هذا النص ليس رثاءً لمي التي لم أعرفها بشكل شخصي، وليس مقالا لا عن حياتها ولا عن الثورة السورية، وليس قصة مستوحاة من موتها المفاجئ.
هذا النص هو مجرد محاولة لإطلاق سراح دموعي المختنقة داخل صدري منذ صباح الثالث والعشرين من يوليو، يوم ماتت مي: وحيدة في منفاها الفرنسي.
صارت لأخبار الموت رتابة الاعتياد.
تأتينا أخبار الموت من سوريا كل يوم. في الأسبوع الماضي قرأت عن إعلان موت الفلسطيني نيراز سعيد، الشاب العشريني المبتسم، المصور مرهف الحس، الذي قضى تحت التعذيب في السجون السورية، والذي لن يعرف أهله متى مات، ولن يستلموا له جثماناً ليقبّلوا جبينه ويصلّوا عليه ثم يضعوا له شاهد قبر، يمكن أن يحملوا له الزهر إذا ما استبدت بهم وحشة غيابه. بل لن يستلموا صكاً رسمياً بإعلان وفاته، كأنما يستكثر الوحوش في سوريا على أهالي الشهداء أي إعلان يحمل تصديقاً منهم بأن هؤلاء بشر، وبأنهم هم قتلتهم.
هذا الأسبوع قرأت أيضا عن إعلان موت يحيى شربجي، الناشط الثلاثيني الذي أمضى نصف عمره يحاول من أجل وطن أفضل في سوريا الأسد الأب ثم الابن، ودفع الثمن سنوات قضاها في السجن مبكراً. وعند اندلاع الغضب في سوريا حاول حماية “سلمية الثورة”. يحيى كان يحلم بـ “سوريا بلا عنف”، ثم مات هو وشقيقه الأكبر معن، الذي كان يعمل في مجال التجارة، ولا علاقة له بالسياسة، إلا أن صوته علا بالثورة في أوجها، ثم استخدمته الوحوش في سوريا في كمين للإيقاع بأخيه يحيي. مات الأخوان تحت التعذيب في السجون السورية. لا أعرف كيف تحصّل أهل شربجي على تاريخي وفاة ولديهما: مات يحيى في ١٥ من كانون الثاني/يناير ٢٠١٣، بينما لحق به معن في ١٣ من كانون الأول/ديسمبر من نفس العام.
ثم أقرأ الأرقام. هناك ١٣ ألف حالة موثقة للموت تحت التعذيب في سوريا. هناك نصف مليون إنسان ماتوا جراء الحرب في سوريا. لا أعرف قصصهم. ولن نعرفها. وقد لا نعرف أبدا مصير عشرات الآلاف من المعتقلين في السجون السورية. لكني أعرف أن هناك عشرات آلاف من العائلات السورية لا تزال تتشبث بالأمل في أن أحباءها أحياء وباقون، وأن شملهم سيجتمع مرة أخرى، حين يخرج الأعزاء أحياء من جحيم السجون، ويعود الغائبون إلى ديارهم.
يحدثنا أحمد عباسي أحد أصدقاء نيراز المقربين عن الأمل. يقول “كنا نحيا على أمل أن شملنا سيجتمع في الغد. الآن صرنا نعرف أن ذلك الغد لن يأتي أبدا.“
***
دائماً ما أتندر مع الأصدقاء السوريين وأقول أننا – معشر الثائرين السُذج في مصر- نحمل وزرهم. نحن من غررنا بهم، حين صدّرنا لهم في دمشق الأمل الذي اندلع في يناير التحرير. أحياناً تنقلب النكتة المُرة في ذهني شعوراً بالذنب. ربما كان من الأفضل ألا يحدث ذلك كله؛ ألا يموت كل هؤلاء، ربما كان من الأفضل أن يبقى كل في داره، وأن يموت كل في داره، وفي أوانه.
