رسائل (١/٢)

Black and Violet, Wassily Kandinsky

بيسان عدوان

كاتبة من فلسطين

أوقنُ تماماً بأنّ لقاءً جديداً بترتيبٍ عبثي سيكونُ مختلفًا جداً عن رسائلنا، وأعرفُ أنّ وجهة الرّسائل ستبحرُ إلى مكانٍ ما، لم ولن يشبه الرّحيل المؤقت. كانت تلك رسائل في المجهول، ربما خَبُرْتَ بعضًا من أحلامي وأساطيري، لا أعرف بالضّبط وليس لدي أداةُ قياس لأفهم ما وراء هذا السّفر الاضطراري. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

16/07/2020

تصوير: اسماء الغول

بيسان عدوان

كاتبة من فلسطين

بيسان عدوان

ومديرة دار "ابن رشد" للنشر

الرّسالة الأولى

عزيزي،

إذا استعصى عليكَ قلبٌ كُفَّ عن وِصاله، وإذا تغيّرَ عليْكَ أحدٌ امنحه نسياناً كأنّه لم يكنْ.

كُتِبَ عليَّ القتالُ وهو حِلٌّ لي؛ بهذا أخبرني صديقي الأبوي ذات ليلة، فكلّما اعتليتُ قمّةَ الجبلِ تدحرجَتْ حبّةُ السُّكّرِ عن ظهري وكانت جلمودَ صخرٍ حطّها السّيلُ من عَلٍ. 

هُنا كانت الحكايةُ تعيدُ نفسها مِنَ البدايةِ، كان يا ما كان، ما أسوأ هذا الاستهلالَ الماضويَّ الذي أوقفَ السّاعةَ قُرابةَ سبعينَ عامًا ونيّف في المشهد. يقول باولو كويهلو أيضًا “لا شيء في الدّنيا خاطئ تمامًا؛ حتى “السّاعة المتوقّفة” تكون صحيحة مرتين في اليوم”.. فهل كانت ساعتها صحيحة ولو لمرّة واحدة؟ ومتى؟ 

الحربُ هي الطّريقةُ الوحيدةُ للشّيطانِ ليُعلِّمَنا الجغرافيا؛ الحربُ وحدها تعلّمُنا أسماءَ المدنِ والشّوارعِ والأحياءِ وأسماءَ البحارِ والأنهارِ والزّمن، أما الأوبئةُ فهي الطّريقةُ المُثلى لنتعلّم فنّ الحياة، أترى؟ الحرب/ الوباء هما وجهان لفكرةٍ واحدةٍ تسمى الخلود، مَنْ ينجو منهما سيكونُ عليه أنْ يُحدّثنا عن سِيَرِ الأوّلين، تمامًا كما فعل المحارب رقم ٣١٣ الذي نجا بمحضِ المصادفةِ من معركةِ إسبرطةَ الأخيرة.

أتعرف؟ أقطن حي شيشلي، كانت شيشلي في التّاريخ المنصرم مقرًاً للكثير مِنَ الجنسيات الأُخرى التي سكنتْ إسطنبول مثل اليونانيين والأرمن والبلقان، لذا إذا تفحّصتَ المعمار في منطقة شيشلي جيدًا ستجدُ كمّاً هائلاً مِنَ المباني القديمة ذات الطّابعِ المختلفِ، وستجدُ أنَّ لكُلِّ مكانٍ طابعهُ المميّز تبعاً لاختلاف تاريخ ساكنيه القُدامى. كان لي نصيبٌ من السّكنِ في حي كرتولوش موطن التّاريخ اليوناني والأرمني بشيشلي، كان فيما مضى يضمّ مساكنَ اليونانيين والأرمن الخشبية، والتي اندثرَ معظمها في حريقٍ هائلٍ عام 1929 وبجانب منزلي مقبرةُ الأرمنِ واليونانيين. هنا كانت النّقطةُ الفاصلةُ بين عالمينِ وحربينِ وقرنينِ زمانيينِ ما بين القرنِ التّاسعِ عشر والعشرين، وفي هذه النّقطة قُتِلَ وهُجِّرَ أرمنُ ويونانيون كُثُر، هل في هذا إشارة ما لي؟ لم أعد أفهم علمَ الإشارات يا صديقي، ربما توقّف الزّمن في أسبوعِ التّرحيلِ، تلك النّقطةُ الفاصلةُ بين عالمينِ وامرأتين، ربما هي حياةٌ مؤجّلة، أو أنّ العالم يخبركَ بأنّ لك حياة واحدة، أمّا المرأة الأُخرى فهي ناجية بمحض المصادفة مِنَ الخيام. 

