عيسى ديبي: الفعل الثقافي مستمر لكن بعض المثقفين تخلى عن دوره في المجتمع

نادر داغر

كاتب من فلسطين

الفعل الثقافي مستمر، وهذا جيد بالرغم من معضلة الوضع السياسي، لكن يجب ان نقول الحقيقة بأن بعض المثقفين تحولوا الى موظفين و تخلوا عن دورهم في المجتمع.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

05/02/2020

تصوير: اسماء الغول

نادر داغر

كاتب من فلسطين

نادر داغر

ومدير إعلام وعلاقات عامة في الحقل الثقافي. عمل محاضرا في العلاقات العامة، ومستشارا إعلاميا ومدربا ومديرا للإعلام في عدة مؤسسات. يحمل شهادة الماجستير في الاتصال من جامعة ويسكنسون، وبكالوريوس في الصحافة والعلوم السياسية من جامعة بيرزيت.

عيسى ديبي فنان وباحث وأكاديمي فلسطيني من مدينة حيفا ويعيش في جنيف. عالج في مجمل أعماله ثيمة الهجرة والإقصاء، وعلاقة الفن بالوطن والمهجر، حيث قدم تحليلا نقديا للتجربة الابداعية  للمهاجر العربي في القرن العشرين. تداول ديبي في الكثير من أعماله علاقة الإنسان بالمكان، ونسق الحياة اليومي في فلسطين ما بعد عام 1948. من أعماله الفنية “المنفى عمل شاق” ٢٠١٧، “هكذا رأيت غزة” ٢٠١٦-٢٠١٨، “ارض الامهات”، ٢٠١٧،  “أيام كهذه” 1997، “مكان” 1998، “بيت أحلامي” 1999 و”لا شيء جديد فقط منسي” 2000، ومن أبحاثه “أبطال عراة” 2003، “زمن القتل” 2004، “الحلو الميت” 2004، و”تل السمّك” 2011.

حصل ديبي على درجة الدكتوراة في الفنون الجميلة  من جامعة ساوثهامبتون عام ٢٠١٢، حيث أشرف على رسالة الأكاديمي والفلسطيني بروفيسور بشير مخول . قدم  ديبي بحثا شاملا لتجربة الهجرة الثقافية الطوعية للفنانيين العرب الى الغرب، فكانت رسالته بعنوان “من أين أنا، من أين أتيت، أين أنا ذاهب؟ دراسة نقدية للمهجر العربي مساحة إبداعية” التي قدم فيها ديبي دراسة نقدية تبحث في عمق التجربة المهجرية الفنية، وارتباطها في الاوطان الاصلية والمجتمعات المضيفة.

وفي عام 2013، بادر مع الفنان الفلسطيني بروفيسور بشير مخول في تقديم وإنتاج معرض “otherwise occupied”  في بينالي فينيسيا، الذي اعتبر لاحقا بمثابة الجناح غير الرسمي لفلسطين.

هناك دراسات كثيرة عن أدب المهجر، وأدباء المهجر، ولكن هل هناك جسم كبير من الأبحاث المتعلقة بالفن والفنانين العرب في المهجر، وهل تستطيع أن تطلق مصطلح “فن المهجر” على مجمل المشهد الفني للعرب خارج أوطانهم ؟

 ليست هنالك دراسات كثير في هذا المجال فغالبية الدراسات في مجال العلوم الإنسانية قامت بدراسة العمل الأدبي بشكل كبير واهملت بناء المعرفة في موضوع الفنون البصرية، وهذا يعود إلى عدة عوامل قد تكون  ذاتية وعامة، حيث تعود أسبابها إلى خصوصيات المجتمعات المهجرية العربية المنتشرة في العالم من امريكا الى افريقيا، وحضورها في العمل الثقافي المهجري، وأيضا لأسباب أكاديمية بحثه وهي قلة المتخصصين في مجال دراسة الثقافات البصرية في عالمنا العربي وهذا ايضا ينطبق على المجتمع المهاجر.

