في بداية العام ١٩٧٩، قررت مجموعة فتية الخروج من عباءة التقليدي والصعود بتشكيل خيوط مستمرة بفعل البحث والإعداد والتساؤل، مثابرين على ثبات التغير وتغير الثابت، وإعادة تشكيل المفاهيم وهز ما يستحق منها ذلك، وأسسوا حينها “فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية” في التاسع من آذار من ذلك العام. لم تكن البداية واعية لمحيطها ومدركة لذاتها كما نصفها نحن الآن في العقد الأربعين من عمرها من وجهة نظر الجيل الرابع فيها، لكن رغم ذلك بدت ببساطة نشأتها مدركة لما تسعى من أجله وبالغموض الذي يكسو البدايات جميعها.
ولأن البداية كانت كذلك، ظل شعور الجديد مصاحباً للتجربة، أي بمعنى أنها لم تتحول لقطعة بالية ملّ منها صانعوها أو حتى من ارتداها لاحقاً، بل ظلت شديدة الحيوية بمنطق النسج المستمر وترك الرقع واضحة، لا لتصير أجمل وحسب بل لتتسع أكثر مما يبدو، فكانت المساحات الجديدة التي تصل إليها الفرقة، تشبه في صورتها صورة عمال سكة الحديد الذين يمضون من محطة إلى محطة لوضع قضبان الحديد، نحو وصل العالم بالعالم.
لذا، بدت الفرقة حيويةً كالشباب في جانب، وعجوزاً في جانب آخر، لكنها في الحقيقة مزيج واحد من كليهما. لم يبد لي ذلك واضحاً رغم مرور ١٣ عاماً على وجودي كعضو في فرقة الفنون، إلا حين تمكنت من فتح أرشيف الفرقة الممتد منذ أربعين عام.
البقاء على السطح
لقد كانت تجربة فتح أرشيف الفرقة شديدة الحساسية والفرح في آنٍ واحد، وهذا يأتي من شكل وتعريف هذا الأرشيف.
أولاً: هو أرشيف موجود بالمعنى الرمزي و الزماني بين الأرشيف الخاص الذي يعني مؤسسة بذاتها، وفي الوقت ذاته أرشيف عام يعني بلداً بأكمله، ولذا لا يمكن النظر إلى تجربة الفرقة الفنية عبر الأرشيف دون الالتفاف والتدقيق في سياق ومجريات عملية التحرر وأبعادها الاجتماعية والثقافية، بل ويتسع التساؤل نحو علاقات المثقف بالسياسي، والمثقف بالثورة، والفني بالحزب، والراقص بالمجتمع، فلا يمكن حصر التجربة بالبعد الفني وإن كانت هناك محاولات عديدة لذلك، وقد تجلى هذا عبر مجموعة من محاضر الاجتماعات الأولى للفرقة واللوائح الداخلية وهيكلية الفرقة الأولى، والتي كتبت بين عامَي ١٩٧٩ و ١٩٨٠.
ثانياً: هو أرشيف غير مصنّف، أي ما يعني بالمعنى الصوري لتقريب المشهد، شجرة كثيفة جداً، بذورها شديدة الصغر ولا تعرف من أين عليك أن تبدأ، خاصة أن هذه البذور لا تزال قيد النمو، وهناك أفرع من هذه الشجرة لا تزال تكبر. والتصنيف هنا لا يعني عدم الترتيب، بل يعني من حيث الفئة و التاريخ، ولذا كان بالإمكان -رغم توتر بداية النظرة الأولى- رؤية الفرقة بمشهد بانورامي واسع، يكثف تجربة الفرقة زمانياً ومكانياً في لحظة واحدة، تمكنك من التقاط السياقات الاجتماعية والفنية والسياسية التي نسجت التجربة وظلت معتمدة على منهج النسج المستمر.
وهذا يؤدي مباشرة إلى النقطة الثالثة: وهي عمر الأرشيف. فصحيح أن عمر الأرشيف هو من عمر الفرقة، لكن أرشيف العمر الأول (الجيل الأول) مرتبط عضوياً بأرشيف العمر الثاني (الجيل الثاني)، أي أن تطور التجربة واتساع الأرشيف لم يسبب أو يؤدّ لموت الأرشيف الأول الذي تطور وتم البناء عليه وتحول لمرجعية في الممارسة أيضاً، فازدادت رقعة البحث والمعرفة بأضعاف أضعاف مساحة الفرقة ما جعل خيار البقاء على السطح أمراً ضرورياً للسبب الرئيسي وهو إنتاج معرض من غرفة الأرشيف.
من غرفة الأرشيف
لماذا؟ لأنه لا يمكن حصر أرشيف الفنون في معرض واحد أو في غرفة واحدة، وقد ظهر هذا عبر حوارات شديدة التوتر والحساسية مع قيّم المعرض يزيد عناني، والذي حاول مراراً البحث في تجربة الفرقة من زاوية متعددة ومختلفة، حتى وصل لاستنتاج أساسي مفاده أن النظر للأرشيف هو النظر للفرقة الآن، فكما أنه لا يمكن حصر تجربة الفرقة فنياً على الأقل من زاوية واحدة، لا يمكن حصر الأرشيف من زاوية واحدة.
ولذا مضى المعرض نحو الملفت والجوهري وما يرغب المعرض بتقديمه هو فتح الأرشيف ولو على السطح للجمهور العام لأول مرة، وهنا حيث يمكن بناء مئات المعارض والأعمال الفنية التي تعبّر عن تجربة الفرقة أو حتى جزء منها.
واللافت للأمر خلال عملية بناء المعرض وردة فعل أعضاء الفنون أنفسهم، هو رؤيتنا كأعضاء للفنون، حيث أثار انتباهي مدى الملكية الشخصية لكل عضو للفرقة، وأهمية ظهور هذه الملكية بالشكل الذي يراه هذا العضو مناسباً ويرضي شعور الملكية لديه، ورغم أن الأمر كان يسبب بعض الإرباك في البداية، إلا أنني أعدتُ قراءة الظاهرة من أدوات تجربتي في الفرقة، والذي بدى حينها أمراً مهولاً وشديد الخصوصية والتفرد، فلا يمكن أن ترى تجربة جماعية كهذه، كل فرد فيها يشعر بامتلاك لها، ما يجعل العمل الجماعي ليس مجرد قيمة في الفكر والسلوك بل في الاستمرارية أيضاً، أي أنها تصبح خصلة في الإنسان بأنه ينتمي -عضوياً- للتجربة الجماعية هذه، من دون استناد نظري في الكثير من الأحيان لضرورة العمل الجماعي.
وذلك يترافق مع رؤية الفرقة لهويتها الفنية والإبداعية:
“الإستلهام من التراث العالمي عموماً والعربي الفلسطيني خصوصاً لبناء أعمال فنية تعبر عن مشاعر وأحاسيس مبدعيها وتساهم بالتغير في الإنسان والمجتمع عبر الممارسة الفنية الجمالية.”
إن الرؤية للفرقة لا تكون ثابته وصخرية بل هي تماماً كما يرى أحدنا الفلكلور والتراث العالمي عموماً والعربي الفلسطيني خصوصاً على أنه كائن حي ينمو ويتطور، ونظرتنا وملكيتنا للفرقة عليها أن تكون كذلك، ومن هنا يرتبط شغف البدايات في التأسيس بوعي النضج الآن، وبإدراك بالمحيط وشعور بالمسؤولية نحو الواقع والالتزام فيه كفعل الإنتاج الفني، وعدم انتقال التجربة أو تغيرها من جيل إلى جيل بل استمراريتها بفعل المراكمة.
فما سمح أرشيف الفنون لنا أن نراه اليوم هو نافذة صغيرة نطل منها على سهل واسع وشديد التنوع والكثافة لتجربة إنسانية أولاً، وفنية سياسية اجتماعية ثانياً، خرجت من سياق التجربة الخاصة بأعضائها نحو التجربة العامة التي تعني شعب بأكمله.