منذ بداية يوليو/تموز، تتوالى أخبار الفصول الأخيرة للهزيمة في سوريا. أتابع نظام الأسد وهو يرفع رايات نصره على حطام سوريا، ويبالغ في النكاية والتنكيل ضد كل من حلم يوماً بالحرية. هؤلاء الحالمين في سوريا دفعوا من الأثمان ما لم ندفعه، وظلوا صابرين. قلما ضجوا بالشكوى التي نضج بها ليل ونهار. أتابع دخول قوات الأسد إلى درعا؛ نقطة انطلاق الثورة السورية. تصفعني صورة لمسجد العمري المتهدم في درعا، تظهر بين أطلاله عبارة: “الموت ولا المذلة.” ربما كتبها أحد الذين صاروا مجبرين على مغادرة درعا، أو تجرع مذلة الهزيمة فيها.
هل كان هناك أمل في نهاية مختلفة لهذا كله؟
خلال العام الماضي أمضيت الكثير من الوقت أعالج نفسي وعبد الرحمن من الأمل. أظن أننا ربما قد شفينا أخيراً. صارت صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي تضج بالأنشطة السعيدة. نشاهد مباريات كرة القدم بانتظام مقدس. نستمع للكثير من الموسيقى، ونمضي الكثير من الوقت في طهو أصناف الطعام. بمعايير حسابات الانستجرام، نحن بخير. نمضي كثيراً من الوقت صامتين. فقط نحاول أن نحافظ على مسافة من تبعات أخبار الهزائم في مصر كما في سوريا وفي فلسطين. معظم تركيزنا منصب على مشاريعنا الشخصية. نفكر في خطط مستقبلية لم تعد أمور الوطن ضمن حساباتها. نتحدث في الشأن العام بحكم الاعتياد. لم يعد الشأن العام يأخذ أولوية في حياتنا. لم يعد بنا طاقة كي نمنح حياتنا للشأن العام.
كيف كانت مي تمضي أيامها في باريس؟ وكيف لم أتذكر وجهها حين تناقل الأصدقاء خبر رحيلها المفاجئ؟ ولماذا استغرق الأمر أكثر من يومين ليكتب أحدهم قصتها كما تستحق أن تُكتب؟ هل لأننا اعتدنا أخبار الموت؟ أم لأن موتها يبدو موتاً عادياً لامرأة وحيدة في بلد غريب؟
***
أهرع إلى الإنترنت أبحث عن صور مي سكاف كي أنعش ذاكرتي عنها. ها هي مي: سيدة تخطو إلى الخمسين بكامل بهائها. ليست ممثلة مشهورة بالمعايير التلفزيونية، وإن كانت ممثلة بارعة ذات طلة مميزة. ليست سياسية محترفة، وإن كانت وهبت حياتها للثورة السورية ودفعت الثمن غالياً، حين اضطرت للخروج من سوريا في ٢٠١٣ عبر الأردن إلى باريس، تاركة وراءها عملها بالفن وحياتها التي تعرفها.
تبدو مي في لقاء تلفزيوني سجلته عام ٢٠١٥، مرهقة وغاضبة. يتهدج صوتها وهي تقول إن تلك الثورة “هي ثورتي حتى أموت”. حال المنفى بينها وبين وداع أمها التي ماتت قبل شهر ونصف، ومن قبله وداع أختها التي ماتت منذ أربعة أشهر. في مايو الماضي كتبت مي على صفحتها ”ما بدي أموت برات سوريا.. بس“.
هل كانت مي تحب صوت فيروز؟ أكاد أراها في منزلها الباريسي الصغير تردد مع فيروز: ”ردني إلى بلادي، مرات وعدت تأخذني، قد ذبلت من بعادي.“
قبل يومين من رحيلها كتبت مي ”لن أفقد الأمل.. لن أفقد الأمل.“
ربما يا مي لو لم تحتضني الأمل لكففت عن صدرك كل هذا الوجع. ربما يا مي كان بوسع قلبك الأخضر أن يحيا بجرعة أقل من الأمل، كي لا تثقله الحسرات فيتوقف عن الدق وحيداً في أرض غريبة، قبل الأوان.
أعاود مشاهدة أحاديث مي التلفزيونية القديمة، تبهرني حماستها كما رقتها وفصاحتها. أرى في ملامحها وصوتها وجه الثورة كما أتذكره.
أفكر أنني حين أقترب من الخمسين أتمنى لو يكون لي بهاؤها.
أخاف أنني حين أقترب من الخمسين قد يكون لي مصيرها.
لروحك الحرة السلام يا مي.
ربما يمكن لروحك الآن أن تحلق فوق دمشق وتكفكف دموعها.