في دراستي بنيت نهجا بحثيا وضع  “المهجر الثقافي العربي” في سياقه التاريخي اولا، ثم وضعت الخطوط العريضة للبحث، التي مكنتني كباحث وممارس للفن البصري أن أتجاوز التناقضات والتحديات الممكنة، وبناء على ذلك قمت بدراسة الظاهرة وتناقضاتها من موقعين، وهذا اضاف تجربة جديدة للبحث العلمي في هذا المجال، فالقليل من الباحثين في هذا المجال استطاعوا ان يجدوا حلا لهذه المعضلة الفكرية والاخلاقية.  أما بالنسبة للشق الآخر من السؤال، استطيع القول ان هنالك تجارب جديرة بالدراسة والاهتمام، ومن هنا تحاول الدراسة فهم العلاقة بين الفعل الثقافي الفردي والجمعي في المهجر.

يؤرخ البعض لفترة الستينات كمرحلة ظهر فيها ما يسمى بفن العرب في المهجر، هل هذا أمر مسلّم به؟ وهل تقاس مرحلة بطبيعة الإنتاجات الفنية التي ترى النور خلالها؟ أم هي تطور على صعيد الأدوات والأساليب؟ 

الستينات هي فترة مميزة عالميا، في المجتمعات الغربية التي كان في خضم حركة تغيير اجتماعي وسياسي أثر بشكل كبير على الثقافة الغربية ، وهذا تترجم في التغييرات الكبيرة التي حصلت في مجال الفنون البصرية التي باتت وقتها متقدمة أكثر من يومنا هذا. وهنا يمكن أن ندرس هذه الظاهرة وتأثيرها على المجتمعات العربية المهاجرة في ذلك الزمن، وهنا يجب التوضيح الى أن التجارب المهجرية لها خصوصياتها العديدة، التي قد تكون لها بعض العناصرة المشتركة  في العديدة من المجتمعات العربية وقته. ولكن لا نستطيع ان نجزم ان في الستينات كانت هناك تجارب عربية هامة جمعية في المهجر العربي، بل يمكن أن ندرس كيف أثرت هذه الحالة في الحياة الثقافية في العواصم العربية من بيروت الى بغداد ودمشق وغيرها.

في إحدى نتائج بحثك عن المجتمعات العربية في المهجر خلال الـ60 عاما الأخيرة، وجدت أن هذه المجتمعات العربية طَورت بُنية اجتماعية معقدة. ما هي أهم سمات هذه المجتمعات العربية في المهجر؟

“التعقيدات” تمكن في جوهر البنية الاجتماعية والثقافية لكل مجتمع مهاجر، فالعرب أسسوا في المهجر مجتمعات  “قديمة” ذات طابع محافظ ومنغلق في أغلب الأحيان، والتي كانت تعبيرا مباشرا عن الأزمات التي تواجه أوطانهم التي خرجوا منها كمجموعات أو أفرادا، وهنا يجب الاشارة ان تكون المهجر العربي في أوروبا له خصوصيات مختلفة تماما عن الهجرة العربية الى امريكا، وهنا يمكن ان نشير الى وجود علامات مشتركة بين التجربتين ولكن المختلف بينها  اكبر. فمن خلال دراستي للهجرات ومميزاتها وصلت التي نتائج مثيرة ساعدتني بشكل كبير ان افهم تطور الفعل الثقافي في هذه المجتمعات المهاجرة على اختلافها. وهنا اذا اردنا ندرس خصائص المجتمعات العربية في نيويورك وباريس نموذجين متناقضين، نجد ان المجمع العربي الباريسي في الستينات كان مجتمعا نابضا في الحياة الثقافية التقدمية التي تواصلت بشكل عضوي مع الثقافة الفرنسية وذلك قد يعود الى تاريخ العلاقة الاستعمارية مع العرب، وبالاساس الى الاهتمام الكبير لفرنسا كقوة فاعلة في المنطقة وخارجها في الحالة الثقافية العربية، وتأسيس “معهد العالم العربي في باريس” كان ترجمة مباشرة لهذه الحالة، وذلك بالرغم  من دور فرنسا السياسي الكولونيالي في المنطقة، وهنالك سبب اساسي وذلك يعود لأن الهجرة العربية الى فرنسا كان ابرز مميزاتها انها تنتمي الى ثقافة اليسار والتي كانت ترى في اليسار الفرنسي الذي كان فاعلا ثقافيا مؤثرا – نموذجا هاما للمحاكاة او التقليد في بعض الحالات. 

