كتبها جان لوك نانسي ونشرتها دورية فيلوسوفي ماغازين الفرنسية في ١٨/٠٣/٢٠٢٠
يعتبر جاك دريدا، أحد أكبر فلاسفة النظرية الفرنسية، كاتباً صعباً. إلا إذا اعتمدنا نصيحة صديقه جون لوك نانسي لقراءته بالاستماع أولا إلى “موسيقاه”، صوته، وباعتبار أنه سعى إلى إثبات أننا، في الحياة، لن نتزامن كليا مع ذواتنا.
تعتبر قراءة جاك دريدا ثم مقابلته حدثا نوعيا مهماً في حياتي، حتى أنه أثر في توجهاتي وحياتي الفكرية. كان ذلك في السّتينات. كنت قد أنهيت دراسة الفلسفة وبدأت التّدريس. كتابه “الصوت والظاهرة” (1967) أوحى لي بالكثير، وكأني أشهد نشأة شيء جديد و أصلي، هذا بالإضافة إلى نفسه الفلسفي المعاصر. أستطيع مقارنة دهشتي حينها مع دهشة من يستمع لأوّل مرّة إلى موسيقى “”الرّوك” عبر الرّاديو في الخمسينات. كان إيقاعه رقيق ومختلف بالمقارنة مع أنغام الماضي السائدة. لقد كنت مهتمّا بأعمال فلاسفة معاصرين آخرين، بالتّحديد أساتذة السّوربون مثل “ريكور”، لكن داريدا كان يغرّد منفردا على غير المألوف. ومن هنا كان حضوره لافتا منذ ظهوره، في حياتي خاصة وفي تاريخ الفلسفة عموما.
الاختلاف المباغت كاللكمة
ماذا قدّم داريدا؟ في كتابه “الصوت والظاهرة”، يحلّل دريدا الحضور في الذّات. لكنّ الّذي بدى حاسما والذي كان له تأثير صاعق كلكمة مباغتة، هو فكرة أنّه في هذا الحضور، في اللّحظة التي تبدو حينيّة والتي تؤسّس للحضور في الذّات، يوجد فارق، مدّة، تقدّر بطرفة عين. ممّا يعني أنّه لا شيء يمكن أن يكون حاضرا فعليّا! هناك دائما ما يسميه داريدا “الاختلاف” الذي يشتقّه من الفعل “اختلف”. مفهموم الاختلاف هنا لا يعني فقط الإختلاف المفاهيمي البسيط بما يحمله ذلك من تضارب وتضاد بين لفظين، لكن الاختلاف هو موجود في شكل لا متناهي لدرجة لا يمكن معها وصل لفظ ما بلفظ آخر. أي كأن يكون هذان اللّفظان هما الذّات للذّات (ذات داخل ذات)، أو البداية والنهاية، بما يعنيه ذلك من اللاّتزامن الذي نراه في زمن حياة ما. تطلّع دريدا إلى أن لا يفهم الاختلاف، الذي أسّس له في فلسفته، على أنّه كلمة أو مفهوم بسيط، وإنّما فعل مؤسّس أو تصرّف مستقلّ، وليس كما أراد منتقدوه أن يفهموا ذلك من إحالة أو تأجيل مبهم. إنّ استتبعات هذا الاختلاف ليست وجودية، و لكنها مرتبطة بما ينشق من الوحدة (الزمنية)، الاستمراريّة، خصوصا التّاريخ.
أظنّ أن فكرة دريدا تتماثل مع إنجازات سابقة. طالما تركز اهتمامنا حول المحطات الكبرى للحدث (التاريخي) والتاريخ. لكن جاء أخيرا شخص آخر بعد، بعد هيغل و هايدغر، أكّد أن الاستمرارية التّاريخية ليست حتمية(١). هيغل جعل من التاريخ موضوعا عندما أشركه في تكوين الرّوح. فيما يعارض هايدغر معجم كينونة الحاضر في العالم ومعجم الإنسان الغائب (الكامن) أيضا (Dasein) المتطلّع إلى الخارج، خارج ذاته الموجودة. اعتمد داريدا هذا التّناقض (التضارب/التقابل) وجعل منه قانونا عامّا للتفكير.
