ألا تُعَدّ خلاصةٌ من طراز: “فلسطين هي الأجمل”، كافيةً وشافيةً لنقول بضمير مرتاح ووعيٍ ثاقب إن الشهيد باسل الأعرج وجد أجوبته أخيراً؟ بالنسبة له الجواب واضحٌ وحاضر، تضمّنته وصيته التي وُجِدَتْ إلى جوار رشاشه وباقي رموزه قرب جسده الشهيد: “وأنا أسير إلى حتفي راضياً مقتنعاً وجدتُ أجوبتي”.
عبارة “وجدتُ أجوبتي” البليغة الطاغية (الرومانسية) في وصية باسل، أصبحت بمحمولها ودلالاتها وتوليداتها، عنوان كتاب صدر له وحوله ومن أجله.
من بين ما يستحق التوقف والتأمل في الكتاب الصادر في 400 صفحة من القطع المتوسط عن داريّ رئبال في القدس وبيسان في بيروت، هذا الاشتباك المدهش والأخاذ بين رؤى الشهيد باسل الأعرج، وبين قفلة حياته المتقاطعة بدمه (بالمعنى الحرفي للكلمة) مع تلك الرؤى وما تبناه خلال مسيرته القصيرة (ولكن الساطعة الحيوية الفاعلة) من طروحات ومنهجيات وأفكار ونظريات.
تحديق له معنى
في مستهل ما ينشره الكتاب من دراسات للشهيد، واحدة حملت عنوان “الذاكرة الجريحة للنكبة”. في سياق الملاحظات الأولية حول هذه الدراسة المهمة أنها معززة بالمصادر والمراجع والهوامش، وأنها تكشف في كثير من تفاصيلها معلومات دامغة تتعلق بفداحة الإجرام الذي اقترفته العصابات الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني على طريق اغتصاب فلسطين وطرد أهلها من قراهم ومدنهم وحواضر وجودهم. كما تبيّن دراسات أخرى داخل الكتاب مدى المقاومة الصلبة العنيدة التي تبناها الشعب الفلسطينيّ بمختلف أطيافه دفاعاً عن الذاكرة المدجّجة بالمواويل وأغنيات الحقول وحكايا الجدات.
في هذا السياق فإن هذه المقاومة تعرضت أكثر من معظم باقي الحقائق المتعلقة بالمأساة الفلسطينية للاستهداف والتشكيك والتدليس والنسيان. حتى إنها تعرضت لمساس عميق من قبل كثير من أبناء الأمة العربية، وأصبحت مما يتوارثه الأبناء عن الآباء، حول تفريط شعب بأرضه. إن قراءة أي شاب أو شابة عربية (بمن فيهم شباب فلسطين) لهذه الدراسة المشفوعة بالأرقام والحقائق والاستعراض التاريخيّ المتدفق تسلسلاً ورصداً واعياً، سيؤدي (حتماً) لخلخلة منظومته النمطية المكرورة حول ”التفريط“ وصولاً إلى تفكيك هذه المنظومة وهدمها من أساسها. باسل الأعرج لم يفرّغ نفسه لهكذا جهد مجاناً إذن. هو يعي ما يقوم به، العودة إلى مقدمات ”النكبة“، التحديق الموغل بالمعنى، للكيفية التي هرب فيها الناس من بيوتهم ودكاكينهم ومراتع صباهم وفضاء أحلامهم نحو هجرة دامية الوقائع، ضائعة الوجهات، حائرة البوصلات.
تحديقٌ يبحث عن إجابة ذاتية، قبل الاطمئنان إليها وتحويلها إلى إجابة ”جمعية“ موضوعية يسعى من خلال توثيقها ونشرها وإلقائها كمحاضرة في الجامعة الشعبية وغيرها، إلى استعادة ثقةٍ زالت أو كادت أن تزول حول الآباء والأجداد الذي خاضوا غمار التغريبة الأولى (الجيل الأول للنكبة). هم لم يفعلوا ذلك بكل استرخاءٍ وتهاونٍ وجُبْنٍ وخنوع.
توثق “الذاكرة الجريحة للنكبة” عشرات المذابح التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق قرى فلسطين ومدنها وبواديها من رأس الناقورة وحتى أقصى الجنوب في غزة. مذابح قصدت ترويع الآمنين، وبث جيوش الشك حول إمكانية العون من قبل ”الأخوة“ العرب، وتفتيت عضد التمسك ببندقية قديمة مقابل آلة قتل مزودة بأحدث منتجات الموت والدمار. في سياق المقارنة بين تجهيزات العدو على اختلاف مسميات عصاباته، وبين ما كان بحوزة الثوار، تكشف الأرقام التي يعرضها باسل عن خلل مروّع وعدم تكافؤ مهول.
