هل يُمكن أن يصمد الحب ويعيش في واقع ينضح بالمادية ويحيط به القبح من كل جانب؟ ويكون هو حائط الأمان ضد التقلبات الاجتماعية والزمنية؟ هذه بعضاً من الأسئلة والأفكار التي يطرحها فيلم «فوتوكوبي» -سيناريو هيثم دبور وإخراج تامر عشري- الذي حصد جائزة أحسن أفضل فيلم روائي عربي في الدورة الأولى من مهرجان الجونة السينمائي للتعبير عن مضمونه الذي يدور حول الصراع بين زمنين، أحدهما نقي وطبيعي والآخر طُمست هويته وفطرته بفعل طوفان جارف من الجهل والعشوائية، وذلك في إطار رومانسي جذاب، لفيلم اختار البساطة والعفوية للوصول إلى قلب مشاهده.
محمود فوتوكوبي (محمود حميدة) ستيني متقاعد يُدير محلاً لتصوير المستندات، يقع في حب جارته صفية (شيرين رضا) الأرملة التي تعاني من الوحدة والمرض، في قصة حب قد تبدو للوهلة الأولى عادية، لكنها تحوي في مكنونها الكثير من الدلالات التي تستوجب الالتفات إليها.
الأصالة والنقاء
يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه محمود فوتوكوبي وهو نائم على المقعد أمام المحل الذي يستأجره لتصوير المستندات وكتابة الرسائل العلمية، وحيداً غيرعابئ إن رُزق بزبون أم لا، يعيش اليوم بيومه، محله يتسم بعلامات القدم الشديد بإضاءته الخافتة وديكوره العتيق، جهاز كمبيوتر قديم بشاشه كبيرة، ومكتب خشبي قديم الطراز بالأضافة للافتة المحل المكتوبة بخط اليد على عكس اللافتات الحديثة المكتوبة على الكمبيوتر الفاقدة لأي مظهر جمالي. كل ذلك يوضح معالم البيئة المحيطة بالشخصية، التي هي امتداد طبيعي لحياتها وخلفياتها السابقة، فمحمود الذي لم يكن التصق باسمه لقب فوتوكوبي كان يعمل في مؤسسة دار الهلال كعامل تجميع، يجمع مقالات الكتّاب ويكتبها على الكمبيوتر، مهنة أصابها الاندثار الآن، لتبدو في النهاية الشخصية وكأنها خارجة من زمن قد ولى، زمن الأصالة والعتاقة.
أما شخصية صفية، فقد قدّمها السيناريو بشكل دراماتيكي بعض الشيء، أرملة مسنة تعاني الوحدة ومرض السرطان الذي ينهش فيها ببطء مُستلذ، ينتهك حرمة جسدها الواهن، ففي مشهد من أرقّ مشاهد الفيلم نراها وهي تُبدل ملابسها فيسقط الصدر المطاطي التي كانت تضعه، لتُمسكه بيدها وتربت عليه بحنان، ليصبح المشهد كله رغم مأساويته مُعبراً عن إحساسها كامرأة نحو جسدها. حياتها تسير وفق منوال ثابت لا يتغير، لا تخرج للشارع تقريباً إلا فيما ندر، حركتها وهِنة، تعيش بمفردها بعد وفاة زوجها وسفر الإبن، لتبدو حياتها سيمفونية حزينة مُطعمة بآلام المرض وأوجاع ومخاوف الموت، لذا نراها في أحد المشاهد وهي تُخبر الصيدلانية أنها تخشى أن تموت ولا أحد يدري بموتها سوى من رائحتها، تسليتها الوحيدة تتمثل في الراديو وتحديداً إذاعة الأغاني حيث تبحث عن إحدى الأغنيات القديمة لليلى مراد، لتصبح هذه الأغنية التي تبحث عنها دوماً هي التيمة المشتركة والشديدة الخصوصية بينها وبين محمود، وكأنها ببحثها الدائم والمحموم هذا تبحث دون أن تدري عن نصفها الآخر الذي لا يكون سوى محمود فوتوكوبي.
المكان هو أحد أركان القصة الرئيسية واختياره يجب أن يكون مُعبراً عن مضمون الحكي، ومن هنا جاء اختيار حي “العباسية” كمسرح للأحداث مُعبّراً عن تيمة الفيلم وكان موفقاً للغاية، فالعباسية حي قديم من الزمن الجميل كما يُطلق عليه البعض، وبالتالي الشخصيات التي تنتمي إليه لها طبيعتها التي تتوافق وتتلاءم مع المكان، فأغلب سكان الحي ينتمون للطبقة المتوسطة، قبل الغزو الريفي والعشوائي الذي بدأ تجاه القاهرة منذ السبعينيات ومع بدايات الانفتاح الذي لا تزال أثاره وتوابعه جلية حتى هذه اللحظة. انفتاح خلّف من وراءه قبحاً ممنهجاً لم يطل الإنسان وجوهره فقط بل طال حتى الذوق العام، ففي أحد المشاهد نرى البناية التي تحوي محل محمود فوتوكوبي ومنزل صفية بعد طلائه باللون الوردي الفاتح، لتبدو العمارة في النهاية شديدة القبح ومُخالفة لبقية المباني المحيطة بها في الشارع، كما أن لافتة المحل تأثرت بالخطأ هي الآخرى ببعض الألوان التي تساقطت عليها لتفقد بعضاً من رونقها القديم، لتبدو العمارة بلونها الجديد والبقع التي أصابت اللافتة إشارة للحصار الذي تُعاني منه الشخصيات التي ما تزال على فطرتها ونقائها، ويحيطها القبح والعشوائية من كل جانب. فيلجأ محمود إلى الخطاط القديم الذي صمم له اللافتة ليباغته ابنه بوفاة الأب، يصاب محمود بالدهشة الممزوجة بالصدمة، وكأنه أحس بتخلخل واقعه الذي يألفه، والذي كان يظنه متيناً راسخاً، لتكتمل المفاجأة بعرض الإبن أن يُصمم له واحدة أخرى، لكنها هذه المرة على الكمبيوتر، فيرفض محمود ويتمسك بهويته القديمة المُعبرة عن كينونته.