يجب أن نضع أنفسنا في السياق. في بداية السّتينات، كان التّاريخ شيئا مهما، و كنّا نسبح في فكرة أنّه يتقدّم في مسار أحادي ضروريّ. حاول سارتر حينها إحداث تجربة فكريّة جديدة من خلال كتابه “نقد العقل الجدلي”، و التي تتمثّل في حركة تدريجيَة انتصاريَة للتاريخ. أصابنا حينها إحساس عميق بالأسى صاحبه عدم الارتياح تجاه ذلك. لكن الحدث الأكبر حينها بالنسبة لنا كان حرب الجزائر والنّضال من أجل الاستقلال. هذا الاستقلال الذي أحرز بطريقة لم يتوقّعها أحد. في البداية كان هناك إعلان ديغول للحرب سنة 1958، وقد كنّا طبعا ضدّه، لقد سرنا جميعا في الشّوارع نصيح “الفاشية لن تمرّ”، وخلافا لكل التوقّعات، أعطى ديغول الاستقلال للجزائر. لم يكن لدينا فكرة عن الخلفية السياسيَة لذلك. في غضون سنتين قبل توقيع إتفاق إيفيان(٢)، كنا قد تنبأنا أن السيناريو المنشود الذي كنا توقعناه لما بعد الاستقلال هو مجرّد وهم. نزعة جبهة التحرير الوطنية نحو الشّمولية صارت واضحة. أذكر أنّني في صيف ما، كنت مشاركا في تأطير جملة من الأساتذة المستقبليّين الجزائريِين، واكتشفت أن إطارات جبهة التحرير يرفضون أن يدرس الطلاب بعض المواد بالخصوص، شعرت بحزن كبير حينها.
التاريخ لا نهائي
جيلي كان مغفلّا. مؤكد أن الجزائر نالت استقلالها، لكن بأيّ ثمن؟ وعندما تمّ الأمر، ماذا بقي لنا لنفعله؟ لا شيء. أتذكر سنوات عديدة كان الجميع يمضون في جميع الاتّجاهات. حتى أنا كنت ماويّا(٣) لفترة، والذي أوجب أن أكون منشغلا بتفاصيل الحياة اليومية في بيكين. وهذا أيضا كان نتيجته إحباط شديد في الأخير.
كل هذه الأحداث علّمتنا أن التّاريخ لا نهائيّ، وأنه لا توجد جنّة أرضيّة ولا سماويّة. بين كل هذه الأوهام جاء داريدا بفكره الفارق في الذات التأّسيسيّة، والذي سيسميّه بعد ذلك اختلافا في الأصل. أسس لما أسماه التخالف مقارنة مع الابتداء، وبحث في احتمال أن لا أصْل مفترِضا أنّ النّهاية تتبدّل ماهيّتها لا نهائيا وضروريا و لا تستقرّ أبدا. في زمن كانت فكرة نهاية التاريخ تحظى بدعائم قوية وغير قابلة للنقاش، ظهر لي دريدا دائما بارزا ومعاصرا.
قابلته سنة 1969، كنت حينها قد بدأت التدريس منذ مدة بجامعة ستراسبورغ. كتبت نصا قصيرا متختصرا أعددت فيه جدولا للفلسفة المعاصرة. حينها، كان هناك فكرة متداولة أن الفلسفة قد انتهت وأن العلوم الإنسانية مضى زمنها. كان ذلك يثير امتعاض الفيلسوف الشاب الذي كنته. بالنسبة لي، كانت القراءة لدريدا تمثّل انطلاقة جديدة. أرسلت له مقالي، وكانت المفاجأة الكبيرة! قد أجاب برسالة طويلة مثيرة للدّهشة حيث صرّح لي أنّه قرأ مقالات أخرى كنت قد نشرتها. هل تستوعبون ذلك؟ قال لي أنّه كان مسرورا باهتمام به. لقد كان داريدا دائم الخوف من الوحدة، أو أن يساء فهمه . تلى ذلك أن تلقينا دعوة لحضور ندوة حول البلاغة، وكان هناك انسجام تامّ بيننا، انسجام إنسانيّ أكثر منه فلسفيّ.
قوّة الطبيعة
كان لدريدا حضور جسمانيّ قوي بصفة خاصّة، عبر عضلات جسمه البارزة. بالمقارنة بينه وبين دولوز نجد فرقا شاسعا. على قدر ما كان دولوز رقيقا وحادا كشفرة الّسكين، كان دريدا يفرض نفسه بضخامته. وكانت له عادة شعبية قليلا تميزه عن غيره، وهي ولعه بكرة القدم تحديدا. أذكر أنّه لا يتردّد عن اللّعب بالكرة مع إبني الصّغير، بينما أنا لم ألعب بالكرة إطلاقا. وفي حواراته اليومية، كانت له طريقة مطمئنة في الكلام. لقد كانت “قوة الطبيعة” تملأه حيث لم أره مريضا أبدا قبل أن يصاب بالسرطان الذي قتله. كما لم يكن يطيق الذهاب للمستشفى عموما.
كانت قوته الجسمانية متوازية مع قوته الفكرية. كان لا يستطيع أحيانا التوقف عن الكلام. لقد حدثني مرة أنه كان قد تلقى دعوة لتمثيل المعهد الدولي للفلسفة في جامعة في مكسيكو، ونام طوال رحلته بالطائرة وفي الطريق من المطار إلى الجامعة. لكن عندما صعد إلى المنصة، وقد أجبر أخيرا على الاستيقاظ، استرسل في الكلام طيلة ساعتين دون انقطاع ومن دون أيّ تحضير قبلي. قد أسر لي أيضا أن هذا الهوس بالكلام لديه، هو هوس مرضي. لقد كانت تعتريه قوة هائلة تدفعه أحيانا في كل الإتجاهات. في الكتابة، يبقى دريدا الذي أعجبني هو دريدا الذي كتب “الصوت والظاهرة” و Ousia et Grammê، نصوص صعبة لكن قوية لدرجة أن تصيبك بالصداع.
لا يبذل داريدا جهدا للشرح لكن يجتهد في التشويش. هل كان غامضا إراديا أم قسريا؟ الأقرب أنه كان غامضا للسببين. وهذا يتماشى مع الحقيقة الوجودية التي يتبناها، والتي يستحيل معها البدء، ليس فقط في العلاقات الإنسانية لكن أيضا في الفلسفة. إذا غامرتم مع “الصوت والظاهرة” فستجدون أنفسكم وكأنكم في طريق سيارة حيث لا تستطيعون الانطلاق. أعتقد أنه لا يمكن الانطلاق في تناول محاولاته بالصدفة قصد المتعة. هناك دائما جنون داريدا. لكن أليس كل تفكير عميق هو ضرب من الجنون؟ كثيرا من نصوص دريدا تنطلق بتحذيرات للقارئ بأن لا يمضي في القراءة، أو يحذره أنه سيضطر لإعادة القراءة مرات عديدة، أو بـ”إذا” إستنتاجية (Donc) بدون أي طرح استباقي. هذا هو سلاحه في التفكير.
برزت مؤخرا محاضرة “الحياة الموت”. تكمن أصالة هذا الدرس في إزالة “واو” العطف التي تربط عادة هذين اللفظين كما كان مبرمجا للتدريس 1975-1976، حيث كان هذا الدرس مدخله “للتفكيك” كما أوضح لطلابه حينها. جعل “الحياة الموت” مفهموما واحدا يجعل من الحياة جزءا من الموت والعكس كذلك. فإذا كانت الحياة لا تموت، فلن يستقيم مضمونها كحياة لأنها لن تتعرف إلى نفسها كحياة. وبهذا نعود دائما إلى هوية الذات والحاجة الدائمة إلى فرق بين الأصل والنهاية. والموت يتيح للحياة الارتباط بماهيتها كحياة وبما يفترضه ذلك من فناء.
في الحياة في الموت
عندما سأموت، سيقال: “لقد أنهت حياته”. لا أستطيع أبدا أن أقول إنها حياتي. لن أستطيع أن أنسبها لي. هيغل يقول أن الحقيقة تكمن في الموت، بينما اعتبر هايدغر الموت مثل إمكانية المستحيل. يبين داريدا أن الموت هو من يهرب منا وما يجعل الحياة تهرب من نفسها. وفقط من هنا يمكن التفكير في أن الحياة يمكن إتمامها. هذا لا يعني أن الموت يأخذ على عاتقه الحياة لينتج حياة أخرى، لكن منه فقط يمكن أن تستوعب الحياة نفسها. المسيحية تفترض حياة بعد الموت، وهو ما يفضي إلى احتمال الحياة الأرضية. داريدا يعارض هذا و يسميه “بقاء”: حيث يرتهن الموت الحياة كأنها غير موجودة. نلاحظ أن هناك إذاً ألم شديد، لكنه عقلاني.
يشعر داريدا فهلا أن الموت ليس عادلا، هو لا يريده، لا يريد الموت ولقد تحدثنا في هذا مرات عديدة. لقد كتبت كتابا عن القيامة المسيحية، أين حاولت أن أعطي تحليلا للكلمة الإغريقية “أناستازيس” (anastasis)، والتي تعني البعث. لا أعتقد أن هناك حياة أخرى فقط تنتظرنا بعد القيامة، لكن تبعث حياتنا من جديد لتتخذ معنى وتستقيم نهائيا. لم يمكن دريدا مقتنعا بتحليلي، كما أظنّ أنه كتب ذلك في مكان ما. كان كل هذا فقط ليقول لي في أذني بعد سنوات قليلة لاحقة: “هل تعلم ما أريده أنا من أعماقي، أريد قيامة جميلة”. لا يعني هذا أنه أراد الاعتقاد بها. بل بالعكس، هذا يعني أنه أيقن الفرق الشاسع بين قوة الرغبة ووضوح الفكر.
هوامش