اما نيويورك التي تحولت الى باريس البديلة، لم تنجح باستقطاب المثقفين العرب، الحالة العربية في أمريكا هي حالة براغماتية تأسست على الهجرة الاقتصادية، وفي بداياتها كانت هجرة طائفية صافية، وبالرغم من التحولات المختلفة في الهجرات العربية الى أمريكا، لكنها إلى يومنا هذا لم تسطيع ان تبني مشروعا ثقافيا مميزا، خارج التجارب الشخصية، وذلك يعود الى عوامل عديدة في صميمها ان خصائص الهجرة العربية الى أمريكا كانت نقيضا اجتماعيا-سياسيا-ثقافيا للتجربة الباريسية، وتأزمت هذة الحالة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
 

هل يمكننا أن نقارن كثافة الجمهور وخبرته في الفن المعاصر في الغرب مع نظيره في العالم العربي؟ و في سياق المقارنة هذه، هل يمكنك أن تقبل فكرة أن االهمّ السياسي يسيطر على الاهتمامات الجمهور الفلسطيني؟

لكي نقوم بفعل المقارنة، علينا ان نؤسس إطار علمي لهذا العمل، وذلك لكي نتمكن من فهم جدوى الفعل المقارن، فهل نريد ان نقارن لكي نتعلم من تجارب الاخرين، ام نريد ان نقارن لكي نقوم في عملية سيزيفية لجلد الذات. انا اقترح ان ندرس الحالات لكي نتعلم، فأنا كباحث لا استطيع ان ادعي ان المقارنة هي فعل سلبي، بل اقترح ان نفهم الأهداف المعرفية خلف الحاجة للمقارنة.  يمكن أن تبنى نموذجا ناجحا يكون عاملا محفزا لبناء المعرفة والتطور مثلا. فلا يمكن المقارنة بشكل سطحي بين الحالة الفلسطينية والعربية والغربية، فكل حالة لها خصوصيتها وتطور المعرفة في المجتمع هي نتاج لعمل تراكمي جمعي وفردي.

الحضور المختلف في الحياة الثقافية للفرد في المجتمع مبنى على تراكمات في صميمها بناء المعرفة، وفهم الأولويات، فلا يمكن أن ندعي أن الجمهور الفلسطيني أقل إقبالا على المعرض من الجمهور الباريسي، وذلك لأنه لا يوجد أساس علمي للمقارنة،  باريس هي ليست رام الله وبالعكس، بل يمكن ان ناخذ جوهانسبرغ ونحاول أن ندرس تطور المجمع الأسود في ظل الابرتهايد وبعد الاستقلال، وهنا يمكن نجد نقاط تقارب أكبر، من مجرد ان نقول” شوفو الباريسيين متطورين” واحنا متخلفين، لا يوجد مجتمع يريد ان يكون فقيرا، أو متخلفا، هنالك ظروف ذاتية وموضوعية تؤدي إلى نشوء ظروف حالة معيشية معينة. وهنا اقترح ان نحاول ان ندرس الأسباب وليس النتائج.

هل تشعر بأن الجمالية في الفن تنتهي؟ هل نقول وداعا للفن الجميل وأهلا للفن المفاهيمي في فلسطين؟ 

ما هو الفن الجميل؟ نبدأ بالتعريف، الفنون الجميلة هي تعريف أوروبي ارستقراطي للممارسات الفنية الحرفية، في الرسم، النحت، الموسيقى، العمارة، هذا هو التعريف العلمي، الفن المفهومي هو اتجاه في الممارسة الفنية الأوروبية، تأسست في الستينات، بدايات الفن المفهومي أسس لها مارسيل دوشامب الفرنسي، الذي وضع سؤالا تاريخيا حول ما هو الفن؟ هل هو فكرة ام حرفة وأدوات تقليدية، هذا السؤال فتح نقاشا حول دور الفن في المجتمع، وهل الثقافة هي مشروع تهذيب ورقي ارستقراطي ام هي اداة لغة ابداعية لها امكانيات غير محدودة تعالج العمل الإبداعي المبنى على الفكر العميق.