العشوائية والقبح
محمود وصفية عالمهما مُتشابه، كل منهما ينتمي للآخر، أما على الناحية الآخرى فيوجد عالم آخر مواز، لكنه ليس بنفس قدر عذوبة وجمال عالمهما، عالم موسوم بالقبح، ومن هنا يبدو الصراع الذي كان خافتاً لكنه محسوساً، بين عالمين، وإن كان السيناريو بدا منحازاً للعالم الأعرق والأجمل. فقد خلق السيناريو عقبات ضد ذلك الحب الناشئ، لعل أبرزها المجتمع المحيط بهما، ففي أحد المشاهد نرى محمود وهو يُهدي صفية وردة بمناسبة عيد الحب، لكنها ترفض قبولها بشدة قائلة له أنهم في الشارع، وبالتالي سُيصبح مظهمرهما غير لائق، ليبدو الشارع والمجتمع خانقين لفطرتهما ومشاعرهما، ومن هنا بدا موقف ابن صفية منحازاً للجانب الآخر، المضاد لرغبتها، رغم أنه أحد أسباب وحدتها بتفضيله السفر بعد وفاة الأب.
رسم السيناريو شخصية مالك العمارة حيث محل محمود وشقة صفية (بيومي فؤاد) بثوب مُغلف بالمادية والعشوائية، ما يهمه هو النقود وليس أكثر، وبالتالي بدا ذوقه الشخصي مُبتذلاً، ويتضح ذلك من اللون الذي اختاره للبناية، وبالتالي ظهرت الشخصية كرمز للتقلبات الاجتماعية في السنوات الأخيرة، جعلت من شخص بهذا السوء وتلك العقلية هو المسؤول عن شؤون العمارة، ومن هنا ينتفض محمود ضده، وإن كان اندفاعه آتٍ في سبيل حبه، لكنه أيضاً يحوي رمزاً لصراع بين الجمال والأصالة من جانب والقبح والعشوائية من جانب آخر. أو زمناً يُعافر ضد اندثاره في مقابل زمن آخر حَل بقبحه المستشري.
جماليات فنية
ثمة فكرة وتساؤل ما يطرق ذهن محمود يتمثل في لماذا انقرضت الديناصورات؟ يلجأ للإنترنت بحثاً عن المعلومة لكنه أيضاً لا يروي توقه للمعرفة، وفي مشهد آخر نراه وهو يقتطع جزءاً من جريدة قديمة مدون بها خبر عن انقراض الحوت، هنا نلمح جانباً يبدو رمزياً بعض الشيء رغم بساطته، فتلك الحيوانات المنقرضة لم تألف الحياة أو تعتادها في ظل هجوم الإنسان وجشعه، مثل محمود الذي يبدو هو الآخر على وشك الفناء، وبالتالي بدا إحساسه نحو الحيوانات مُفعماً بالتعاطف، فهو شخص نادر بتكوينه النفسي وحياته التي أجاد السيناريو التعبير عنها ورسمها بشكل دقيق.
اللون الأحمر دلالة لحب الحياة والطاقة، وصفية رغم الوحدة والمرض إلا أنها مُعبأة بالحياة، في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم نرى صفية وهي ترتدي فستاناً أحمر وملامح التقدم في السن غادرت وجهها وهي ترقص مُنتشية بالحياة، وكأنها بذلك المشهد العفوي تواجه المرض بطاقة الحياة المُنبعثة منها. وفي مشهد آخر نراها وهي تؤنس وحدة مريضة شابة في المستشفى، وتطلب من الممرضة أحمر شفاه لتمتلأ الفتاة بالبهجة في مواجهة الألم والمرض.
بدت شيرين رضا في دور جديد ومختلف عن أدوارها السابقة، وقد أدت دورها بشكل جيد، وأحمد داش بعفوية وتلقائية بث الروح في الشخصية فخرجت متوهجة، وعلي الطيب بملامحه المتسقة مع اسمه أدى دوره بجمال واتقان شديدين.
كلمة أخيرة..
احتوى السيناريو على بعض المشاهد التي لم تُضف جديداً للسرد، فبدت كالنتوء البارز، مثل المشاهد التي جمعت بين محمود فوتوكوبي والشاب الأفريقي، صحيح أن هذه العلاقة توضح شخصية محمود التواقة للحب وأضافت بعض الضحكات هنا وهناك، لكنها في النهاية لو لم تكن موجودة ما كان سيتأثر البناء أو الحكي.
جاء أداء محمود حميدة جيداً وإن كانت تعبيرات وجهه التي حرص في أغلب المشاهد على إضفائها جعلته يبدو كالأبله أو التائه، مما ساهم في إفقاد قدر من الإحساس بالصدق لدى الشخصية.
«فوتوكوبي» هو التجربة الأولى لكل من تامر عشري وهيثم دبور، خلقا فيها نسيجاً سينمائياً مُرهفاً عن المشاعر والحب الذي لا يزال ينبض بالحياة في واقع لا يكترث سوى بالماديات، ليبدو الفيلم محتفياً بقيمة الحب والحياة في مقابل الزمن.