تعلّمتُ فنَ الانتظارِ مِن أبي وجدّي، كانا يعيشانِ على أملٍ واحدٍ: العودةُ! عاشا على ذاكرةٍ توقّفت عام ١٩٤٨، أتعرفُ أنّه العام الذي ولد فيه أبي في خيمةٍ بيضاءَ صغيرةٍ في قطاعِ غزّة؟ ربما القَنطرة وربما في حي العبّاسيّة! جدّتي لم تكنْ تذكرُ غير ولادته وهي في الطّريق مِنَ البلادِ إلى المجهولِ! سمته “جهاد” وتوأمه “جواد”، وهذا الجواد مات سريعاً، كان أبي قد سبقه ورسم خطّاً ما لحياته. عاش أبي بنصفٍ تائهٍ حتى حان موعده. 

في الأعوامِ الأخيرةِ للوجودِ الأرمني واليوناني في إسطنبول كان على الضّفةِ الأُخرى جيوش تُعدّ جبراً مِنَ الشّوامِ والمصريين في عام سفر برلك؛ تلكَ الحملةُ التي اقتادت آلافاً من المجنّدينَ في الجيش العثماني ببلادنا وغابوا هناك ولم يعودوا. كانت النّساء تعد الكعك في انتظارِ عودتهم التي لم تأتِ بعد، لكنّ الجراد كان ضيفاً مختلفاً جثمَ على أرواحنا قُبيل الحرب العالمية الأولى، ثم حلّت الإنفلونزا الإسبانية، وبعدها الكوليرا كمحتلين مع عصابات الهجّانة والأشتيرن حتى أُنهِكت النّساءُ، وهلكَ الأطفالُ والعجائز، ونُكِّست أعلام الخلافة العثمانية ليحلَّ مكانها عهدٌ جديدٌ من دولةٍ أُخرى بُنيت على أشلاء أجدادنا في شيشلي، وقبلهم على أجسادِ أقوامٍ أخرى مِنَ الأرمن واليونانيين والشّوام والمصريين.

ما هذا المصير الغريب؟! حتى اليوم، حين تمرُّ بالأحياءِ في الحي الجديدِ ترى كُلَّ تلك الملامح؛ لا أستطيعُ أنْ أُدقِّقَ النّظرَ في ملامحهم فأنا ما أزال عالقةً في شوارعِ وسط البلد وحلوان ومصر الجديدة والإسكندرية وبورسعيد تماماً كما علقت منذ أكثر من ٢٥ عامًا في شوارع يافا والنّاصرة والقُدس وعكّا وحيفا وغزة، أعرف أنّ كُلَّ هذا تغيّر وما يزال يتغيّر.

**

الرّسالة الثّانية

عزيزي،

“أَحببْ مَنْ شئتَ فإنّك مُفارقه”، هذا ما وقعتْ عليه عيناي منذُ أيامٍ.. إنّها مقولةٌ للإمامِ علي.. زلزلت روحي، جعلتني أدخلُ دوامةً جديدةً بجانبِ ما أنا فيه؛ الرّوحُ معلّقةٌ هُناكَ وجسدي هُنا، لا أستطيعُ رأب الصّدعِ، كان النّومُ والمرضُ هرباً مثالياً للاستيعاب، وكان بدايةَ التّوقفِ عن انتظاركَ أمام شاشةِ الهاتف لتُخبرني بأكثر مِن “صباح الخير”. 