اذا اردنا هنا مثلا ان نعود الى ماركس ونبني مفهوما مغلوطا مبدأ “نفي النفي” فنقول ان الفن المفهومي اصبح بديلا اللوحة، او المنحوتة، وهذا كلام غير صحيح وذلك يعود لأسباب عديدة:- أولا: التراكم التاريخي في الفن الغربي والعالمي ناتج عن تطور المجتمع ومدى ترابط الثقافة ومع الفعل الاجتماعي والسياسي وثانيا: في العديد من الحالات والفلسطينية منها تجري عملية تطور طبيعية، وفي بعض الحالات تجرى عملية تقليد، وقد تكون مفيدة لبناء المعرفة، لكنها غير علمية، وهذه ظاهرة موجودة في العديد من المجتمعات التي في قيد التطور او النمو، وظهور التجارب الفنية المفهومية في فلسطين والعالم العربي خمسون عاما بعد اوروبا وامريكا، هو نتيجة لعوامل عديدة، يمكن ان تكون ذاتية، فمثلا انا درست في مدرسة للفنون في بريطانيا ذات نهج منفتح، وأسلوب تعليمي مبني على تطوير الأدوات الفكرية لدى الفنان بشكل موازي مع تطوير الأدوات فكان لدي مدرسين متخصصون في الرسم واخرون مفكرين ومنظرين مثل الدكتور بشير مخول، هل تخلى بشير عن الرسم لكي يصبح مفهوما- هل الرسم فن جيل والفيديو عمل قبيح- انا لا ارى تناقضا بين الفن التقليدي والفن المعاصر، انا استطيع ان ارى التراكم المعرفي والتاريخي وأن افهم السياق، لكن الخطأ السائد وهو طبيعي جدا وقد يعود الي صراع بين الاجيال وهذا صحي، فعادت الجيل الجديد يقوم بعملية تهديد ورفض للقضيم بدواعي التقدم، وهذا تصرف نابع عن طبيعة الانسان الغرائزية، لكن انا ارى ان هنالك معرفة ضعيفة في هذا المجال، والموضوع هو ليس رفض الاخر، والتحول- بل فهم كل التجارب في سياقها التاريخي، لكي لا نجحف في تجربة الاخر والمختلف.
 

هل تعتقد أننا بدأنا في لم وتوحيد الهوية الثقافية ما بعد النكبة؟ علما بأن النكسة واوسلو ساهمتا أيضا بتفتيتها أكثر وأكثر، هل ترى بأننا في وضع إعادة الالتحام في جسم ثقافي؟ 

لا يمكن أن ننكر حقيقة وجود علامات مميزة  لثقافة مشتركة بين الفلسطينيين أينما وجدوا، وفي ظروفهم المحلية المختلفة، من فلسطينيي الداخل، لبنان، الأردن، العراق، أوروبا، أمريكا. كل مجموعة فلسطينية فيها نشطاء في الثقافة، والقسم الأعظم منهم يرون أنفسهم جزءا من الثقافة الفلسطينية، رغم أنه لا توجد جغرافية توحد الفلسطينيين بل هنالك إيمان بالفكرة، وهذه قوة الفلسطيني بأنه تجاوز الجغرافية وبنى رباطا عاطفيا ومعنويا مع الفكرة، وهذا رد فعل طبيعي على الحالة. طبعا نحن نعيش في نكبة مستمرة وهذا كلام ليس للاستهلاك هذا كلام علمي يقوم على تحليل للوضع الفلسطيني، وفهم للظروف التاريخية أما بالنسبة لاوسلو، اعتقد انه ان الاوان ان تتصالح القيادة الفلسطينية مع شعبها وأن تعترف بأن أوسلو كان خطاً تاريخية، وأن تعيد بناء مؤسسات منظمة تحرير وتعود إلى صفوف شعبها، أوسلو اوصلنا الى حالة قد تؤدي الى ضياع فلسطين للابد، واعتقد ان الوقت حان ان تكون هناك مصالحة تاريخية معنا، نحن الذين ولدنا في الداخل، واخوتنا في الشتات وفي الاراضي المحتلة عام ١٩٦٧، لا يمكن الاستمرار بالتعنت والانقسام.

