عادت إلى السطح قضية منع عرض الفيلم الوثائقي «ليئا تسيمل، محامية»(١) والذي يوثق جزءًا من سيرة المحامية الإسرائيلية التي تميّزت حياتها القانونية بالدفاع عن الفلسطينيين الذي نفذوا أو اتهموا بتنفيذ عمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي.
لقي هذا الفيلم معارضة شديدة من قبل إسرائيليين كُثر، وحاربته وزيرة الثقافة ميري ريجف بكل شراسة، وكان آخرها أمس الأول، في 6 نوفمبر 2019، من خلال رسالتها لرئيس بلدية مستوطنة “معالوت”(٢) التي تستضيف مهرجانًا خاصًا بالأفلام الوثائقية حيث يجب عرض الفيلم.
وزيرة الثقافة أرسلت لرئيس البلدية تقول: “إن عرض الفيلم الذي يتمحور حول المحامية ليئا تسيميل التي تعمل محامية للإرهابيين الفلسطينيين ومؤيديهم، هو عمل لن يعرض على أي مسرح تدعمه دولة إسرائيل. تسيميل ليست رمزًا ولا نموذجًا يحتذى به ولا ينبغي لأحد أن يشاهد فيلمًا يقدس عملها”. توجهت جمعيات حقوقية للقضاء مطالبة بعدم كم الأفواه وعرض الفيلم، وقد قبلت المحكمة الادعاء وأجازت عرض الفيلم في موقع آخر، لكن يبقى السؤال: فما الذي يحتويه الفيلم ليثير حفيظة وزيرة الثقافة، ويخلق حالة من الحرمان ومنع العرض، أو قطع التمويل عن دور سينماتيك أو مسارح استضافت الفيلم؟
ليئا تسيميل هي محامية ولدت في العام 1945 في حيفا، درست القانون في الجامعة “العبرية” التي تقع على جبل المشارف في القدس المحتلة. يُظهر الفيلم بداياتها ونشاطها وتطوعها مع جيش الاحتلال للدفاع عما يسمى “جبل الهيكل” حيث تقع قبة الصخرة والمسجد الأقصى وتعمل جمعيات وحركات صهيونية بشكل حثيث لإقامة هيكل سليمان المزعوم.
بعد حرب العام 1967 تطوعت ليئا للدفاع عن الجبل، وصلت إلى هناك سيرًا على الأقدام مارة عبر زقاقات حي المغاربة، كانت فخورة بعملها، إلى أنها عات إلى المكان بعد فترة من الزمن لتجد أن إسرائيل هدمت حي المغاربة. تساءلت عن مصير السكان وعن أسباب هدم الحي وتلقت إجابات لم تكن مقنعة لشابة ذكية متمردة ومختلفة عن بنات جيلها بعض الشيء. عادت إلى الجامعة لتقول لأصدقائها وزملائها: “إنهم يكذبون علينا، هذه لم تكن أرضاً بلا شعب”. من هنا انطلق نشاطها المناهض للسلطات الإسرائيلية وممارساتها ضد الفلسطينيين وضد اليساريين.
ليئا تسيميل، كما تظهر لنا في الفيلم، امرأة جسورة، مختلفة، محاربة لا تهاب أحدًا أو شيئًا. كمديرة تبدو صعبة المراس، متسلطة وحتى وقحة بعض الشيء، لا يبدو العمل مع ليئا أمرًا ممتعًا، بل يبدو كابوسًا يفيق منه صاحبه مع الكثير من المعارك في أروقة المحاكم الإسرائيلية! لا تكترث ليئا أو زوجها من إثارتنا بقصصهما الشخصية، بلقائهما الأول ووقع زوج في حب طالبة جامعية جامحة، ولم يخجل ابنها أو ابنتها من التأرجح ما بين الحب والتقدير والإعجاب بما تفعل مقابل الشعور بالخجل مع عدم القدرة على مجاراتها أو تحمّل عبء أفعالها.
الاحتكاك مع المجتمع الإسرائيلي يجعل محاولات منع عرض الفيلم مفهومة. تُعد قدرة ليئا وإصرارها وكيفية إدارتها لقضايا الفلسطينيين الأسرى المتهمين بتنفيذ عمليات ضد الاحتلال أمرًا مستفزًا لعموم الإسرائيليين. فهي تقف في خط الدفاع عمن رسخت صورتهم في ذهنه كقتلة ومخربين. ستصعب مشاهدة فيلم يضع الاحتلال في المركز وينسب إليه كل ما فعل المقاومة كرد فعل شرعي بقوة وصراحة.
من جهة أخرى يعرض الفيلم بصورة غير مباشرة كيفية عمل المنظومة الإسرائيلية على تكريس مفهوم الضحية وتمسك الطرف الإسرائيلي بها وكأنه الشعب الوحيد الذي يحمل تاريخًا أليمًا. يثير هذا الفيلم الاعجاب بشكل خاص بفضل الكم الكبير من مواد الأرشيف التي يندر تداولها، مقتطفات من قضايا ومحاكمات أعادت تشكيل الصراع، يصور لنا بعضًا من تاريخ حركة “الفهود السود”، ومحكمة داوود تركي 1972، ومحكمة منفذي عملية “بيت هداسا”(٣).
