نشرت في London Review of Books بتاريح ٧ أغسطس ١٩٩٨.
في كتابي الأول «جوزيف كونراد وفن الرواية الذاتية» الذي نشرته قبل ثلاثين عاما، وبعدها في مقال” تأملات في المنفى” والذي ظهر عام 1984 استخدمت جوزيف كونراد كمثال لشخص جسدت حياته وعمله مصيرَ المتجول في تحوله إلى كاتب بارع في لغة ليست لغته الأم، وحيث لم يستطع أن ينفض عنه شعور الغربة في وطنه الجديد الذي، في حالة كونراد الخاصة، هو وطن استطاع أن ينال إعجابه. قيل من قبل أصدقائه أنه كان شديد الرضا عن فكرة كونه انجليزيا رغم عدم قدرته على تخفيف اللكنة البولونية في لهجته، وتقلب مزاجه الخاص جدا، هذه السمات التي لا يمكن أن تكون انجليزية. ولكن فورما يتعرف المرء إلى كتابته تأخذه تلك الهالة من مشاعر الخلع وعدم الاستقرار والغرابة بطريقة لا يمكن إخفاؤها. فلم ينافسه أحد في تجسيد مصير الضياع والتشوش الناتج عن فقدان التعرف على المكان، كما لم يستطع أحد أن يفوقه في سخريته على الجهد المبذول في محاولة تغيير تلك الحالة من الضياع في ترتيبات ومساكن جديدة لا تلبث تسحر المرء نحو فخ مشابه للفخ الذي وقع فيه اللورد جيم عندما بدأ حياته من جديد في جزيرته الصغيرة. يدخل مارلو إلى قلب الظلام ليكتشف أن كيرتز سبقه الى تلك العتمة ولكنه رغم ذلك لم يستطع إخباره الحقيقة كاملة، وبذلك عند سرده لتجاربه الخاصة لم يستطع مارلو أن يكون بتلك الدقة التي أرادها فينتهي به الأمر وهو يتحدث عن أشباه أشياء وحتى أكاذيب يدركها هو تماما ومن يستمع إليه.
لم يستطع النقاد والمحللون من إعادة تشكيل ما تم تسميته بالخلفية البولونية لجوزيف كونراد إلا بعد فترة طويلة من موته حيث أن ما تم استخلاصه مباشرة من عمله الروائي قليل جدا. ولكن مدلول كتابته والتي تتسم بأسلوب المراوغة لم يكن من السهل التزود منه فرغم إمكانيتنا التعرف على الكثير من أصدقائه وأقاربه وخبراته البولونية إلا أنه لم يكن كافيا بحد ذاته لأن يعكس صميم تلك المشاعر من القلق والاضطراب التي تناولتها أعماله بشكل مكثف. لكننا في نهاية الأمر ندرك أن عمله في حقيقته كان قد تشكل نتيجة تجربة المنفى أو الغربة المتعذر إصلاحها أو تصحيحها. ورغم مرونة قدرته على التعبير عن شيء ما بشكل متكامل فإن النتيجة كانت بالنسبة له دوما تقريبا أو تشبيها لما يريد قوله، عدا عن قوله ذلك في وقت تجاوز الفائدة المرجوة من القول. آيمي فوستر، من القصص الأكثر وحشة وكآبة لديه، تتحدث عن شاب من شرق أوروبا يظهر ملقى على شاطئ الساحل الإنجليزي بعد تعرضه للغرق في طريقه للوصول لأمريكا وينتهي به الأمر كزوج لامرأة عطوف ولكنها في ذات الوقت لا تمتلك قدرة الإفصاح عن مشاعرها هي آيمي فوستر. ويبقى الشاب أجنبيا، فلم يتعلم اللغة وحتى بعد أن رزقا هو وآيمي بطفل لم يستطع أن يكون ذلك الجزء من العائلة التي أسسها مع آيمي. وهو على فراش الموت يغمغم باهتياج بلغة غريبة تأخذ آيمي ابنه منه وتحرمه من عزائه الأخير. وكما هو الحال في العديد من روايات كونراد تروى القصة من خلال شخصية متعاطفة مع الشاب وهو طبيب على معرفة بالزوجين ولكنه أيضا لم يستطع أن يقلل من وطأة الشعور بالعزلة على ذلك الشاب رغم أن كونراد يداعب مشاعر القارئ ويمنحه أملاً في قدرة الطبيب على ذلك. من الصعب قراءة آيمي فوستر واستبعاد التفكير بأن كونراد لا بد أن راودته مشاعر الخوف من الموت موتا مشابها: دون سلوى، وحيدا، بعيدا يرحل في لغة لم يفهمها أحد.
أول ما يمكن التعرف عليه هو فقدان الوطن واللغة في البيئة الجديدة، فقدان كانت لدى كونراد من الصرامة والقوة في القدرة على وصفه بأنه شعور لا يمكن التخلص منه، يؤلم بلا رحمة، فج، لا يمكن التعامل معه، ودائم الحدة. ولهذا وجدت نفسي خلال السنوات أقرأ وأكتب عن كونراد مثلcantus firmus (١) فهو أساس ثابت للكثير مما عايشته. لسنوات بدا لي أنني أعايش كل هذا في عملي ولكن دائما خلال كتابتي عن أناس آخرين. لم يتجلّ لي الفناء الذي كان علي أن أدرك قربه حتى بداية خريف عام 1991 عندما كشف لي تشخيص شنيع ذلك فوجدت نفسي أحاول استجداء حياتي التي بدأت نهايتها بالدنو بصورة مقلقة. بعد أشهر قليلة من ذلك التشخيص كنت لا أزال أحاول استيعاب حالتي الجديدة فوجدت نفسي أؤلف رسالة مطولة أفسر فيها لأمي التي كانت قد توفيت منذ عامين، رسالة تفتتح محاولة متأخرة لجمع سرد حياة كنت قد تركتها منغلقة، مشتتة، مبعثرة وبلا فحوى. كنت قد حصلت على مهنة لائقة بشكل مرض في الجامعة، وكتبت قدرا كبيرا، وأحرزت صيتا غير مرغوب فيه حيث سمّيت “بروفسور الإرهاب” وذلك كوني ناشطا أكتب وأتحدث في القضية الفلسطينية وفي قضايا الشرق الأوسط عامة والإسلام ومعاداة السامية، ولكنني نادرا ما كنت أقف لأضع ذلك في كومة واحدة مجتمعة. كنت أدمن العمل، وقد كرهت وبالكاد أخذت الإجازات. وفعلت ما فعلت دون أدنى قلق، هذا إن وجد على أشياء تتعلق “بقفلة الكاتب” Writer's Block(٢) أو الإحباط وعدم سيولة الكتابة.
ولكن فجأة وجدت نفسي محضرا بإيجاز لبعض من الوقت ليس بالكثير لاستعراض حياة كنت قد تقبلت عجائبها مثل أي حقيقة في الوجود. مرة أخرى أدرك أن كونراد كان قد مر بهذا من قبلي ولكن باستثناء أن كونراد يعد من أصل أوروبي حيث هجر بلده الأم بولندا ليصبح مواطنا انجليزيا، وبذلك فإن رحيله كان في نطاق ذات العالم. أنا ولدت في القدس وأمضيت سنوات نشأتي في مصر. وكان تعليمي المبكر في مدارس النخبة الكولونيالية وهي مدارس انجليزية صممت من قبل البريطانيين لتخريج جيل من العرب مرتبطين فطريا ببريطانيا. وآخر مدرسة التحقت بها قبل أن أترك الشرق الأوسط للولايات المتحدة هي فيكتوريا كوليج في القاهرة، وهي مدرسة شيدت لتعليم أبناء رؤساء العرب، والشرقيين الذين من المفترض بهم تولي سيادة الحكم بعد رحيل بريطانيا. وكان الملك حسين ملك الأردن من أبناء المدرسة بالإضافة إلى أبناء أردنيين آخرين ومصريين وسوريين وسعوديين كان مهيأ لهم لأن يصبحوا وزراء، ورؤساء، ورجال أعمال واعدين كما كان ميشيل شلهوب من الشخصيات البراقة فهو عريف المدرسة (ورئيس التعذيب) عندما كنت في الصف الأصغر منه وهو من عرفه الجميع على الشاشة بعمر الشريف.
يعطى الطالب فور التحاقه بمدرسة فيكتوريا كوليج كتيب عبارة عن مجموعة من القوانين تحكم كل شيء في المدرسة: نوعية الزي الذي يتوجب علينا ارتداءه، المتطلبات الرياضية، مواعيد إجازات المدرسة، جدول باص المدرسة…الخ. ولكن القاعدة الأولى في المدرسة كانت مزركشة على الصفحة الأولى في الكتيب والتي تقول: اللغة الانجليزية هي اللغة الرسمية للمدرسة، أي طالب يتكلم أي لغة أخرى سوف يتم معاقبته، رغم عدم وجود أي طالب من أصول إنجليزية. وكان الأساتذة بريطانيين وكنا فريقا متعدد الأطياف من العرب من شتى الأجناس :الأردنيين، اليونانيين الايطاليين، اليهود والأتراك ولكل من هؤلاء لغته الأم التي حرمتها المدرسة بشكل واضح وصريح. ولكننا كلنا تكلمنا العربية والفرنسية ولهذا كنا نجد ملاذا في اتخاذ لغة شعبية بيننا تحديا لما وجدناه من تضييق غير مبرر في هذا التطبيق الكولونيالي الظالم. كانت القوة البريطانية تقترب من نهايتها في المنطقة فورا بعد الحرب العالمية الثانية وكنا ندرك هذه الحقيقة رغم عدم تذكري لأي طالب من جيلي كان ليقدم بالحديث في هذا الموضوع.
بالنسبة لي، كان الأمر أكثر تعقيدا فرغم أن والديّ من فلسطين، أمي من الناصرة وأبي من القدس، يمتلك والدي المواطنة الأمريكية من الحرب العالمية الأولى لخدمته في AEF(٣) في فرنسا، وقد ترك فلسطين خلال فترة الدولة العثمانية في عام 1911 في السادسة عشر من عمره وذلك هربا من التجنيد العسكري للقتال في بلغاريا، وعوضا عن ذلك ذهب إلى الولايات المتحدة ليدرس ويعمل هناك لبضع سنوات وعاد إلى فلسطين عام 1919 للعمل كرجل أعمال مع أبناء عمومته، بالإضافة إلى ذلك فإن اسم عائلتي الاستثنائي “سعيد” المرتبط باسم بريطاني غير متوقع (إدوارد، حيث كانت أمي من معجبي أمير ويلز البريطاني لعام 1935 وهو عام مولدي) وكنت طالبا مختلفا عن الآخرين طوال سنواتي المبكرة: فلسطيني في مدرسة في مصر، باسم أول بريطاني ويحمل جواز سفر أمريكي وهوية غير مؤكدة تماما، ولجعل الأمور أكثر سوءا، فان لغتي الأم هي اللغة العربية والانجليزية هي لغة المدرسة. لغتان اختلطتا علي بحيث لم أدرك من سبقت الأخرى ولم أشعر بوطني في كلتيهما، رغم ورودهما في حلمي على حد سواء. وكلما تحدثت جملة في الانجليزية أجد نفسي أسمع صداها بالعربية.
دار كل هذا في رأسي خلال هذه الأشهر بعد أن كشف التشخيص لي حاجة التفكير في نهاية الأشياء. ولكنني فعلت هذا بأسلوب خصوصي بالنسبة لي. فكوني مؤلف لكتاب يسمى “بدايات” وجدت نفسي أعود رغما عني لأيامي الأولى. كفتى من القدس، القاهرة، ضهور الشوير وهي القرية اللبنانية الجبلية التي كنت أمقت الذهاب إليها بشدة عندما كان أبي يأخذنا إليها لإمضاء الإجازة الصيفية على مدى سنوات طويلة. وجدت نفسي أعيد إحياء مآزق وعقد لرواية عن حياتي المبكرة، إحساسي الدائم بالشك وكوني خارج المكان، وكأنني أقف في الزاوية الخطأ، في مكان لطالما بدا وكأنه يجر من تحتي كلما حاولت وصفه أو معرفته. أذكر أنني كنت أسأل نفسي لماذا لم أنشأ في بيئة بسيطة، مصري تماما أو أي شيء آخر، فلا أمر أو أواجه المشقات اليومية لأسئلة تحاصرني في كلمات تفتقر إلى أساس ثابت فقد كان الجزء الأسوأ في حالتي التي كانت تتفاقم مع الوقت هي العلاقة العدائية بين الانجليزية والعربية وهو الأمر الذي لم يضطر كونراد إلى التعامل معه بما أن رحلته من البولونية إلى الانجليزية وعبر الفرنسية تأثرت في ذات النطاق الأوروبي.
تعليمي بالكامل كان ذو طابع انجليزي والذي أهلني لمعرفة الكثير عن بريطانيا وحتى التاريخ الهندي والجغرافيا كمواد أساسية أكثر من معرفتي بتاريخ وجغرافيا العالم العربي. ولكن رغم أنه تم تعليمي لأفكر وأبني اعتقادي كأي طالب انجليزي، كنت أجري تمرينا ذهنيا على فهم أنني دخيل أو غريب لا أوروبي، أتلقى تعليمي من قبل من هم أعلى مني منزلة لأدرك منزلتي ولا أطمح لأن أكون بريطانيا. والخط الفاصل “بيننا” و”بينهم” هو لغوي، ثقافي، عنصري وعرقي. فلم يسهل الموضوع بالنسبة لي كوني ولدت وعمدت في كنيسة إنجيلية حيث غناء للترانيم ذات المواضيع المولعة بالقتال مثل “إلى الأمام جنود المسيحيين” و”من جبال الأراضي الخضراء الثلجية” والذي جعلني ألعب دور المعتدي والمعتدى عليه معا مثل أن تكون في حال لقيام الحرب الأهلية.
في ربيع عام 1951 كنت قد طردت من مدرسة فيكتوريا كوليج وذلك باعتباري مفتعل مشاكل والذي عنى أنني كنت تحت الأنظار أكثر من أي طالب آخر خلال المناوشات اليومية بين الأستاذ: غريفث، هيل، لووي، براون، مانديل، غيتلي، وكل الأساتذة الإنجليز من جهة، ونحن طلاب المدرسة من جهة أخرى. كنا ندرك في لاوعينا أن النظام العربي القديم في طريقه للانهيار: فلسطين سقطت، مصر كانت تترنح تحت الفساد الهائل للملك فاروق والقضاء (والثورة التي جلبت جمال عبد الناصر والضباط الأحرار للسلطة في يوليو 1952)، سوريا كانت تمر بسلسة مدوية من الضربات العسكرية، أما إيران التي كان الشاه فيها متزوجا من أخت الملك فاروق، تفاقمت أزمتها عام 1951 وهكذا…
فرص النجاح بالنسبة لأناس مقتلعين من جذورهم مثلنا كانت ضئيلة فقرر والدي أنه من الأفضل إرسالي بعيدا قدر المستطاع وبالتالي إلى مدرسة بيوريتانية ذات نظام صارم في شمال شرق ماشيتوتس في الولايات المتحدة.
كان ذلك اليوم الذي تركني فيه والداي في سبتمبر 1951 عند بوابة المدرسة وسافرا فورا إلى الشرق الأوسط، أسوأ أيام حياتي. فلم تكن أجواء المدرسة صارمة أخلاقيا بشكل صريح فقط ولكني كنت هناك الفتى الوحيد الأجنبي، الذي لا يتحدث بذات اللهجة المتعارف عليها، ولم ينشأ على لعب كرة المضرب، أو كرة السلة والقدم. لأول مرة حرمت من بيئتي اللغوية التي اعتمدت عليها كبديل ضد اهتمامهم العدائي فلغتهم لم تكن لغتي ولم يظهروا أي اهتمام مع ما أنتمي إليه باعتباره عرق غير معروف بطريقة أو بأخرى. أي شخص يمر بمثل هذه العقبات اليومية في الروتين الكولونيالي يعلم ما أتحدث عنه. من أول الأشياء التي كان علي فعلها هو البحث عن معلم من أصل مصري والذي حصلت على اسمه من قبل عائلة صديقة لنا في القاهرة “تحدث إلى نيد” قال صديقي، “وفورا سوف يجعلك تشعر كأنك في وطنك” وفي ظهر يوم سبت مشرق مشيت مجهدا إلى بيت نيد وقدمت نفسي للرجل النحيل الأسمر والذي كان أيضا مدرب تنس، وقلت له إن فريدي معلوف في القاهرة أوصاني بالتعرف إليك. “آه نعم” قال مدرب التنس بجفاء: “فريدي”. فحولت لغتي فورا للعربية ولكن نيد وضع يده لمقاطعتي”لا يا أخي لا للعربية هنا، لقد تركت كل هذا ورائي قبل أن آتي الى أمريكا “وكان هذا كل شيء.
وبسبب تحصيلي المرتفع في مدرسة فيكتوريا كوليج، استطعت أن أحرز تحصيلا ممتازا في مدرستي في ماشيتوتس، محققا مرتبة الأول أو الثاني في صف يضم ما يقارب 160 طالبا. ولكنني تعرضت لمحاكمات أخلاقية وكأن شيئا ما مريبا يشوبني. فعلى سبيل المثال، عندما تخرجت حجبت عني مرتبة إلقاء الخطاب الترحيبي والوداعي على أساس أنني لم أناسب منازل التشريف تلك وهو حكم أخلاقي لم أستطع فهمه أو غفرانه. وبالرغم من رجوعي إلى الشرق الأوسط حيث استمرت عائلتي بالعيش هناك متنقلة بين مصر ولبنان منذ عام 1936 وجدت نفسي أتحول بالكامل إلى شخص أوروبي ففي كل من الكلية والمدرسة كنت قد درست الأدب والموسيقى والفلسفة ولم تكن أي منها على علاقة مع موروثي من ذلك. في الخمسينات وبداية الستينات كان الطلاب العرب أكثرهم بلا استثناء علماء، أطباء، ومهندسين أو متخصصين في الشرق الأوسط يحصلون على درجاتهم العلمية من جامعات مثل برينستون وهارفارد ومن بعدها يعودون إلى بلادهم ليعملوا كأساتذة جامعات. لم أجد طريقا للاختلاط بهم لسبب أو لآخر مما كرس عزلتي عن لغتي وبيئة نشأتي. وفي الوقت الذي ذهبت فيه إلى نيويورك لأدرس في جامعة كولومبيا في خريف 1963 كنت اعتبر دخيلا من بيئة عربية غير ملائمة وفي الحقيقة أذكر كم كان من الأيسر على أكثر أصدقائي وزملائي عدم استخدام كلمة “عربي” وبالتأكيد ليس “فلسطيني” مقارنة مع الوصف المبهم والأيسر استخداما “شرق أوسطي” وهو وصف لم يسئ لأحد. وقد ذكر لي صديق كان يدرس في جامعة كولومبيا مسبقا انه عندما تم تعيني تم كذلك تقديمي للقسم كيهودي من الإسكندرية وأذكر شعوري بترحاب إثر ذلك من قبل زملائي في الجامعة الذين نظروا إلي باستثناء بعضهم كأكاديمي يافع وواعد “لثقافتنا”. وبما أنني لم أنشط في المجال السياسي حينها الذي كان يرتكز على العالم العربي وجدت اهتمامي في التعليم والبحث الذي كان منصبّا في مضمار واحد أبقاني داخل ذات الدائرة.
جاء التغيير الحقيقي مع حرب 1967 بين إسرائيل والعرب والذي تزامن مع فترة من النشاط السياسي المكثف في باحات الجامعات للنهوض بالحقوق المدنية وضد حرب فيتنام ووجدت نفسي دون شعور متورطا في كلتا الجبهتين ولكن بالنسبة لي كان هناك جهد مضاعف في محاولة جلب اهتمام إلى القضية الفلسطينية. بعد هزيمة العرب استرجعت القومية الفلسطينية تواجدها من خلال حركة المقاومة المتواجدة بشكل أساسي في الأردن والمناطق المحتلة حديثا. والعديد من أصدقائي وأبناء عائلتي انضم إلى هذه الحركة، وعندما زرت الأردن في 1968، 1969، و1970 وجدت نفسي بين عدد من معاصري ذات الاهتمام. ولكن نشاطي السياسي في الولايات المتحدة كان مرفوضا مع القليل من الاستثناء من قبل الناشطين في معاداة الحرب والداعمين لمارتن لوثر كنغ. للمرة الأولى أشعر بنفسي مجزأة فعليا بين ضغوط حتمية تتمظهر أمامي وتتعلق بمكان نشأتي ولغتي في مقابل تعقيدات الوضع في الولايات المتحدة والذي يميل إلى التقليل من بل في الواقع إلى احتقار ما يفترض علي الاعتراف به صراحة بالنسبة للمطالبة بالعدل الفلسطيني والذي يعتبر أمرا معاديا للسامية ويضعني في صفوف النازيين.
في عام 1972 كانت لدي فرصة استغلال إجازة أمضيت فيها سنة كاملة في بيروت، وقضيت معظم وقتي في دراسة فقه اللغة العربية والأدب وهو الشيء الذي لم يسبق لي فعله بهذا العمق الدراسي وذلك نتيجة شعور لدي بأنني سمحت بهذا القدر من التفاوت بالتعاظم بين هويتي المكتسبة والثقافة التي ولدت منها ثم خلعت عنها. وبكلمات أخرى كان هناك حاجة ملحة وسياسية لخلق انسجام في ذاتي حيث أن الجدل فيما كان يسمى الشرق الأوسط تحول شكليا إلى جدل قائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين ومن السخرية أنني تورطت فيه بعمق بسبب قدرتي على التحدث كأمريكي أكاديمي ومثقف وبالرجوع الى حادثة ولادتي. بحلول منتصف السبعينيات قمت بتمثيل كيانين متعارضين تماما إحداها غربي والآخر عربي من منبر رصين ولكنه في ذات الوقت غير مقبول.
وبقدر ما أذكر فإنني آثرت الابتعاد عن نطاق المظلة التي آوت معاصري في ذلك الوقت. هل كان هذا بسبب اختلافي الجذري عنهم؟ ام لكوني غريبا بلا انتماء معين، أم هو ميلي المتقلب للوحدة؟ لا استطيع أن اجزم. ولكن الحقيقة في أني رغم انخراطي في جميع أشكال الروتين المؤسساتي لاضطراري لذلك فان شيئا خاصا داخلي كان يقاوم الاحتكاك بهم ولست اعلم ما الذي ابعدني عنهم ولكن وحتى عندما كنت اشعر بالوحدة بشكل بائس أو بعدم الألفة مع الكل كنت أتمسك بعزلتي المتفردة بضراوة، ربما كنت احسد الأصدقاء ذوي اللغة الواحدة أو الذين عاشوا كل حياتهم في ذات المكان أو الذين حافظوا على خط سير مقبول، أو الذين لديهم انتماء حقيقي ولكني لا اذكر أبدا أنني آمنت أن أي من تلك الحالات تناسبني. وذلك ليس لأنني اعتبر نفسي متميزا عنهم ولكني غالبا لم أناسب الحالات التي فرضت علي ولم أكن شديد السخط على هذا الوضع. ودائما ما كنت أميل إلى التعلم الذاتي بشغف خاص لكل أشكال الاختلاف الثقافي.
ما كان يجذبني نحو كتاب مثل كونراد، فيكو، أدورنو، سويفت، أدونيس، هوبكنز، أورباخ، وغلين غولد هو جرأتهم وغرابة منظور الرؤية لديهم فكان الأسلوب أو طريقة التفكير شديد التفرد ويستحيل محاكاته حيث أن أسلوب التعبير سواء كان في الموسيقى أو الكلمات كان مشحونا بغرابة، مؤلفا بشكل متقن، مرتبكا بدرجة مرتفعة، ولم تكن حقيقة اكتشاف الذات لديهم ما أبهرتني فقط بل تواجد مشروعهم أو إضافتهم ضمن تاريخ قد نقبوا عنه بأنفسهم.
وبالسماح لنفسي تدريجيا بتمثيل صوت مهني باعتباري مواطن أمريكي أكاديمي كوسيلة للانغماس في ماضي العصيب والغير مستوعب، بدأت بالتفكير والكتابة كشخص عربي وأمريكي يعمل كلاهما ضد ومع الآخر، مستخدما هذا القدر من التفاوت في ذواتي وخبراتي للعمل بشكل مختص. وبدأ هذا الميول لدي بالتشكل بعد عام 1967 ورغم صعوبته إلى انني كنت أجد فيه متعة خاصة. ما دفعني للتغيير بداية تجاه الشعور بالذات واللغة التي استخدمها هو الإدراك أن في الانغماس في مقتضيات الحياة و الانصهار في مجتمع الولايات المتحدة أنني مرغما على تقبل مفهوم الطمس أو الإلغاء شأت أم أبيت. مفهوم تحدث عنه أدورنو بإسهاب في:Minima Moralia (٤)
“ندرك اذن أن حياة المهاجر الماضية يتم طمسها. في الماضي كانت مذكرة الاعتقال ما يتم نكرانها فيما بعد، أما اليوم التجارب الفكرية هي من الخبرات التي لا يمكن نقلها أو تجنيسها. أي شيء غير ملموس أو مجسم فلا يمكن احصاؤه وتقييمه وبالتالي يلقى مصير الفناء.” وفي عدم التصالح مع هذه الحقيقة ندرك أن التجسيم أو التشييء لا بد أن يعكس مقابله، وهي الحياة التي لا يمكن إيجادها حقيقة بشكل مباشر أو بكلمة أخرى أي شيء يتواجد كفكرة أو كذكرى. ولأجل هذا تم اختراع باب جديد يسمى “الخلفية الثقافية أو البيئة المحيطة” “Background” ويظهر هذا الباب في أي استبيان كملحق بعد نوع الجنس، العمر، والوظيفة. ويكتمل عنف هذه الحقيقة عندما تواجه الحياة من خلال ما يقدمه علماء الإحصاء بكل صرامة في تيارهم المنتشي أكاديميا والذي يأخذ الحياة في منعطف شديد الانحدار، فحتى الماضي لا يسلم من الحاضر حيث في استحضاره تجميد آخر في عالم النسيان.
كانت نكبة 1948 بالنسبة لعائلتي ولي أنا حيث كنت أبلغ من العمر اثنى عشر عاما قضيتها بعيدا عن تناولها كقضية سياسية. معظم الفلسطينيين اضطروا للعيش كلاجئين عشرين سنة بعد طردهم وترحيلهم عن أوطانهم حيث واجهوا حياة لا يمثل فيها الماضي الذي تم طمسه أي وجود بل وكان عليهم مواجهة حاضرهم المرير. ولا أريد الإشارة إلا أن حياتي كطالب مدرسة تعلم الحديث وتشكيل لغة أتاحت له العيش كمواطن أمريكي تضمنت أي شيء مثل عذاب ذلك الجيل الأول من اللاجئين الفلسطينيين المشتتين في أرجاء الوطن العربي حيث فرضت عليهم قوانين بغيضة استحالت بينهم وبين توطينهم فلا يمكنهم العمل، السفر، ومفروض عليهم التسجيل وإعادة التسجيل كل شهر في مقاسم الأمن والعديد منهم المجبر على العيش في مخيمات تحت ظروف حياتية مروعة مثل مخيمات صبرا وشاتيلا في بيروت وهي مواقع المجازر التي حدثت بعد 34 عاما. ولكن ما مررت به هو الشعور الإخماد والقمع لتاريخ حيث كان كل من حولي يحتفي بانتصار إسرائيل وقوتها العسكرية المباغتة كما سمتها باربرا توخمان على حساب السكان الأصليين الفلسطينيين الذي وجدوا أنفسهم الآن مجبرين مرة تلو الأخرى على إثبات أنهم سكنوا المكان ذات مرة. “لا يوجد فلسطينيون هناك” قالت جولدامائير عام 1969 مما وضعني أنا والعديد ممن هم مثلي في تحد قهري لدحض ذلك الافتراض والتعبير عن تاريخ من الفقدان والاقتلاع الذي تم تهميشه لحظة بلحظة، كلمة بكلمة، إنشا إنشا من تاريخ تأسيس إسرائيل وانجازاتها. فكنت أعمل في الجانب الغائب نهائيا: اللاوجود، اللاتاريخ، والذي كان علي جعله مرئيا رغم كل عمليات الإنكار وسوء التمثيل والاطباق الكامل على الأحقية في السرد. وحتما هذا ما قادني إلى التفكير في الكتابة واللغة الذين تعاملت معهما فيما سبق كنص أو موضوع، تاريخ رواية أو على سبيل المثال الفكرة الرئيسية لرواية أو موضوع نثري. ما يثير اهتمامي الآن هو كيف يتشكل الموضوع وتبنى اللغة بمعنى آخر الكتابة كبناء لواقع يخدم هدفا معينا بشكل فعال. وكان هذا هو عالم السلطة والتمثيلات، عالم تم إيجاده في سلسلة من القرارات التي يتخذها الكتاب ورجال السياسة وعلماء الفلسفة وذلك للإشارة إلى واقع ما وفي الوقت نفسه تعمل ذات القرارات لمحو وطمس واقع آخر. أول محاولة لي في هذا النوع من العمل كانت مقال قصير كتبته عام 1968 بعنوان ” تصوير العرب” أو “صور العرب” والذي أقدم فيه وصفا لصورة العرب التي تم التلاعب بها وتناولها في الصحافة وبعض الكتابات الأكاديمية بطريقة تتجاهل أي طرح للتاريخ المعاش من قبلي ومن قبل غيري من العرب وكتبت أيضا دراسة مطولة في النثر العربي والرواية بعد عام 1948 والذي أوضح فيه سمات التشتت والتشظي في المسار الروائي.
خلال السبعينيات كنت أدرّس مواد في الأدب الأوروبي والأمريكي في جامعة كولومبيا وفي جامعات أخرى وتدريجيا دخلت العالم السياسي وبشكل استطرادي نحو السياسات الشرق أوسطية والدولية. ومن الجدير بالذكر هنا أنني خلال الأربعبن عاما التي كنت ادرس فيها لم أدرس شيئا عدا المنتوج الغربي وبالتأكيد لا شيء عن الشرق الأوسط. لطالما كانت لدي تطلعات لتدريس مواد حول الأدب العربي الحديث ولكن لم تسنح لي الفرصة. ولثلاثين سنة على الأقل كنت أحضر لعقد حلقة دراسية حول فيكو وابن خلدون وهو عالم الفلسفة والمؤرخ التاريخي العظيم للقرن الرابع عشر. ولكن هويتي كأستاذ في الأدب الغربي أبعدتني عن نشاطي في هذا المسار وكان هذا ممكنا بقدر اهتمام الفصل الدراسي بذلك. والسخرية أنني رغم تقيدي بمواد التدريس التي أعطيها إلى أنه تم دعوتي من قبل مضيفين في الجامعة لإعطاء محاضرة أقدم فيها مبررات لأتجاهل نشاطي السياسي المحرج وذلك بالطلب مني تحديدا التقيد بالموضوع الأدبي. وكان هناك هؤلاء الذين تحدثوا عن جهدي في تمثيل شعبي دون أي ذكر لاسم ذلك الشعب “فلسطين” لازالت كلمة يتم استبعادها.
وحتى في العالم العربي فإن فلسطين شكلت لي مصدرا هائلا للشعور بالخزي والعار. فعندما دعاني اتحاد الدفاع اليهودي بالنازي عام 1985 أضرم حريق في مكتبي في الجامعة وتلقيت وعائلتي قدرا هائلا من تهديدات القتل ولكن عندما عينني كل من أنور السادات وياسر عرفات بالممثل الفلسطيني لمحادثات السلام (دون الرجوع إلي مطلقا) ووصلت إلى مرحلة من استحالة الخروج من المنزل، هرعت الصحافة بشكل ضخم من حولي فأصبحت هدفا للعداء من قبل الجناح اليساري القومي المتشدد وذلك باعتباري متحررا جدا فيما يتعلق بمسألة فلسطين وفكرة التعايش بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين العرب. كنت دوما مؤمنا في اعتقادي بعبثية الحل العسكري لكلا الطرفين وأن الحل يكمن من خلال عملية تسوية سلمية تضمن تحقيق العدل للفلسطينيين الذين تحملوا عناء القتل والاحتلال. وكنت أيضا انتقاديا جدا لاستخدام الشعارات المبتذلة مثل”الكفاح المسلح” و”المغامرات الثورية” التي أودت بحياة العديد من الأبرياء ولم تفعل شيئا بالمقابل في تقدم مسيرة القضية الفلسطينية على الصعيد السياسي. كتب أدورنو أن “مأزق الحياة الخاصة اليوم يظهر من خلال ميدانها”. ويكمل أن “المأوى أو المسكن في المنطق السليم بات مستحيلا. المساكن التقليدية التي نشأنا منها أصبحت غير محتملة فمقابل كل مزايا الراحة فيها يتعمق البعد عن المعرفة أو حتى يغرر بها، فأي شكل للمأوى يخضع بشكل حتمي لرغبات العائلة. وبشكل أكثر صلابة يكمل:
“عندما يصبح البيت من الماضي… الطريقة المثلى لمواجهة هذا الماضي سوف تتمظهر كتصرفات غير ملتزمة بشيء محدد، معلقة: بمعنى آخر فأن تبني حياة خاصة بما يتماشى مع النظام الاجتماعي واحتياجات المرء الخاصة لذلك لا يعني بالضرورة أن تجعل هذا الارتباط الاجتماعي جوهريا وأساسيا للحياة الخاصة. “انه حتما حسن حظي ما جعلني لست من أصحاب المنازل والبيوت” كتبها نيتشه سابقا في مجلة “غاي سينس”. واليوم علينا إضافة: انه جزء من الممارسة الأخلاقية ألا تتخذ من بيت غيرك بيتا لك، أو من وطن غيرك وطنا لك.
بالنسبة لي كنت دوما غير قادر على ممارسة حياة غير ملتزمة أو موقوفة: فلم أتردد بالإفصاح عن تبعيتي لقضية غير محببة تماما. ومن جانب آخر فقد حافظت دوما على حقي بأن أنظر بعين الناقد حتى ولو تصارعت نزعة النقد لدي مع واجبي في التضامن أو مع ما يتوقعه الآخرون باسم الوفاء القومي أو الوطني. وهناك مشقة واضحة وتكاد تكون ملموسة في وضع كهذا خاصة في حالة عدم التسوية أو التصالح بين هذين المكونين وشكل الحيوات اللتين تفرضانها.
وكانت النتيجة الحتمية لممارستي الكتابة هي محاولتي تحقيق شفافية أكبر بأن أحرر نفسي من البلاغة أو الفصاحة الأكاديمية وألا اختبئ خلف التعبيرات الملطفة والإسهاب في الاشتغال على المسائل الصعبة. وقد سميت بناء على ذلك بالعلماني أو ” الدنيوي” والذي لم أتقصد من خلاله أن أكون ذلك المنقذ المنهك من المدينة، ولكن أردت أن أقدم موقفا مدركا وجريئا في محاولة فهم هذا العالم الذي نحيا به. وهناك كلمات مشابهة اشتقت من فيكو وأورباخ وهي “علماني” و”علمانية” بوصفها كلمات تنطبق على أمور مادية (دنيوية). وبهذه الكلمات المشتقة من الإرث الحياتي (earthly matters) الايطالي الذي يرفد منه كل من غرامشي ولامبيدوس من خلال لوكريتوس توصلت إلى إضافة معدلة في الإرث الألماني المؤمن بالمثالية في تأليف وتركيب ما هو مضاد ومعاكس كما نجد من خلال هيجل، ماركس، لوكاس وهابيرماس. حيث لم تعط كلمة “مادي””earthly” المعنى الإيحائي الدال على هذا العالم التاريخي الذي صنعه الرجل والمرأة مقابل الرواية الدينية التي تعود الى الرب ولا هو تاريخ بني من خلال “الفئة النخبوية للوطن” بتعبير هيردر. ولكنها تدل على الأساس المعرفي المرتبط بمكان معين وبالنسبة للجدل الذي أفرضه واللغة التي أستخدمها هو هذا الأساس المعرفي الذي تعمقت فيه في محاولة لفهم الجغرافيات المتخيلة والتي تم اختراعها وفرضت بالقوة على أراض وأناس تفصل بينهم مسافات بعيدة، ففي “الاستشراق” و”الثقافة والامبريالية” وبعدها مجددا في خمسة أو ستة كتب كرست لتكون صريحة سياسيا فيما يتعلق بفلسطين والعالم الإسلامي الذي كتبت عنه وفي نفس الوقت شعرت أنني أجسد كيانا يكشف للجمهور الغربي أشياء كانت حتى ذلك الوقت إما محجوبة أو غير مطروحة للنقاش بتاتا. ولهذا بالحديث عن الشرق الذي حتى الآن يعتقد بكونه أمرا واقعا بسيطا في الوجود، حاولت تعرية ذلك الهوس في الاختلاف الجغرافي القائم على أساس بعد المسافات والذي تم تصويره عن العوالم الغير متاح التعرف عليها وهو الأمر الذي ساعد أوروبا على تحديد هويتها في كونها النقيض أو المعاكس الذي تختاره. وبالمثل، أعتقد أن فلسطين، وهي المكان الذي تم طمسه لبناء مجتمع آخر، كان من الممكن استرجاعها من خلال المقاومة السياسية ضد الظلم والنسيان.
كنت ألحظ من حين الى آخر أنني أصبحت بالنسبة للعديد من الناس كائنا غريبا وحتى بعض الأصدقاء الذين افترضوا كوني فلسطينيا بأنه معادل لشيء خرافي مثل أحادي القرن أو خليط غريب لكائن حي. هاتفتني صديقة من بوسطن وهي طبيبة نفسية وباحثة متخصصة في حل النزاع كنت قد التقيت بها خلال عدة ندوات تضم فلسطينيين وإسرائيليين، هاتفتني من قرية غرين ويتش حيث طلبت أن تأتي للمدينة في زيارة لي. وعندما وصلت دخلت المنزل ونظرت بارتياب إلى آلة البيانو “آه أحقا تعزف على البيانو” قالت بنوع من عدم التصديق في صوتها ثم أدارت نفسها وهمت بالرحيل. وعندما سألتها عن رغبتها في تناول فنجان شاي قبل الرحيل (حيث كانت قد قطعت مسافة طويلة لمثل هذه الزيارة القصيرة) فأجابت بأن ليس لديها متسع من الوقت” جئت فقط لأرى كيف تمارس حياتك” قالت ذلك دون أي تلميح للسخرية. وفي مناسبة مشابهة رفض ناشر من مدينة أخرى أن يوقع عقدا معي حتى أشاركه الغداء وحينما سألت مساعده عن سبب إلحاحه في هذا قال أن الرجل أراد أن يتأكد من حسن لباقتك على مائدة الطعام. لحسن الحظ أن مثل هذه التجارب لم تؤثر علي بتاتا أو تشغل وقتي لمدة طويلة فكنت دوما على عجلة لإلقاء محاضرة أو موافاة موعد واستبعدت بشكل متعمد مساءلة النفس التي قد تودي بي إلى مطاف نهائي من الإحباط. وبكل الأحوال فإن الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت في ديسمبر1987 أكدت على إنسانيتنا بطريقة ملحمية وملحة مختزلة كل شيء كنت قد قلته من قبل مدة طويلة. وجدت نفسي أتحول إلى شخصية رمزية يتم استحواذها لكتابة المزيد من المئات من الكلمات أو للإدلاء بصوتي في عشر دقائق للتعبير عما يعيشه الفلسطينيون، هذا الدور الذي كنت أحاول الهروب منه خاصة في حالتي التي لا أتفق فيها مع قيادة السلطة الفلسطينية منذ أواخر الثمانينيات.
لست واثقا من تسمية هذا استمرارا في اكتشاف الذات أو اضطرابا وقلقا دائما. بكلا الحالتين فقد تعلمت أن أعزز ذلك في ذاتي. وبقدر ما يتخيل المرء فإن موضوع الهوية موضوع ممل، فالمواضيع المتعلقة بدراسات الهوية بما تحمل من نرجسية ذاتية تمر في تفرعات مختلفة في الدراسات العرقية التي نتطرق إليها اليوم في مناطق متعددة خلال دراسات الهوية التي تتناول مواضيع مثل الكبرياء الثقافي، القومية وتأكيد الجذور العائلية. علينا أن ندافع عن الشعوب والهويات المعرضة للانقراض والخاضعة لقوى أخرى باعتبارها ادنى منزلة، ولكن هذا أمر مختلف عن تعظيم ماض تم اختراعه لتحقيق أهداف في الزمن الحالي. والمثقفون الأمريكيين، باعتباري واحدا منهم، يدينون لبلادهم النضال لمناهضة ثقافة التسلط، الظلم والإقليمية. هذه السمات التي تشوه مسيرة بلد يعتبر نفسه القوة الخارقة والوحيدة. بل انه أمر أكثر تحديا أن تحاول أن تصنع نفسك من جديد من أن تواصل الإصرار على فضائل كونك أمريكيا ضمن هذا المنطق الإيديولوجي الذي تتبعه الولايات المتحدة. فبالنسبة لي كوني خسرت وطنا بلا أمل لاسترجاعه على المدى القريب، لا أجد سعادة في الاهتمام بأرض جديدة أو البحث عن جماعة للانتساب إليها. لقد تعلمت من أدورنو أن التسوية تحت الإكراه هي فعل جبن غير أصيل، وبالنهاية قضية خاسرة أفضل من أخرى منتصرة، فعلى سبيل المثال أجد في البيت المستأجر الذي عادة ما يمنحك شعورا غير مستقر وطارئ أجد فيه رضا أكثر من رصانة اقتناء منزل دائم. ولذلك أجد نفسي أكثر اهتماما بكتاب مثل أوسكاروايلد وبودلر من ممجدي الفضيلة الثابتة مثل ووردزوورث أو كارليل.
على مدى خمس أعوام، كنت أكتب عمودين في الشهر للصحافة العربية. ورغم ابتعاد ممارستي السياسية عن صبغة التدين إلى أنه غالبا ما تم وصفي في العالم الإسلامي بشكل محتدم بالمدافع عن الإسلام، وربما تتخذني بعض الأحزاب الإسلامية كشخصية داعمة لها. لا شيء من الممكن أن يكون أبعد عن الحقيقة أكثر من كوني معتذرا مستمرا عن الإرهاب. يصعب الحفاظ على ميزة الانتشار في كتابة المرء عندما لا يكون في أي خندق سياسي أو حزب لقضية ما. ولكن هنا أيضا تقبلت تضارب أوجه ما أؤمن به على صعيد متزايد هذه الأوجه متعددة التنازع أو على الأقل غير متجانسة بشكل تام. وهناك وصف لغانثر جراس ينطبق على هذه الحالة جيدا وهو”المثقف دون تكليف”. وازداد الأمر تعقيدا منذ أواخر عام 1993 فبعد ما كنت الصوت المتفق عليه كممثل للكفاح الفلسطيني كنت أكتب بشكل متزايد وجاد عن عدم توافقي مع عرفات وجماعته. وعندها فورا وصمت بالمعادي للسلام لافتقاري للباقة والكياسة في وصف اتفاقية أوسلو بأنها مصدّعة. والآن وكل شيء معلق في العمل السياسي، غالبا ما يسألني العديد عن شعوري بعد أن ثبت صحة رأيي ولكنني كنت أكثر تفاجئا بهذا من أي شخص آخر فالتنبؤ بالمستقبل ليس من أسلحتي.
ولثلاث أو أربع سنوات مضت كنت أحاول أن أكتب مذكرات عن حياتي المبكرة والسابقة لحياة السياسة وذلك يرجع إلى حد كبير لاعتقادي بأنها قصة تستحق الإنقاذ والإحياء من جديد لارتباطها في ثلاث أماكن اختفت عن الوجود ففلسطين هي الآن إسرائيل، لبنان وبعد عشرون عام من الحرب الأهلية هي الآن بالكاد ذلك المكان الممل بشكل خانق الذي كانت عليه عندما كنا نمضي إجازة الصيف محبوسين في ضهور الشوير، مصر ذات النظام الملكي الكولونيالي اختفت في عام 1952. ذكرياتي عن هذه الأماكن مازالت موسعة بشكل كبير مليئة بالتفاصيل الصغيرة التي يبدو أني احتفظت بها بين دفتي كتاب مليء بالمشاعر غير المباح عنها والتي تولدت نتيجة مواقف وأحداث حصلت منذ عقود أجل الإفصاح عنها حتى الآن. يقول كونراد في “نوسترومو” إن هناك رغبة تسكن قلب كل فرد بأن يكتب لمرة واحدة روايته الخاصة لما حصل، وأعتقد أن هذا بالتأكيد ما حركني لكتابة المذكرات فوجدت نفسي أكتب رسالة لأمي المتوفاة مرة أخرى للتواصل في أمر جوهري عن حضور البدايات في حياتي. ويقول في نص له أدورنو:
يؤسس الكاتب بيتا… بالنسبة لشخص لم يعد له وطن، فإن الكتابة تصبح مكانا للعيش… ولكن الحاجة لأن يمرّن المرء نفسه لمواجهة مشقة التعاطف مع الذات تتطلب أو تفرض مهارة فنية ضرورية لمواجهة أي تراخ في النشاط الفكري بأقصى حالات الانتباه، لبناء القدرة على تفكيك ما قد يشكل قشرة حول العمل بالانجراف نحو الكسل، هذا العمل الذي لم يتعد في مراحل سابقة الثرثرة، يولد أجواء باعثة على النماء ولكنها الآن تترك لتركد وتخمد في الماضي. وفي نهاية الأمر، ليس للكاتب حتى أن يسكن كتابته.
وفي أقصى حالاته قد يحقق المرء شيئا من الرضا المؤقت، الذي سرعان ما يخبئ له الشك كميناً وحاجة لإعادة الكتابة والعمل اللذين يفقدان النص أهليته في السكنى. ولكن يبقى ذلك أفضل من النوم بين طيات إرضاء الذات ونهائية الموت.
هوامش