أنا لست قلقا على الهوية الثقافية، أنا قلق على الوجود الفلسطيني، هناك تهديد يومي لتكرار النكبة، المشروع الصهيوني في فلسطين وصل إلى أعلى الدرجات من الفاشية الكولونيالية، ونحن ننتظر ان نقرأ عامود الابراج في الصحيفة لكي نتنبأ بالمستقبل، هذا هو مستوى الفعل السياسي الفلسطيني الآن،للأسف.

إذا هل تقول بأن المثقف لم يستطع أن يواصل عندما سقط السياسي؟ 

الفعل الثقافي مستمر، وهذا جيد بالرغم من معضلة الوضع السياسي، لكن يجب ان نقول الحقيقة بأن بعض المثقفين تحولوا الى موظفين و تخلوا عن دورهم في المجتمع.

لك تجربة طويلة مع الفنانين العرب وانتاجاتهم في الخارج، ووصفت حضور الوطن في فن المنفى بأنه حضور رومنسي، ولكن هل تعتقد بأنه هذا الحضور كافي؟ هل حضور فلسطين بالتحديد كافي؟

تجربة المهجر العربي الثقافي، او المنفى العربي في بعض الحالات هي تجربة ٬مأساوية، نتجت عن حالة من العنف أدت إلى تكوين مجتمع خرج الى الاخر باحثا عن وسائل الحياة اليومية، وهذه التجارب المؤلمة واخص التجربتين العراقية والفلسطينية، هم حالتين ثقافيتين ذات خصوصيات مشتركة بالرغم من ان  ظروف نشوء المنفى العراقي تختلف مع الظرف الفلسطيني، لكنها نتجت من خلال فعل العنف والقمع والتهجير القسري. وهنا يجب القول ان العراقيين أسسوا الوطن متخيل، ذات طابع تراجيدي درامي، ظهرت معالمه في أعمال الكثير من الفنانيين العراقيين من أجيال مختلفة، وهذا ينطبق علينا ايضا، واليوم وبعض انهيار التجربة الديمقراطية في مصر والدمار الذي حصل في سورية، تأسست منافي جديدة تجد أن في صلبها العمل الثقافي، في برلين أصبحت اليوم العاصمة الثقافية للعرب في المنفى.

 

هنالك تغيير في صورة الوطن في بعض الاعمال الجديدة للفنانيين السوريين والمصريين التي اصبحت ترى في الوطن كابوسا من الرعب والخوف، هنالك شعور بالفقدان والالام، وهنالك البعض رومانسي وعاطفي ما زال يريد العودة الى مكان لم يعد موجود، عندما كنت في امريكا تعرفت على عائلة فنية سورية اتت الى امريكا، الوالد كان عميدا لكلية الفنون في إحدى الجامعات السورية أصبح سائق تاكسي، وزوجتة معمارية درست في الجامعة لفترة، وابنه الأكبر فنان وموسيقي عظيم، تجلس معهم الثلاثة وترى الحالة السورية المؤلمة، في عائلة واحدة فيها تناقضات كل المجتمع السوري بعد الحرب. انا الان في خضم العمل على ترجمة دراسة الدكتوراة ونشرها باللغة العربية، احاول ان اعيد كتابة المقدمة والتلخيص، لقد شعرت بالفشل كجزء من جيل تمنى ان نرى النور ايام الربيع العربي، وقتها كنت أعمل مدرسا في القاهرة- كانت أحلام جميلة- داستها “جزمات العساكر”- هذا سؤال اعيد التفكير فية باشكال مختلفة- احاول ان افهم كيف يمكن ان تتحول النوسطالجيا الى حالة مرضية ثقافية، او كيف يمكن للوطن ان يصبح كابوسا- هنا التعابير بحاجة لمراجعة.

