كتب العديد من النقاد والمختصين الكثير عن أعظم مشاهد الفنان الأمريكي “أل باتشينو”، ولكن التاريخ سيدوّن أهم مشاهد التراجيديا العربية في فلسطين، ليس لأن هيكل التراجيديا يجب أن يكون معقدا، يمثل الحوادث التي تثير الخوف والشفقة، وفق رؤية أرسطو، ولكن لأننا لا يمكننا أن نحصر الأزمة المركبة في فلسطين بشكل خاص والمنطقة العربية بشكل عام، في صناعة المعنى السياسي بشكل حصري، ولكن في صياغة المعنى الثوري أيضا، شأنهما في ذلك، شأن أزمة مفهوم الهوية الجمعية لدى العوام من الناس داخل فلسطين وخارجها، والقصد هنا يشير إلى الأفكار التي يمكنها أن تعبر اللحظة التي تستمد قيمتها من قوة فعل الخلق والإبداع، بعيداً عن أي تنظير نظري. فما يكمن بين الفكر السياسي العربي والممارسة الوطنية على أرض الواقع، فضاء فارغ يُشغله شيطان التفاصيل.
هنا ومن دون الولوج إلى تعريف “مفترق الطرق” أو “المنعطف الخطير “المستهلكين تاريخياً، علينا الاعتراف أن ما تمر به القضية الفلسطينية في هذا الزمن الرديء، كمثال حي لما تمر به المنطقة بأكملها، هو لحظة فارقة تعري الحقيقة من كل ادعاء محتمل، فإما أن يُنعت الفلسطيني والعربي بالمراهق الذي لا مشكلة لديه، بل هو المشكلة بحد ذاته، وإما أن يُوصف بالثائر الراشد صاحب القضية، الذي لعب دور النموذج لردح من الزمن.
ومشكلتنا نحن الفلسطينيون، أننا نعاني من أزمات داخلية متراكمة، تبدو أكثر تعقيداً من مشكلتنا مع العدو المحتل، وأصعب هذه الأزمات يدور في فلك التعريفات القاصرة لمفهوم المصير المشترك، في ظل الشرط الاستعماري المزدوج، استعمار الأرض، وتزييف الوعي؛ بهذا المعنى، يصبح سؤال الهوية، من نحن، وماذا نريد؟ سؤالا ملحاً يعترف بالمجاز بوصفه الوجه الآخر لواقع الحال.
فإن ألقينا نظرة فاحصة على اللحظة الراهنة في المنطقة العربية بشكل عام وفلسطين على وجه التخصيص، سنجد وفرة في الشعارات، وندرة في التطبيق، كأن نستمع لحزمة من التطلعات والآمال من قبل النظم الحاكمة، دون أن نرى أي مظهر من مظاهر التخطيط لتنفيذ ولو الحد الأدنى منها. وكذا الحال لدى غالبية الأحزاب والفصائل بكل أطيافها الفكرية والعقائدية التي لا تخجل أن تمارس فعل النقد ونقيضه في ذات اللحظة، كأن تهاجم أوسلو، وتطالب القائمين عليها بصرف مخصصاتها المالية، أو أن تنتقد الفساد والمفسدين وتعمل مع الفاسد في السر والعلن، ولنا أن نتأمل مشهد التحالف العجيب الغريب القائم ما بين حركة دينية كحركة حماس مع القيادي السابق في حركة فتح “محمد دحلان” فيما يُتهم الطرفان بإنتاج الانقسام الذي ابتلي به الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. ولا يستثنى من ذلك كله، ما يطلق عليهم النخب الثقافية، التي لا يُنتج بعضها إلا فائضا من الكلام الفارغ من أية مضامين تذكر، فيما يعمل هذا البعض لصالح توجهاته الفكرية والحزبية منظراً ومبرراً. ما يجعلنا بحاجة ماسة وفعلية لتدشين وزارة للخجل على حد اقتراح أستاذ الفلسفة الشاعر والناقد الدكتور عبد الرحيم الشيخ.
واقتراح الشيخ، يذكرنا بقصة سعيد أبو النحس في رواية إميل حبيبي الأشهر، “المتشائل”، حيث يأتي نحت كلمتي تفاؤل وتشاؤم لدى حبيبي، ليصور لنا حالة فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 وهي التشاؤل؛ فإن حصل مكروه للمتشائل فإنه يحمد الله على عدم حصول مكروه أكبر أو كما شُرِحت في الرواية:
“خذني أنا مثلاً، فإنني لا أميز التشاؤم عن التفاؤل. فأسأل نفسي: من أنا؟ أمتشائم أنا أم متفائل؟ أقوم في الصباح من نومي فأحمد الله على أنه لم يقبضني في المنام. فإذا أصابني مكروه في يومي، أحمده على أن الأكره منه لم يقع، فأيهما أنا: أمتشائم أم متفائل”.
فإن كانت البنى الفكرية في المنطقة العربية، هي من شكلت النسق السياسي والاجتماعي في منتصف القرن الماضي على أرضية البحث الناصري أو البعثي عن تبني فكرة القومية العربية في مواجهة الإيديولوجية الدينية، التي قامت على النفاق أكثر من قيامها على الإيمان، فإننا اليوم هنا في فلسطين كما في عديد دول الإقليم، نواجه بُنى هرمية طبقية أسست لنزعة “الأنا” الفردية على حساب الأنا الجمعية ضمن نظام أبوي شمولي متعال بكل ما لمفهوم الكلمة من دلالة انعكست بوضوح جلي على أرض الواقع الذي نجد فيه حكومات لا تمارس دورها المنوط بها في الحكم، ولكنها تعلن ليل نهار أنها تعمل لصالح الناس، وفي الجهة المقابلة نسمع كلاماً لا حصر له عن المفاهيم المتأصلة في مواجهة العولمة والليبرالية إلى آخره من قافلة الكلام المرسل والمطلق في آن.
بيد أن الشواهد تؤكد أن تراجيديا الواقع تختلف اختلافاً عميقاً ينمط على نحو ما، ثقافة الهزيمة، هزيمة الأنا الفردية، والنحن الجمعية، هزيمة من لا يمانع، ولكنه يرفض، ولا ينتقد وإنما ينتقص، لا يجتهد أو يجاهد ولكنه يرفع شعار المقاومة، وكأننا في إحدى مدارس المستشرق الأمريكي “صمويل مارينوس” نكرس ما فسره من فعل الاستعمار طيلة نصف قرن مضى بالقول: “إن استهداف المدارس العربية والإسلامية جاء بغية تخريج ناشئة لا هي مسلمة، ولا هي مسيحية، ولا هي يهودية. ناشئة مضطربة، مادية الأغراض، لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقا، فلا كرامة للدين ولا حرمة للوطن”.
في الختام، إن الخروج من هذه الأزمة يستدعي أن نرمم ما أنقطع بيننا وبين ذواتنا، أن نوقف نزيف عزل الإنسان عن مسؤوليته ودوره في صياغة معنى وجوده الفردي والجمعي، أن نعي قيمة الذات الفردية والجمعية ونعود إليها لتنمية ما يعرف بالوعي الوجودي، أن نؤمن بالحق لا أن نستجديه، أن نعلي من شأن مفهوم المقاومة بصرف النظر عن أدواتها وسبلها، أن نقف سدا منيعا في مواجهة كل أشكال الفساد والمفسدين، والأهم أن نتعلم بأن الحرية لا تعني الفوضى، وأن كلمة لا على أهميتها ليست للمزايدات أو رفع الشعارات، ولكنها انتصارٌ فاعلٌ يسلك مسلك العمل عكس الاتجاه السائد من وجع مقيم؛ فإنه لمن سوء التقدير أن نكون ضحايا لشهواتنا واحقادنا واعدائنا معا، أن ننصرف عن الهم العام لصالح الهم الفردي.
فمن يدقق في تفاصيل الحال، يجد أنه يأتي في ظل مقاربة مدهشة لما نحضره اليوم في بث حي ومباشر لمشهد التعرية، تعريتنا من ورقة التوت التي لم تستر، قدر ما فضحت، وهي الورقة التي تغاضينا عنها بملء إرادتنا عجزا ودهاء، فأما العجز فهو نتاج طبيعي لقلة الحيلة، والدهاء، تصور غبي بأننا قد ننجو، وأما التوت، فهو توت الفرص الضائعة في مشوار السلام التائه عن مساره الكاذب، وقد نجح ممثلو المشهد ومخرجوه، في استبدال مفاهيم الخلاص الجمعي بالفردي، والوطني بالاستهلاكي. ليصوروا لنا وللعالم أجمع، فلسطين في مشهدية الخلاص المشوه.