل الآشوريين وتشريدهم وهم بناة العراق القديم، وفي العام 1965 أراد سركون بولص وظيفة في وكالة الأنباء العراقية فرفض طلبه لأن الدولة ذلك الوقت لا تسمح للآشوريين بالعمل في وكالة الأنباء أو التعليم أو الجيش، فهل هبط إلى اللغة الأخرى بياقة زائفة؟ كان عليه أن يجد نفسه معدوماً وسط دولة من المحاربين، دولة من السياسيين الموسوسين، والمكبلين بالطائفية.
هكذا عاش سركون بولص في العراق، عاش في عدم الأمة المقهورة وكان عليه أن يكتب شعره بلغة الأمة القاهرة، كتب شعره باللغة ذاتها التي كتب بها قرار تشريد الآشوريين وقتلهم ونفيهم، كتب باللغة التي قررت المصير المأسوي لهويته، وكان من القوة بحيث استطاع أن ينكر عدمه، أن ينكر نفيه في لغة الآخر، ليجعل من قصيدة النثر نوعاً من بلاغة الأمة المقهورة بلغة الأمة القاهرة، ومن ثم أن يجعل من خطاب النثر توحداً للمقهورين من كل الأمم، حتى مقهوري الأمة القاهرة، عبر نقوش، وصور، واستعارات من أعلى المجتمع ومن أسفله، عبر توثيق للحياة اليومية من مؤرخ ملهم، أو من ناسخ scribe متورط في الحوادث التاريخية، وهكذا كانت قصائده تسير، لا على الأفكار المتعالية من الفلسفة، والأفكار الغامضة من الوجود والعدم فقط، إنما من صبيان الفرانين، ومن الفلاحين في الشمال، ومن صناع الأحذية، من الكوازين، من المتقاعدين، ومن الأماكن المجروفة التي جاء قرار تشريد سكانها ونفيهم.
كان سركون بولص يدرك وهو في ذروة نفيه وعدمه، كان يدرك وهو في أعلى درجات إقصائه وتهميشه معنى توحده مع النثر، كان يدرك حتى اللحظة الأخيرة أن خروجه عن الإيقاع الثابت هو شكل من أشكال الخروج عن الثابت الذي يؤكد حضور السلطة في المركز، المركز الذي يؤكد إقصاءه وتهميشه، وكان يكتب بلغة المركز ولكن بعد حرفها وميلانها عن مركزها لا في إقصائها عن الإيقاع والمحددات الوزنية والكمية فقط، إنما في تغريبها عن سياقها وإنشائها، في تغريبها عن البلاغة الباقلانية ودفعها شيئاً فشيئاً نحو البلاغة الحديثة للغة المترجمة، كان سركون بولص يكتب بلغة مقتلعة تشبه لغة النصوص المترجمة أكثر من شبهها باللغة العربية السياقية، وهو نوع من التغريب داخل اللغة ذاتها، إنها نوع من البحث عن هوية مخالفة تشكل نفياً للغة المعيارية وتغريباً لها، فالتغريب هو قطيعة بامتياز، والقطيعة تجسد بصورة حقيقية لا استعارية فقط فكرة الحداثة، فقصيدته هي نوع من الحذف التدريجي للغة المعيارية، نوع من الحذف المنظم للاستعارة الدارجة، حيث تذهب القصيدة على الدوام إلى ما هو مدهش بلا زينة، بلا كبرياء، وبحياد كامل، لغة تذهب على الدوام إلى ما هو مدهش ومحايد، لأن نسق اللغة عنده، يرتكز على نوع من الصراع بين ما هو رغبة بالبوح وخوف منها، بين ما هو إشارات عابرة على الدوام، وجمل مرتخية وقابلة للمعنى تقريباً، بين ما هو ملاحظات عاطلة عن التصريح وعن المعنى الصريح وما هو معنى مطلوب ومرتجى يمكن التقاطه بسهولة.
إنه المعنى الذي يستمده من التاريخ التراجيدي لهوية أمة مقهورة… فخيار سركون بولص للقصيدة الهامشية هو توافق لهامشيته وإقصائه، إنه ممارسة أخرى ولعب بلغة أخرى… فهذه الأمة التي حافظت على لغتها القديمة اختارت المسيحية ديناً لها، والمشكلة أن هذه الأمة المنشقة لم تختر المسيحية في إطارها وانتشارها الكوني، إنما اختارت النسطورية، الفكرة الشقاقية التي لا تعترف لا بالتجسيد ولا بالتثليث، فنفيت حتى من المسيحية ذاتها، أما الشعوب الأخرى، فقد مزقت هذه الأمة المتمردة وذبحتها حتى ولغت في دمها، فقد ذبحتها الكتائب الفارسية حتى أنهت كيانها السياسي، وذبح الأتراك بقايا الآشوريين المشردين أصلاً وشردتهم مرة أخرى، إلى إيران والعراق، ثم ذبحهم الأكراد واغتصبوا نساءهم وصادروا أراضيهم، وأخيراً ذبحتهم الدولة العراقية مع العام 1933 في منطقة سميل والقرى المحيطة بها. صوّر سركون بولص مسيرة تشرد هذا الشعب وتمزقه من الأناضول إلى همدان، بكتابة هي أصلاً ضد الكتابة، لأنها ضد الموت، وهي بلغة الموت أيضاً. ولم تكن غايته هي غاية شعرية فقط إنما هي غاية وجود، لأن لغته القومية هي صدع في تاريخ وجودنا برمته، وهي المنفى بامتياز في تاريخنا. فكان يصنع الصورة من الكلمات، الصورة الحسية المتجسدة بقوة، يصنع اللغة المتدفقة عبر الألم، طالما هو يصنع اللغة التي تضيء، وتتمخض عن تيهان أمة في ردهات المجازر والاستئصال. طالما هو يكتب بالنار، أو بالرماد الغامض، طالما هو يضيء زاوية من التاريخ، حيث أمته كانت ترتمي في المجزرة السوداء، طالما ذاكرته تستيقظ وهو يسرد بصمت كامل، ويعرض علينا النساء المغتصبات محمولات على المحفات.
قدر الشعر هو قدر سركون بولص ذاته، قدر قصيدة النثر هي قدره، الشاعر الذي يقوم على خلخلة اللغة، يعيد توقيتها مثل الساعة، مخطط الفكرة مثل مخطط الثورة، مطعّم النص بالعقلانية المختلة، مصلح الحياة بروح الكلمة، الشاعر المقذوفة صورته من غابر التاريخ إلى الحياة المعاصرة، المؤرخ الذي صنع من السوداوية بديلاً من الفرح الذي لم يطل زمنه.
نصوص سركون بولص هي إيذان بخروج القصيدة من عالم الهوية الخاصة إلى عالم الهوية الكونية، من العالم الضيق إلى العالم المفتوح، إنها عالم الحياة كما هي عالم اللغة، اللغة التي طوعها في نصوصه، اللغة التي أعاد اكتشافها مع كل نص، فاتحاً أمامها إمكانات غامضة، فحقيقة اللغة لا تتكلم إلا من ظل اللغة، وهكذا أعاد لظلال اللغة نصاً غائباً وهو يقلب نظامها الحقيقي واستعاراتها، دامجاً إياها مع اللغة المترجمة. إنها اللغة التي كتب بها قصائده: لغة تثبت وتقيس، لغة تصرح وتضمر، لغة معطى ولغة ممكن، لغة فوران حقيقي وهدوء قدري، لغة تعكس التحول الحقيقي في الذائقة والوجدان، لغة انسجام وغائية باطنية، لغة ارتياب حقيقي وهي تعدنا بشيء سيأتي ولا يأتي. لقد كتب سركون بولص قصائده بلغة كثيفة، لغة ترن مثل إناء مجوف، كتب نصاً يغور بشكل لا يقاوم، لا يستقر، لكنه طليق، لا يمنح نفسه ولكنه متفجر، متفجر لأنه يصل كل منطقة غير منتظرة.
أخيراً مات سركون بولص، مات هذا الشاعر الأتنولوجي بامتياز، هذا المختص بذكريات الأمم المقهورة، هذا الذي دفع من دمه ولحمه بناء الحكاية، وكان يدرك هذه اللعنة، لعنة الكتابة بلغة الآخر، ولم يتوقف إنما اتبع عقابه إلى الأبد، هذا العقاب الذي ذهب معه إلى منتهاه وهو يتألم منه، مات هذا الشاعر الذي ذهب مع لغة الاجتثاث، حيث استخرج منها معنى مسروراً وضاحكاً، غائراً وخائفاً، أنانياً ومهووساً، إنه بطل السقوط باحتراف كامل، بطل سقوط أمة، منذ نهاية كيانها السياسي، منذ أن أصبحت نهباً للأمم الأخرى.