بسبب الضجة التي تثار حوله، يبدو الفيلم غاية في الحدّة والجرأة، لكن الزوبعة تثار كل مرة من الطرف الإسرائيلي دون الانتباه لموقف مشاهد فلسطيني منه! هذا الفيلم يصوّر لنا ليئا تسيمل البطلة، فيه تعظيم لسيرتها الذاتية وصورتها المهنية والإنسانية، وشخصها حد المبالغة، إذ اقتصر التأطير على لقطات متوسطة أو “كلوز أب” نرى من خلالها ليئا وحدها، قلّما نرى المحيط أو الحيز. يقع مكتبها في قلب شارع صلاح الدين في القدس، لكننا لا نرى القدس. تُقتطع تنقلاتها في شوارع المدينة عن سياق الاحتلال، يغيب الجنود الإسرائيليون المدججين بالسلاح والذين تصرخ بهم شوارع القدس وزقاقاتها، صور معقمة من أي أيقونات احتلالية!
معظم الأصوات الظاهرة في الفيلم هي أصوات مؤيدة، سواء كانت لمحامين يعملون في مكتب تسيميل، أو لأهالي الأسرى، وسط غياب صارخ للصوت الفلسطيني، فهي تتحدث طوال الوقت دون أن ينافسها أحد؛ وفي هذا -رغم كونه فيلمًا يختص بشخصها- تقديس مفرط لامرأة جديرة بكل التقدير. يعتمد الفيلم تقنيات الرسوم المتحركة (أنيميشن) عند ظهور الأسرى، ورغم ما في الأمر من احترام لخصوصيتهم (الأسيرة إسراء الجعابيص والأسير الطفل أحمد مناصرة) إلا أن غياب صورتهم يترك المجال لاحتكار صورة تسيميل وصوتها، فهي حاضرة بكل قوة وما هؤلاء إلا أمثلة جاءت لتجسد قسوة المعركة التي تخوضها ليئا في محاكم يغيب فيها العدل.
وسط هذا، ورغم المشاهد المتميزة بجرأتها والتي تبتز منا بعض الضحكات، إلا أن الفيلم يغيّب الوجه الإنساني لليئا. ما الذي تقوم به في حياتها اليومية دون المحاماة؟ هل تمتلك هذه المرأة أي هوايات؟ أين تعيش وما هي زاويتها المفضلة في البيت؟ هل ذكرنا أن نضالها من أجل حق الفلسطيني في المقاومة لا يتناقض مع كونها محامية خاصة يكلّف دفاعها عن الأسرى، أهاليهم الكثير من المال؟
لهذا الفيلم -رغم جرأته في اختيار الشخص- هدف واحد وواضح وهو محاولة اقتحام عقلية ونفسية هذه الإسرائيلية التي تقف على الجانب الآخر من الضفة وتجاهر بقناعتها في حق الفلسطيني بالكفاح المسلح. لكن مآخذي عليه ترتكز بالأساس على عزل الشخص عن الصراع، فكل الوقائع مأخوذة على لسان “البطلة” لا يناقض أقوالها أي شخص، كل من يظهر في الفيلم يضيف لبنة من عنده على “سور ليئا العظيم”، لا تظهر لنا المحاكم الإسرائيلية وهي تنتهج نظامين قضائيين مختلفين للفلسطينيين والإسرائيليين، ولا تطرح التناقضات الكثيرة التي تغزو القضاء الإسرائيلي.
ولعل أبرز ما يغيبه الفيلم من مميزات المشهد الإسرائيلي هي المواجهة مع الإعلام، كونه أحد أهم محركات الرأي العام، والمؤثر المركزي على العقلية الإسرائيلية التي تتبنى مواقف إعلامها المُجنّد الصهيوني بمعظم مواقفه المعلنة والمبطنة.
جدير هذا الفيلم بالمشاهدة رغم كون اختيارات المخرجَين مثيرة للجدل، ورغم غياب الصوت الفلسطيني صاحب الحق. ليس غريبًا أن يعاديه الإسرائيليون وقياداتهم، ولكن جدير أيضًا بالتفكير كيف ينجح فيلم في تأليه شخص حتى في فشله، وكيف يخرج شخص من معركة منكسًا رايته لكنه يصمد، ويقف أمام الكاميرا متهمًا المنظومة السياسية والاحتلال بكل ثقة.
هذه المرأة الملقبة بـ “محامية المخربين”، يصعب فهم اختياراتها، لكن لا شك تقف في صف نضالٍ عادل.
هوامش
١- وثائقي (108 دقائق) إنتاج كندا وسويسرا وإسرائيل، 2019. إخراج: فيليب بلائيش وراحيل ليئا جونس.
٢- المُقامة على أراضي قرية ترشيحا العامرة بأهلها، وقرى مهجرة في شمال فلسطين.
٣- المعروفة فلسطينيًا باسم عملية الدبويا 1980، حيث قتلت خلية فلسطينية تدربت تكتيكيًا على يد الشهيد خليل الوزير، 6 إسرائيليين في القدس.
https://www.youtube.com/watch?v=AIGpHK25rpI