من بين الحقائق المهمة التي تكشفها هذه الدراسة أن عدد شهداء معارك ما قبل ”النكبة“ يصل إلى (16721) شهيداً، هؤلاء ليسوا ممن قتلوا أثناء هروبهم، أو دمّرت عليهم منازلهم، أو ماتوا، على سبيل المثال، متسممين بسبب حقن العصابات الصهيونية يوم 22 نيسان 1948، قناة مياه الشرب (قناة الباشا) التي تغذي عكا بجرثومة التيفوئيد. إنهم الشهداء الذي صعدوا وهم يقاومون ويواجهون ويهتفون ويتغنون بأسماء حبيباتهم وزوجاتهم وقراهم ورموزهم وشيوخهم. هؤلاء الشهداء يمثلون أكثر من 65% ممن كان يملك سلاحاً يمكن أن يواجه به شراسة التوسع الصهيوني في الأشهر الأخيرة التي سبقت نكبة فلسطين. يعني أن ثلثيّ الذين قاوموا استشهدوا، أو لاذوا بالكهوف والجبال بانتظار ذخيرة تأتي، أو فرصة أخرى تلوح ليواصلوا المقاومة، فهذه أرضهم وتلك لحظة الشرف التي لا تردد فيها ولا تنظير حولها.
التنظير الوحيد المسموح به في ذلك المنعرج التاريخي الماحق، هو المدوّن بالرصاص، والممهور بدم الشهادة والفداء.
العصابات الصهيونية لم تُبْقِ بحسب دراسة الأعرج حول الذاكرة الجريحة، وسيلة للقتل والتخويف والترويع إلا وتبنتها: الحرق الجماعي (قرية الطيرة: الإبادة بالحرق)، الاغتصاب (وُثّقت 18 حالة على أقل تقدير)، الإبادة بالمشي (اللد والرملة: مسيرة الموت)، إضافة إلى المجازر الكبرى مثل مجزرة الدوايمة (تتحدث كثير من الأرقام عن 1000 شهيد) ودير ياسين وكفر قاسم وقبية والطنطورة وقيسارية وغيرها.
في المقابل يقضي الباسل سنوات طويلة من عمره محدقاً في بطولات شعبه، وفي موروثاته وقيمه، وفنونه وتغنيه بالبطولة والأبطال والأخلاق الرفيعة للحياة والمباهج. في هذا السياق يصبح بطل محنك من طراز فوزي القطب رمزاً مشعاً بمعانٍ وتجليات، ويتحول بين يدي باسل وحروفه إلى أسطورة شعبية من دهاء وبارود وديناميت. ثم لا ينسى التعريج على ثورة 1936، فهي أنموذج لا يمكن القفز عليه. كما لا ينسى كيف حاصر الثوار الأحياء اليهودية في باب الواد، وفصلوها عن مركز الثقل والإمداد الصهيوني، ما دعا بن غوريون إلى العويل في مذكراته: “المشروع الصهيوني يترنح عند باب الواد”. وعلى امتداد مسيرة والنضال والمقاومة تنبثق من لجة الليل أسماء عربية وأجنبية، إنه الفصل الذي يفرده باسل لمن يمكن أن نطلق عليهم الصعاليك. الأبطال الشعبيون الشفويون الذي بدأت قصتهم مع النضال بتمرد بسيط، بخروج على اعتبارات لا إنسانية، كأن يمنع الفقير أن تحبه ابنة الإقطاعي ويحبها (قصة التركي إبراهيم حكيم أوغلو نموذجاً)، هذا الثائر الذي أصبحت المارتيني التي كان يحملها رمزاً لكل من يقاوم، ومطلب أي شاب يريد أن يواجه الظلم والظالمين، وسكنت أهازيج الأغنيات. يقول باسل: “هؤلاء الأبطال صنعت تجربتهم المادية وحواضنهم الشعبية ومشاريعهم السياسية ليصبحوا أمل الأمة ونموذجها. وقد تنبه جيفارا في كتابه “حرب الغِوار” إلى هذا التشابه الكبير إذ قال: “تتمتع الغِوارة حينئذٍ بالتأييد الشامل من السكان المحليين وهذا شرط لا تقوم الثورة بدونه”.
يخلص الشهيد في هذا الفصل إلى أن “مبتدأ كل ثورة هو الخروج؛ الخروج على وعي المنظومة الاجتماعية التي رسختها السلطة باسم القانون والاستقرار ومقولات الخير العام والمصلحة العامة”. (ص 143).
أجوبة كثيرة حصل عليها باسل الأعرج في خضم مسيرة توقفت وهو بعمر أهل الجنة (33 عاماً عمره عند استشهاده): ومن تلك الأجوبة: “عش نيّصاً وقاتل كالبرغوث”، وهم اليسار الإسرائيلي (المتضامن)، “حرّر عقلك واهدم صنماً”، مأساة حزب (الكنبة) الفلسطيني (بحث مشترك مع زيد الشعيبي نشر في مجلة الدراسات الفلسطينية) وأسباب انتشاره وطرائق الخلاص منه، وطبعاً الإجابة الأكثر وعياً، أقصد تلك المتعلقة بفحوى الشهادة وبلاغة الشهيد: “وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد”.
إضافة إلى الدراسات والأبحاث والاستقصاء، لباسل الأعرج كتابات إبداعية نثرية تستحق الانتباه: “غربة، حيث ولدتُ وحيث لن أموت”، “أهلاً بالزبائن الكرام في معسكر عوفر”، “لا حُبّ للمقهورين” وغيرها.