ألم نخرج حتى الآن من تلك الصدمة التي حلت بنا منذ عام 1948 فنيا بحيث نرى أن الصورة الرومنسية للوطن في الفن الفلسطيني تمت تسويتها. وأن الفرق بين الوطن والاغتراب فنيا أصبح أقل حدة؟

لا أعتقد أن العرب خرجوا من صدمة ضياع فلسطين بشكل عام، بل تم ترويضهم وترهيبهم ليخفوا هذة الحالة النفسية، التقيت مؤخرا بفنان عراقي في جيل الثمانين قال لي انه كان يذهب مع والده ليودع الجنود العراقيين الذاهبين للقتال في فلسطين، وأنه يتذكر حتى اليوم تلك اللحظة، وكيف تطوع في صفوف الفدائيين في سنوات السبعين في بيروت، قال لي انه بعد سبعين عام لم يتخلص من صدمه ضياع فلسطين، وسألني هل وصل الفلسطينيون الى حالة النسيان. اجبته بأنني غير متاكد، لانه هنالك تفاوت في المواقف والظروف- اعتقد ان فلسطيني الداخل خرجوا من الصدمة إلى الفعل السياسي، وهذا ينطبق على تجربة الثورة الفلسطينية في الستينات فهي أخرجت الفلسطيني من الصدفة الى حالة الفعل- اليوم انا شخصيا ليس لدي الأدوات لفهم حالتنا الصحية، لكني متأكد ان النكبة وجيل النكبة ما زال مصدوم- ولم نستطع بعد ان نخرج من الصدمة، لأن الحركة الصهيونية تهددنا كل يوم بنكبة جديدة.

اعتقد ان العلاج من الصدمة بحاجة الى تحقيق التطلعات الوطنية، لكي يتمكن الفلسطيني من ان يجلس مع ذاته ليفهم ماذا جرى لة خلال المئة العام السابقة، ولكن هذا غير متوفر، في المصالحة التاريخية التي كانت “ممكن” لو فلسفيا فشلت، ونحن في حالة جمود نفسي وسياسي. الخروج من الصدمة- هي حالة علاجية لم تتوفر ظروفها للفلسطيني بعد.
 

في هذا السياق الذي يعيشه الفنان كجزء من الشعب الفلسطيني، والواقع المعاش بكل تفاصيله، ماهي التحديات أمام ممارسة الفن والمشهد الفني عموما في فلسطين؟

انا اعتقد ان السؤال الأساسي هو تعريف التحديات، هل هي تحديات ذاتية، يومية، فكرية، أم هنالك سؤال أكبر من ذلك، هل هو نقاش فكري. اذا اردنا ان نتحدث عن التحديات اليومية للفنان فهنالك ظروف خاصة وظروف عامة، وهذا حديث عام. لكن في السياق الفلسطيني العالم- اعتقد ان هنالك تحدي فكري، تحدي سياسي، تحدي اقتصادي، وكل هذة التحديات مرتبطة ببعضها البعض بشكل عضوي.

اولا:  يجب ان نفهم بعمق ما هي الظروف الذاتية والعامة التي ينتج فيها الفنان/ة ، وكيف يتم تمكين الفنان/ة من الاستمرار في الإنتاج، هل هناك ٬مؤسسات داعمة، أو أفراد داعمون، ما هو دور الفن اليوم في المجمعات الفلسطيني، هل أصبح الفن جزء من الترفيه الثقافي كالتلفزيون مثلا، ما هي التحديات الفكرية التي تواجه الفنان، هل الفن اصبح مشروعا شخصيا للنجاح، أم هو جزء من فعل جمعي. هنالك العشرات من الاسئلة التي يجب طرحها، واعتقد انه علينا جميعا كممارسة العمل الإبداعي ان نشارك وأن نساهم في عملية التفكير والنقاش- هنالك تساؤلات عديدة، ونقاش مفتوح ونقاش من وراء الكواليس. ممكن ان يكون هذا السؤال جزء من فعالية او مؤتمر تبادر له إحدى المؤسسات – ليس لدي جواب لدي اسئلة.

تتنوع إنتاجاتك ما بين الأكاديمية والبصرية التي فيها التصوير والفيديو الادائي والتأريخ للفن، والكاريكاتور الذي بدأت فيه مسيرتك، ولكن لابد من وجود عيسى في مكان يشكّل بالنسبة له “المجال” الأهم له. فأين هو هذا المكان؟ وماهي خططك المستقبلية؟

أستطيع أن أعرف نفسي بأنني فنان متعدد الوسائط، بمعنى أنني أعرف نفسي بالفكرة وليس بالأداة التي توصل هذه الفكرة. الأدوات تكمل بعضها، ولكنني لا أدعي بأنني نجحت في كل شيء. هناك تجارب نجحت فيها، وأخرى بحاجة إلى إعادة صياغة، وربما إعادة تفكير فيها من جديد.

انا اعيد التفكير في تجربتي، احاول ان ادرسها، مراحل عديدة، في حياتي منذ خروجي من فلسطين عشت حياة غير مستقرة، في مدن عدة، نيويورك، القاهرة، لندن، مونتري، بانكوك، في السنوات الأخيرة استقرينا في جنيف أنا وزوجتي وأطفالي الذين ولدوا هناك، احاول ان افهم ماذا فعلت بي هذه المدن- انا في خضم مشروع ترجمة وتحرير دراسة الدكتوراه الى العربية، وأنا سعيد بذلك جدا- اولا لانني ساتواصل مع مجتمعي بلغة امي، وثانيا لان الدراسة ستصدر في حيفا- وهذة عودة رمزية الى مكاني الأول، إلى بداية الفكرة، انا متجه الى الكتابة في السنوات القادمة هذا مشروعي، ولدي شغف في السينما.

بالحديث عن المجال والمكان، أنت تعمقت بعلاقة الفنان بالمكان، ولكن من أعمالك الفنية يبدو أن حيفا تسكن داخلك وأنت في المهجر منذ أكثر من 27 عاما، أهو الحنين الذي أشرت إليه كباحث ولكنه لازمك كفنان؟ 

 طبعا، لا أنكر ذلك، ولكن بفارق وحيد، هو أنني قمت بتحويل الحنين الى موضوع للبحث،  لكي أتجاوز الم الغربة، لكن اعترف انني لم استطع أن أحدث قطيعة مع انفعالاتي وحنيني الى بيتي وعائلتي، وأصحاب الطفولة، والى صديق طفولتي اخي الذي فقدته في جيل مبكر، وكان لذلك اثرا كبيرا على قراري بالخروج، حاولت دائما العودة الى حيفا من خلال ذاكرتي البصرية، حتى عندما رسمت غزة- عدت الى حيفا الى ورشة “ابو طوني القش” التي عملت فيها ايام الطفولة، وتدربت على لف القصب بايدي غزاوية، فكان ابو ماهر يطوع القصب بيديها بمهارة فنية عظيمة، اعتقد انه اول من ساعدني ان اصنع عملا حرفيا كان هذا الانسان البسيط من غزة الذي كان يأتي الى حيفا يعمل في الورشة، ويحدثنا عن بحر غزة وبحر حيفا- اذكر انه سألني أول فلسفي في حياتي – كان عبارة عن مزاح- بل اليوم اعتقد انه سؤال وجودي- فرسمت غزة من ذكرياتي في حيفا- احببتها من حديث معلمي الاول، مع أني لم أزرها في حياتي. تجربتي لا تختلف عن أي انسان آخر- هي بدأت في حيفا- وتعود اليها.
 

الكاتب: نادر داغر

هوامش

موضوعات

...للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع