لو ما اعتمدنا مبدأ القراءة بوصفها حوراً مفتوحاً مع المقروء، بعيداً عن جنسه الأدبي المقدم من خلاله، فسنجد أنفسنا مع سردية “البحث عن جمل المحامل”، دار الأهلية 2020، للكاتب والفنان التشكيلي خالد حوراني، أمام محاولة جادة لسبر أغوار مدونة الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر.
وسردية الحوراني بما هي عليه – سيرة ذاتية في ثوب غيريّ – هي طرح يسهم كما يقول الراوي في تدوين “قصة الفن في فلسطين وتاريخيته” ص107، ليس من باب حسن النوايا، ولكن لأن “الصورة النمطية والشعارات التي تُعامل الفلسطينيين بما هم ناس خارقون للعادة، وليس بما هم بشر عاديون” ص133، كانت ولا تزال بحاجة ماسة لمعالجة تناظرية، يمكنها أن تلامس طاقة الفن الفلسطيني الإبداعي بما هو عليه. ولذلك نجد الكاتب يكرر مقولة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز: ” أنا أكتب ضد الفكرة الجاهزة” ص112.
ولأن “الهزيمة ليست قدراً دائماً” كما يقول الراوي ص56، عرّج الحوراني الذي يعلم” أن الحقيقة هي في صيرورة الحياة، وليس في شخصيات هؤلاء” ص73، خلال سرديته على العديد من الأسماء المؤثرة في مشهد الفن الفلسطيني، فكان حضور الفنانين نبيل عناني، وعصام بدر، وناصر عمر وغيرهم دون أن ينسى أن محور طرحه الأساس يدور حول البحث عن لوحة “جمل المحامل”، بما ترمز إليه من أبعاد وطنية، والتي رسمها صديقه الفنان المعروف سليمان منصور.
مقاربة المسألة السياسية بالمسألة الفنية
ولكي يتسنى لنا تأويل ما أراد الحوراني قوله من خلال هذه السردية، علينا النظر بعين الحياد إلى ما دوّنه الكاتب في مقدمته حين قال: “هي، إذاً، قصة لوحة في الظاهر، ولكنها في حقيقتها العميقة، قصة حياة كاملة تزخر بالتفاصيل، (…) وهي، إلى ذلك، ليست قصة عن الفن فقط في هذه المنطقة، … بل إنها قصة عن السياسة والظروف التي عاشها ويعيشها الفنان والإنسان في المنطقة والجوار” ص8.
الحوراني إذاً، يعالج المسألة السياسية من خلال المسألة الفنية، وهي معالجة مشروعة تماماً، وفاضحة تماماً لكل ما مرت به الحركة الوطنية الفلسطينية، من تحولات تركت ما تركت من آثار اجتماعية وثقافية على مجمل صورة القضية، دوّنها ولا يزال يدوّنها الفنان بما يَمتلك من مواهب” لم تتجاهل احتياطي الوقت” وإنما راحت تأخذ نصيبها من أعباء الرجل، الذي يحمل المستحيل على ظهره في لوحة “جمل المحامل”.
هكذا ودون أي ادعاء لبطولة الفكرة، نجد الكاتب يبحث ” في هويته بما هو إنسان وفنان أكثر من أي شيء آخر” ص49، لا ليقول ها أنا ذا، ولكن لأنه لا يحب” السكن في تلك المناطق الرمادية” على عكس شخصية بطله سليمان منصور، في تعامله الاجتماعي مع محيطه الأسري. وهكذا نجده كاتباً وفناناً فاعلاً ومؤثراً في مشهد بيئته الفنية، وهو يتناول قصة حياة الفنان منصور ولوحته الأكثر شهرة، في تطبيق عملي لدرسه الأول، على يد مُعلمه الأول، شيخ الخطاطين في مدينة الخليل، الخطاط “فيصل”، حينما أسرّ له الأخير بسبب استقباله ومساعدته له كتلميذ بأنه” يريد بطريقة أو بأخرى رد الجميل للذين ساعدوه فيما مضى، (…) ما عليّ إلا أن أساعد وأعلّم غيري، وهكذا يستمر الجميل ورد الجميل إلى ما لا نهاية” ص91.
سؤال الوجود وفعله
بعيداً عن حكمة الجميل ورد الجميل ما بين منصور والحوراني، بالرغم من كون السردية تدون قصة لوحة “جمل المحامل” وجزء من حياة صاحبها، باعتبارها واحدة من أهم وأشهر لوحات الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر، وبوصف منصور أحد الأسماء المؤسسة للفن التشكيلي الفلسطيني، يلحظ القارئ المتمعن في سردية الحوراني، أن الفضاء المكاني للعمل والذي تراوح ما بين أسوار السجن، ومدينة لندن مرورا بباريس وليبيا، “حاول أن يجد المعنى عبر الشرخ الصغير في الجدار الذي تتيحه الحياة أحيانا” ص108، من خلال توسيع فجوة هذا الشرخ، لا ليسقط الجدار فوق رؤوس شخوص الرواية، ولكن فوق رؤوس منْ أقاموه ليكون جداراً عازلاً ما بين المقولة الفلسطينية، بما تشمله من فنون والعالم أجمع، والأهم بين الفلسطيني وحقه المسلوب.
ولأن أسئلة من قبيل ما طرحه الكاتب، “كيف لمشروع فني وبحث أن يُحدث فرقاً في فهم الذات، وفي فهم سياق الفن وتاريخيته؟ هل سأكون محظوظاً في أن أصيب وتراً ما حساساً يساهم في فهم شيء ما وتغييره؟ ص 108، لربما لا تكون أسئلة باحثة عن إجابات شافية أو واضحة، قدر بحثها الأهم عن سؤال الوجود وفعله، في بلاد عادت إلى دائرة الاستهداف بشكل مباشر، بكل ما عليها من بشر وشجر وحجر منذ أكثر من قرن من الزمن.
خلاصة القول: إن كان المشي على الحبال، صناعة رياضية تقوم على فكرة توازن اللاعب وهو يمارس فعل المشي على حبل مشدود من جهتين، فإنّ الحوراني في سرديته – التي لا أعلم لماذا جنسها بجنس الرواية، وهي سردية تجمع ما بين السيرة الذاتية والغيريّة وتقوم بفعل أعمق من فعل الروايات – حاول بلغة رشيقة وطازجة أن يتأمل حياته وحياة زملائه، ليسرد للقارئ جزءاً من حياة الفنان الفلسطيني ” في بلاد لا تحتل اللوحات الفنية مكانة كبيرة في خطابها” ص51، عبر المشي المستقيم والمتوازن في آن، على حبال الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية، ليس في فلسطين وحسب، ولكن في المنطقة برمتها، مستمداً قوته من مقولة الشاعر والناقد الفني الفرنسي شارل بودلير “بكل هَشاشتك لا يحق لك أن تميل، لأنّ ثمة من يتَّكئ عليك” ص151، فكان أن أنجز عملاً بحثياً سردياً فائضاً بالمعنى، بالرغم من نقصه من جهة التعريف بوصفه عملاً روائياً، أمعن النظر في كل ما يدور من حوله، ليخط مقولة عليا للفنان والمبدع الفلسطيني، فيما جرى ويجري من أحداث في بلاده والمنطقة، عبر عنوانه المقترح والمهم “البحث عن جمل المحامل” بكل ما يعنيه أسم اللوحة المُختار، من قبل الأديب الروائي الراحل “إميل حبيبي” من معنى لوصف الفلسطيني خلال هذا القرن من الزمن.