 توقفتُ عن شراءِ الوردِ منذُ أيامٍ، لا أعرفُ عددها، لكنّ آخر مرّة ذهبتُ فيها إلى صاحبِ الورد التركي – هكذا سميته – وجدتُ دُكّانهُ مُغلقًا، ذهبتُ في اليوم التّالي فوجدته مُغلقًا أيضًا. في اليوم الثّالثِ توقّفتُ عند الفاترينة الزّجاجية تذكّرتُ ابتسامته وهو يحدّثني بلغتهِ وأنا أبتسم له وهو يعرف جيدًا أنني لا أُجيدُ التّركية، ربما تصوّر أنّني خرساء لكنّه كانَ يُثني على الأزهارِ التي أختارُها، وحدها زهرة عباد الشّمس لم أضمها لباقتي اليومية، لأنّها لعاشقين تحابَّا فتشابها؛ ربما خائفٌ أو ربما أُصيبَ بعدوى الكورونا ولم تحمِه الزّهور، أتعرفُ ذلك؟ ربما!

منذُ أيامٍ، شاهدتُ غُراباً يتمشى على مهلٍ في شارعِ البيتِ الجديدِ وعجبتُ من خُيَلائه؛ كأنما يُخبرني بروايته القديمة “أجل! لأعلّمنكم كيف توارون جثثكم”. مضيتُ لشراء ِبضع الحاجياتِ مِنَ السّوقِ وكأنّي لم أنتبه له، في اليوم الثّاني جاء مع صحبته ليحتلوا الشّارع، وفي اليوم الثّالث اعتقدت أنّهم جوعى فجئت بحبِّ البرغل ونثرته لهم فبدؤوا يأكلون؛ لم أرَهم منذُ أيام، ربما هم في شارعٍ آخر ينذرون القاطنين به بموتٍ قريبٍ! لماذا أحكي لك ذلك؟ فلنعد لحكايتنا.

 منذ أيام تجتاحني رغبةٌ في كتابةِ الرّسائلِ لكنّ هناكَ اضطراباً حولَ ما سأكتبه، تزامن مع رغبة الكتابةِ فيضٌ كبيرٌ من المشاهد التي حدثت في الأيامِ الأخيرةِ في القاهرة، المصادفة.. تداعياتها.. الرّوح.. الأحداث التّالية.. الإشارات.. المحنة.. الشّوارع الغريبة.. الوباء.. اعتلال الرّوح. كُلُّ تلك الأشياء كانت يقيناً تشيرُ إلى أنّ شيئاً ما يحدثُ. كانت لديّ رغبةٌ مُلحّةٌ في قطعِ التّواصلِ، إنهاءِ هذا المجهول مِنَ المشهدِ، ليس لأنّي لا أريده، وإنّما لأنّي لا أعرفُ التّعامل معه بحواسّ ناقصة.

كيف تحبُّ امرأة نجت بمحضِ المصادفةِ من كُلِّ هذا التّعب؟!

أتعرفُ أنّ الحواسَ الخمسَ ضروريةٌ للبقاء والاستمرار.. فيما وحدها الحاسة السّادسة تملأ الغياب؟! عوّدتُ نفسي كثيراً قبل الرّحيلِ ألَّا أُصدّقَ غير حواسي فهي خيرُ دليلٍ على فهم الخريطةِ البشريةِ.

 في العزلِ كما في البلادِ التي لا تعرفك..

أنصت لموسيقى روحك .. 

ربما لن يمهلك الموتُ للرّقص.

تستيقظُ كُلَّ صباحٍ على أخبارِ الجائحة يُصاحبك الخوف، ويرافقك غوغل إلى الموت بعيداً في بلادٍ لا تتقن غير لسانها … 

في بلادٍ لا تعرفُ أنْ تكونَ برداً وسلاماً.

في العزلِ، تبصر أرواحهم المعذبة حين أُجبروا على التّهجيرِ القسري إلى بلادِ القرم … 

وحده الوباء كانَ رفيقهم للبلادِ..

 وصلتُ إلى مهجري، هرولتُ إلى حائطِ الفيسبوك وكتبتُ العبارة التالية”في وقتٍ ما يحدثُ شيءٌ ما”، وذيّلتها بمقولةٍ لباولوا كويهلو “لا شيء يحدثُ في هذا العالمِ مصادفةً”. هواجسي الممتدة مِنَ البحرِ المتوسط إلى البوسفور تُخبرني بعكسِ ذلك تماماً. تذكّرتُ كلمةً قالها لي حبيبٌ ذاتَ نهار وكنتُ قد محوتها قسراً “خفّفي من مساحاتِ هواجسِك شوية”.. أو هكذا على ما يبدو، لكنّ ما حدثَ ويحدثُ لم يشِ إلا بامتلاء فراغ روحي بهواجس جديدة ربما لا تجيد اللّغة، لكنّها تجيد الشّم! 

 أتعرفُ أنّ حاسّةَ الشمِّ لديّ مُعطلةٌ منذ وطِئْتُ بلاد الأتراك! تركتها في مكانٍ ما احتل روحي، كأني أحتفظ بي هناك، هنا، هناك، وهناك أماكن لم أختَرْها إنّما كانت تختارُني: فلسطين، مصر وتركيا. التّاريخ يأبى مفارقتي ويعيدُ الشّريط في المشهد. نحنُ الآنَ على أعتابِ الأعوام الأولى من القرنِ العشرين في بداياتِ الحرب العالمية الأولى؛ رأيتُنا في المشهدِ العبثي هذا كُنّا نجلسُ خلفَ بارٍ في مدينتنا تحكي لي عن كلِّ مَنْ مرّوا بك وأنا أستمع إليكَ جيدًا، كنتُ أحاولُ أن أُبصرَكَ بكلِّ حواسيّ فتقول الأسطورةُ “في زمنٍ ما يحدث شيءٌ ما”.

بدأ العزلُ يحاصرُنا أكثر فأكثر؛ بعد أنْ كانَ عزلاً ذاتيّاً صار حظر تجول. في البداية، تخشى على الأخريين ولكن سرعان ما تحوّل الأمرُ إلى جحيم .. كُلُّ شخصٍ لديه جحيمه، أنْ تعلقَ داخل جسمك، تقاوم لايقاف نفسك وتتوقّفُ عن القتال، حينها تبدأ بمسايرة الوباء.. تخافُ.. تبتعدُ.. تنعزلُ.. تتأقلمُ ثم تبدأُ القتل. تظل الكوابيس الشّيء الإنساني المتبقي في زمن العزل.

لم أهتم بالتّفاصيلِ، لم تَعُدْ تدهشني الحكاياتُ التي تطلُّ علينا كلّما وطِئَتْ أقدامُنا حكايةً جديدة.

أعلمُ جيدًا أنّ وراءَ كُلِّ حكايةٍ حكايةٌ أُخرى، لا يجوزُ أنْ نرويها، نحكي جزءً مِنها ولكن من زاويةٍ نختارُها بعنايةٍ لجذبِ انتباه المتلقّي، إنّها لعبةٌ بريختيّة مارسناها كثيرًا في مسرح الجامعة وقبلها في حكايات الجدّات لننام. 

كان يشغلني سؤالٌ..

 كيف سنَلِجُ إلى الرّواية، وقد كان.

**

الرّسالة الثّالثة

صباح الخير، ها نحنُ في الأسبوعِ السّادسِ للجائحة ولا نزال أحياء، لبعض الوقت. أعرفُ أنّ الفقدان التّدريجي للأملِ لن يُعجبك.. أطمئنُك! ليس الأمرُ كذلك، ولكن في زمنِ العزلِ وانتظار أعداد المصابين والموتى مساء كُلِّ ليلةٍ أشبه بالعاصفةِ، لا تستطيع الهروب منها، تسحبُكَ إليها وتبتلعُكَ حتى لا تستطيعُ الفكاكَ منها أو الخروج عليها.

 حين ينتهى العزل وينحسرُ الوباء لن تكونَ كما كُنتَ مِن قبلُ، لم تعرف كيف كنتَ في السّابقِ، وكيف تدبّرت أمرَكَ خلال العزلِ، وحظر التّجولِ، والحجرِ الصّحي، والمنفى.

في هذه الأيام، يتقلّبُ المزاج كما تتقلبُ الفصول في اليومِ الواحدِ في هذه البلاد.. تفقد سمعَكَ، شهيتَكَ وتصابُ باليباسِ، ثم تفقد قُدرتكَ على الكلامِ.. تصابُ بحالةِ هوسٍ هستيري تتابعُ بشغفٍ اضطراري كُلَّ تفاصيلِ العزلِ، تقرأُ قِصصَ المصابينَ والنّاجيينَ بمحضِ الصُّدفةِ، تشاهدُ وجوهَهم، تتحسّسُ ملامحهم، تشعرُ بآلامِ أمعائِهم، تصيرُ أنتَ هم دونَ أنْ تدري. 

تشعرُ ببرودةٍ قاسيةٍ تجتاحُك فتكسِر لحمك.. ولا تعلم هل تنجو مِن هذهِ الظُّلمةِ الموحشةِ وأنت الّذي لم تدرك فعليّاً كيف ينتهي هذا البلاء؟!

ثقيلةٌ هذه التّجربة، وأنت بعيد في هذا المنفى الغارق في تفاصيلِه الكئيبةِ، جميعُ مَنْ حولك لم يدركوا ما أنت فيه، ولم يعلموا بعدُ كيف نجو من العاصفةِ..

 كافكا كان يغمرني بفلسفته طيلة الوقت، تزورني نُصوصه الثّقيلة، وتُصاحبني في مناماتي. منذُ أيام، وأنا أبحثُ عن كلماته لتعبر بي طلاسم ذلك الوجع “لحظة انتهاء العاصفة لن تتذكرَ كيف تدبّرت أمركَ لتنجو، ولن تدركَ هل انتهت العاصفة أم لا. هناك أمرٌ واحدٌ تتيقن منه: حين تخرجُ من العاصفةِ لن تعودَ نفسَ الشّخصِ الذي دخلها، لهذا السّبب وحده كانت العاصفة .”

 أنْ تكونَ فلسطيني يعني أنْ تُصابَ بشقاءٍ جميلٍ لا تقدرُ على الفِكاكَ منهُ، أنْ تصابَ بلوثةِ أملٍ زائفةٍ، أنْ تُحوّلَ أيَّ هزيمةٍ كبُرت أو صغُرت إلى حجارة تتكىء عليها للصّعود، أنْ تُبقي مستوى الموت مُرادفاً لمستوى الحياة، أنْ تُصابَ بهذا القدر الغرائبي الذي يلاحقُك كعاصفةٍ صغيرةٍ كلّما غيّرت اتجاهك لتنجو، تلاحقُكَ، تُرواغُها مرّةً بعدَ أُخرى، لكنّها تتبعُكَ؛ قدراً يشبه لعنتَكَ، تلك اللّعنةُ التي تشبه رقصةً مشؤومةً مع الموتِ، لا يهبُّ فجَأةً أو يأتيك على حين غفلةٍ منك، ليس شيئاً لا يمتّ لك بِصِلةٍ إنّه أنت، إنّه شيءٌ ما بداخِلِكَ.

 كُلُّ ما عليكَ فعلهُ حين تكونُ فلسطينياً هو أنْ تدخلَ في العاصفةِ مباشرةً، تُغمضُ عينيكَ وتسدَّ أُذنيكَ وتسيرُ فيها نحو بلادٍ لا تعرفُ من رائحتها غير إسمك، وبعضاً من ملامحِكَ تحملها على ظهرِكَ وسنينكَ، تمضي نحوها خطوة خطوة، وتفردَ ذراعيك، وتمدّد جسدك فوق صفحة مياهه وتستسلم له.

هُناكَ حيث لا يوجدُ غير صوتِ الرّيحِ تخور في أوصالِكَ، لا شمسَ هناك ولا قمرَ، لا اتجاهاتٍ، ولا إحساس بالزّمانِ أو المكانِ، فقط دوامةٌ مِنَ الرّمالِ البيضاء المحبّبة التي تتركُ ندوباً على جسدك منذ طفولتك بالمخيم، ندوبٌ تكوّنت مِن قذيفاتٍ صغيرةٍ، مِن موتٍ كاد يضلّ طريقه إليك، الانفجارات واللّحم المتقطّع بين عينيك يلوّن نهارك الصّغير بروائح الدّماء وشظايا العظام التي تراها في مناماتك المتكرّرة.

أنت تهربُ منذُ أكثرَ مِن أربعين عاماً وهي كُلُّ ما تملكه من زمنٍ نحو حيوات أُخرى تشمُّ فيها رائحة الأعتياد؛ حيث لا أملَ، لا حزنَ، لا فرحَ ولا يأسَ؛ حيواتٍ عاديّةٍ كحياةِ أولئك العاديون جداً.

لا أعرفُ كيف يبدو أولئك البشر، كيفَ تكونُ روائحهم، كيفَ تصبحُ أجسادُهم صافيةً مِن دونِ خربشاتٍ أو ندوبٍ تستوطن جسدك وروحك.

عليكَ دوماً أن لا تُخطئ وأنتَ في العاصفةِ؛ الخطأ ممنوع! كُلُّ خطأ يعني الموت الذي سيقطعُ اللّحمَ والرّؤوسَ، يعني الدّم الذي سيسيلُ داخلَ روحِكَ وينزفُ الجميع، وتتلقّف أنت ذلك الدّم الأحمر الحارَّ بيديك؛ كُلُّ خطأ يعني أنْ تدخُلَ في متاهةِ العاصفةِ لا تعرفُ متى تنجو أو كيف تنجو، ولن تعرفَ مدى لتوقف تلك الرّمال الشّديدةِ السُّرعةِ والعَتمةِ، هناكَ حيثُ أنتَ وحدكَ تقفُ على مقربةٍ مِنَ الحافّةِ تنتظرُ أنْ تعبُرَ معهم، سيعبرونَ ويتركونك تتلاطمك الأسئلة: مَنْ أنا وكيفَ أعيشُ حيوات لا تشبهني، وكيفَ لي أنْ أصنعَ عالماً زائفاً مِن بقاءٍ لا يُحتمل، وحين تنجو مِنَ العاصفةِ لن تعودَ نفسَ الشّخصِ، فثمة شيءٌ تغيّرَ.

**

الرّسالة الرّابعة 

عزيزي،

 صباح الخير.. أتعلمُ أنّي أفتقدُ الشّمسَ؟ لذا كُلُّ استيقاظ في أيّ ساعةٍ مِنَ النّهار يعدُّ صباحاً بالنّسبة لي.. هكذا أصنعُ شمساً خاصةً بي. بالأمس ذهبت إلى منطقة يقطنها المصريون، واشتريت الخبز الأسمر “العيش”، اندهشت مِن فرطِ السّعادةِ التي كنتُ فيها.. أتعرفُ لماذا يطلقون عليه “العيش”؟ مِن “العيشة والمعاش وكُلُّ مَنْ قدر في الحياة أنْ يعيشَ عاش”، وتلك إشارة أُخرى. 

فَجأةً، عادت لي حاسةُ الشّمِ التي فقدتها منذ وطئت قدماي بلاد الأناضول.. غريبٌ هذا الفرح، يُنعشُ الرّوحَ ويأخذك بعيداً حيثُ البلاد.. والبيوت. أتعرفُ كم مفتاحاً أحتفظ به في حقيبة يدي للبيوتِ التي سكنتها؟ كُلُّ مفتاحٍ لا يشبه الآخر، أيقنتُ أنَ للمفاتيحَ ذاكرة خاصة مثلنا تماماً.

الحكايات يصنعُها طرفانِ أو عدّة أطراف، أمّا الأسطورة فنصنعُها وحدنا، هكذا حدّثني أحد الأصدقاء حين نصحني بأنْ أصنعَ أسطورتي. كنتُ أودُّ أنْ أُخبركَ عن أسطورةِ أُمّي التي وجدتني دون سابق إنذار. أتذكّرها، ربما لم أحدّثك عنها، ولكن في العزلِ تُفتحُ الأبوابُ وصناديق الحكاياتِ. العزلُ ليس كالمنفى. في العزلِ تنتظرُ السّاعات القليلة التي ترى الشّمسَ، ينخفضُ سقفُ طموحاتك، فقط بقاء يُحتمل. 

الوباء والجوع مترادفانِ يشبه بعضهما بعضاً، وفي الزّحامِ لا أحد، أما آنَ للشّوكة أنْ تدخلَ قلبي كُلّهُ كي أرى قلبي، وكي أسمعه وأحسّه.

فكّرتُ في أنْ أُخبرَكَ، في موعدنا القادم، بكُلِّ الحكايات التي مرّت بي، كنتُ سأقصُّ عليك بعضاً مِن أساطيري، إلا أنّ صوتَ فيروز كان خلفيةً تحيطُ برسالتي تلك “موعدنا بُكرة.. شو اتأخر بُكرة.. أقولك مش جاي حبيبي”. 

رأت أُمّي ذلك الفيديو الذي نشرته على صفحتي وشعرتْ بسعادةٍ لأوّلَ مرّةٍ منذُ رحيلي. قلت لها على الهاتف “انتظريني قريباً.. أشعرُ بذلك”، أجابت بصمت “بس يجي سليم”، وسليم هذا حسب رواية أُمّي “أمير ركب البحر إلى الشّمال وغاب في الثّلج”، كيف ولماذا ومتى.. لا تدري، ربما لم يُسعفها الوقت لتنسجَ حكاياتها كاملةً أو حكايةً مقنعةً لسامعيها، ربما لم تهتم لذلك، لكنّها كانت تُعلّقُ أحلام أطفالها الصّغار بلعبةٍ جديدةٍ أو فسحةٍ بسيطةٍ أو أكلةٍ بعد أيام مِنَ الجوعِ على هذا الشّخص الأسطوري، ربما كانت تريدُ أنْ تتركَ لخيالِ أطفالها أنْ ينسجَ حكايات أميرها المهاجر إلى البعيد. في الحقيقة، علَّمَنا ذلك الأمير ألّا ننتظر أحداً، وحين امتلأت حقائب الذّاكرة بكُلِّ هذا الفقد المتواصل وهذا البقاء المؤقت تعلّمتُ ألا أنتظر، ولكن.. “هناك في مكان ما يوجد شيءٌ ما”.. تلك أسطورتي أنا.

في مقاربةٍ بسيطةٍ نجدُ أسطورتين نابعتين من المصدرِ نفسه، وإنْ اختلفت الصّياغة، ثمة شيءٌ ما سيأتي، ثمة شيء ما ننتظره وينتظرنا.

أخبرني حبيب سابق حين قرر النّهاية، بأنني نور مفرط في ضيائه ربما لا يقوى البصر على تحمّله فيهرب إلى الظّلمة، لم أفهم تلك العبارة ولن أفهمها لأنّ النّور لا يأتي وحيداً بلا منبع.. فهو قادمٌ مِن مكانٍ ما نريده بقوة، ذلك المكان حجرة النّول.. يفرشُ الخيوط الكثيرة الزّاهية بالألوان والرّسومات، فقط علينا أنْ نُشمّر عن السّاقينِ وندخلَ المكان كي تتحققَ الأسطورة وتمنحنا الحياة.

أعرف أنك تفتّشُ في السّطورِ عن “لماذا؟”، لكنّك أنت مَنْ أرشدني لـ”كيف”، وأنا لست مهتمة بـ”لماذا” الآن، إنّما مهتمةٌ بسؤالٍ آخر: كيف أصنع أسطورتي طالما أنّ الحكايات مرهونة بأطرافِ أُخرى؟

منذُ رحيلي القسري في اليوم الأول وأنا مؤرّقةٌ بهذا القدر وما إن اجتاحنا فايروس كورونا، صار التأريخ يؤرقني، وباتت كتابة الرّسائلِ ملاذي للبقاء. رسائل مي زيادة لجبران ورسائل بنت الشيمي لأسامة.. أتعرف ما الرّابط بينهما؟ الرّابطُ هو غريزةُ البقاء. صارت رسائلي التي أكتبها الآنَ تمنحني الأملَ في الحياةِ والعودة إلى البلاد.. كانَ عليّ أنْ أُمرِّنَ حواسي يومياً على الانتظار.

أوقنُ تماماً بأنّ لقاءً جديداً بترتيبٍ عبثي سيكونُ مختلفًا جداً عن رسائلنا، وأعرفُ أنّ وجهة الرّسائل ستبحرُ إلى مكانٍ ما، لم ولن يشبه الرّحيل المؤقت. كانت تلك رسائل في المجهول، ربما خَبُرْتَ بعضًا من أحلامي وأساطيري، لا أعرف بالضّبط وليس لدي أداةُ قياس لأفهم ما وراء هذا السّفر الاضطراري. 

حقيقةً، أشعر بتوتُّرٍ محموم.. لا بل باضطرابٍ خفيٍّ، فالهربُ إلى ذاكرةِ الأماكن ربما يعيقُ الاحتمال، لكنّه يمنحني أماناً ولو كان زائفاً. 

السّفر في ممرّاتِ ذكرياتك لأزمنةٍ عشتها سابقاً يوجعني. ممرّاتٌ مِن “رهط اللاجئين” في المنافي، ربما لأنّ قلبَكَ به غُصّةٌ مِن حكايةٍ ما أفرجتَ عن بعضٍ منها حين تجاذبنا بعض الحكاياتِ عن أنفُسِنا. أدركتُ شيئاً ما رغم حديثنا اليومي، كنتُ أنصتُ إليكَ لعلّي أبصرك، كان عليَّ أنْ آخذك إلى عالمي وبشكلٍ أناني. كنتُ أمسكُ بيدِكَ وأُغرقك بالدّفء. هل هذا هو النّور المفرط الإضاءة الذي يتحمّله البصر أحيانا؟

“يُبصرك قلبي بكُلِّ الحواس،عيناك وطني وأخشى المنفى والرّحيل، وتقول الأسطورة “في مكان ما يوجد شيءٌ ما”. طِوال الأُسبوعِ تمرّنتُ على العزلِ. أعتادُ غيابَكَ ورحيلي، لكنَّ حضورَك كانَ مُتجلّياً في الأماكن، والأصدقاء، والحكايات، والأساطير، ورسالتكَ المقتضبة التي شاركني فيها ذلك الدّفء الذي طالما نصبت لك فخًّاً به، ويا للعجب! كنتُ أوّلَ ضحاياه، وصرتَ أنتَ ضرورياً للدّهشةِ وللقرونِ القادمةِ. 

بعد اللّيلةِ الأخيرة وقُبيل اعتقالي ذهبتُ وحدي إلى بيتي “بيت السّت الكريتلية” في محاولةٍ للاحتماء. أخبرني المرشد الذي يعشقُ البيتَ تماماً مثلي بموتِ السّت الكريتيلية بوباء الطّاعون. لم أعرف تلك الحكاية مِن قبلُ. أخبرني حارسُ البيتِ بأنّها هربت مِن جزيرةِ كريت بعد جوعٍ شديدٍ خلّفه وباء ما في بلادِها واستوطنت مصر، وأحبّت ثم ماتت مِن فرطِ الغياب. صمتُّ، استعدتُ ذلك الحوار القصير بيني وبينَ صديقِ الثّلجِ عن كريت والحرملك والمكتب، وبشكلٍ مفرط الأنانيّة خشيتُ أنْ يزورَ بلاداً أحبّها دوني، وتذكّرتُ أسطورة “بس يجي سليم” لكنّه لم يأتِ فرحلتُ.

هناك سطورٌ ناقصةٌ في الرّسالة.. ذاكَ أنّي لن أحتملَ غيابي القسري، ولأنّي أخشى المنفى والرّحيل، فتظلُّ الأسطورة التي أجيدُ حياكتها بنفسي تُبصرك بدلاً مِن حكاياتٍ ربما لن تُبهجنا فأنت ضروري للحياةِ وحضورك ضروري للبقاءِ.

عزيزي.. كن بخير.

**

الكاتب: بيسان عدوان

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع