أجراها سفان أورتولي لـ Philosophie magazine
بحّار وابن ملّاح من ضفاف نهر غارون، لم يتوقّف ميشال سارس عن توجيه سهامه نحو مجالات فكريّة لم توطأ بعد. رجل مواجهات وبفلسفة “سائلة”، يسبح سارس تحت سماء مرصّعة بنجوم المعرفة ويخوض هذه الأيّام في أرجاء حقول النّصوص المقدّسة. مقابلة حول مستقبل الكوكب، الفرضيّات المعاصرة وملح الحياة مع رجل حوار، روحي بكل ما تحمله الكلمة من معاني.
هل أنت متفائل؟
قيل لي دائما أنّي متفائل إلى ما لا نهاية رغم أنّي لم أقل يوما أن العالم جيّد أو أنّه سيكون جيّدا: قلت فقط أنّه اليوم أفضل من الأمس. مع كل التحفّظات، فأبنائي يتمتّعون بحياة ممتعة أكثر من تلك التي عاشها والداي.
لكنّ ثقتهم في المستقبل أصبحت أقل؟
أوه! الثقة في المستقبل، هذا نسبيّ… بالنّسبة لوالداي الذين عايشا حربين عالميتين، لم يكن الأمر مطمئنا كثيرا. أمّا بالنّسبة لي، هناك مجال(١) كنت فيه فعلا متشائما. ناديت، مع البعض، لإنقاذ الكوكب، لإنقاذ الأنهار الملوّثة، الثلوج التي تذوب والمحيطات الغارقة في البلاستيك. لكن من يسمعنا؟ نحن لسنا كثيرين كفاية ليصدّقونا. معظم النّاس، وخاصّة أصحاب القرار، يفضّلون صمّ آذانهم. وكأنّهم يقولون: الأمر لا يعنينا أو هناك ما أهم من البيئة! الصّورة كارثيّة لكن كلاسيكيّة: فنحن ندرك أنّنا يوما ما سنموت لكن نصرّ على تجاهل ذلك. نفس الشيء، نحن نعلم أنّ الإنسانيّة تسير بخطى ثابتة نحو الكارثة، لكن نرفض تصديق ذلك، أوّ نفضّل التّجاهل.
بماذا تنصح الأجيال القادمة؟
أنا لن أعطيهم النّصائح لأنّ رجال ونساء اليوم يعلمون جيّدا، وأكقر ممّا أعلم، أن الكارثة قادمة! وأنّ هؤلاء هم من سينقذ العالم، إن أنقذوه. أمّا عن ما سيكون مستقبلهم، فلن أقع في تفاهة الوصف السّطحي: نستطيع القول عن المتنبّئين كما قال كاتون عن المنجّمين الهاروسبكس(٢) في روما: لا يمكن أن تراهم دون أن اضحك ممّا يفعلون! لذلك لا أقوم أبدا بالتّكهّنات.
لكنّك تؤكّد رغم ذلك أنّ المستقبل مظلم…
هذا ليس تكهّنا، هذا واقع. من المؤكدّ أنّ المستقبل مظلم. لكن ليس كل شيء قدرا مكتوبا. ولذلك، يمكن تفادي أي شي.
هل يعني هذا أن لا قدر مطلق (حتمي)؟ وأنّ الصدفة موجودة، في المجمل؟
من المعلوم لدى الدّاروينيين المعاصرين أنّ هناك محرّكين لحركة التّاريخ: الطّفرة، وهي مثل خطأ في الترجمة الجينيّة، والإنتقاء الطّبيعي مع إقصاء العناصر الضّعيفة. بلغة أخرى: “الصدفة و الضّرورة”، وهذا عنوان كتاب لصديقي “مونو(٣)”. لكن بالنّسبة لطرحك حول الحتميّة واللّاحتميّة، لم أحب يوما هذا المنطق الثّنائي (ثنائي القطب)، والّذي يبدو أنّه نتيجة لطفرة إنسانيّة، والتي، عبر البيولوجيا والثّقافة، قام بإجناب الأيادي والأفعال.
الإجناب(٤)؟
الجميع يعلم أنّ الأجنّة الذين يرضعون الإبهام الأيمن في الأرحام، يصبحون أيمنيين والعكس صحيح. هناك مجانبة جينيّة الأصل وهي ضروريّة للاتناظر جزأي الدّماغ. مثلا، النصف الأيسر من الدماغ يقع تخصيصه لمعالجة الأصوات. هذا الإجناب له دور، ولا شك في ذلك، في التّاريخ القبلي، عندما قسّم الإنسان الأدوار المختلفة بين يده اليسرى ويده اليمنى. في إستراتيّجيّته للتّأقلم مع المحيط، كانت هذه المرحلة ضروريّة حيث مكّنت الإنسان من صياغة بعض سلوكه، بما أنّه ظهر أنّ للأمر علاقة وثيقة بااللّغة البدائيّة(٥). لكنّ النّقطة المهمّة- قد إستعرت هذه الفكرة من عالم الألسنيّات الكبير أندريه مارتينيه(٦)- أنّ هذا الإجناب يحدث تفريعا ثنائيّا، كثنائيّة الرّوح والجسد، الإعتقاد والإلحاد، الشيء والموضوع: بإيجاز، إنّ تقسيم الجسم إلى يسار ويمين أنتج لغة تتحرّك عبر المتناقضات.
لكنّ الزّمان تغيّر: أنظر الحواسيب، نستعملوا كلتا يدينا عندما النقر على لوحة المفاتيح، مثل العزف على البيانو: أنظر شبكاتنا التي ترسم مخطّطات غير قطبيّة، لقد غادرنا منطقة الثّنائيّات (التجاذب البين-قطبي) وهذا الخروج يصاحبه طريقة جديدة في التّفكير. وهو ما إستدعاني للحرص الدّائم على مواكبة هذه الحركة عبر الإستنتاجات والمواجهة… مع مختلف الثنائيّات، يعني، مع موضوعات غير قابلة للقولبة (التّقولب). كلّ أعمالي تتناول هذا. مثلا في كتابي “هرمس” (Hermès)، الملائكة و الرهبان يحددون الإتصالات بين العلوم الصحيحة والإجتماعيّة، بين الصّلب واللّيّن. يرسمون جسر عبور بين الشمال إلى الغرب، إلى حد ظهور مؤلّفاتي الأخيرة: التخنّث (الإزدواجيّة الجنسيّة)، والأجسام المختلطة، والمتعلّم الثّالث، العقد الطّبيعي، مذراة عيد الشّعّانين، عشرة تجزيئات(٧)…
لا شكّ أنّنا اليوم نبتعد عن المجانبة. لهذا أفضّل إستقطاب المنطق الموجّه. أنظروا كم هو ثرّي: يكفي أن نطرحه داخل مصفوفة بسيطة لندرك أنّ وجودنا مختزل في هذا المربّع:
الذي يمكن أن يكون: هو الممكن، الذي لا يمكن أن يكون: هو المستحيل، الذي لا يمكن أن لا يكون: هي الضّرورة، الذي يمكن أن لا يكون: وهو الأهم، الجائز(٨) (النّسبي)، الصدفة.
هل يمكن أن تقودك الصدفة بعيداً؟
نعم، من المؤكّد، كان من الممكن أن أصبح رائد أعمال، أو نائب شعب -إقترحوا ذلك علي- أو أن أصبح ضابط بحريّة: لكن ها أنا، قد تجزّأت في إتجاه الفلسفة. هذا هو الاحتمال/التّصادف. هذا هو جوهر الحياة!
إنطلاقا من جوهر الحياة، هل يمكن أن نمرّ إلى معنى الحياة حسب ميشال سارس؟
فلنقل أنّي لا أرغب أن أموت قبل أن أكتب كتابا عن الدّين، يعني عن المجال الذي يعطي معنى للحياة، الذي لا يعطيه العلم ولا السياسة إلى حد ما. كيف لا يمكن إستخلاص أنّ الدين رابط كوني لأعمالي؟ عندما أكون وحيدا و أفكّر أنّي سأموت يوما ما، السؤال عن معنى الحياة يظهر لي طبيعيّا من منحى ديني، إذن وبالنّسبة لي على الأقل، في علاقة بالمسيحيّة. في الأديان التوحيدية الكبرى الثّلاثة، المسيحية هي الوحيدة التي تبدو لي دين أقرب إلى النّقاء، بما أنّ اليهوديّة ديانة تأسيسيّة والإسلام أقرب إلى السياسة و التّشريع.
دين أقرب إلى النّقاء؟
نعم، يعني دين تخلّى عن كل خاصيّاته الخارجيّة، دين أقل تسيّسا و تشريعيّة. من جهة أخرى، أظنّ المسيحيّة، وخاصة الكاتوليكيّة، تبدو متقدّمة في هذا الإتّجاه. ويعود ذلك إلى تلاقح العلم والإيمان وهو ما أدّى إلى التطهّر من الأوهام المضلّلة عن خلق الكون والإنسان. باختصار، أتبنّي فكرة أفلاطونيّة عن حقيقة مطلقة، كشمس تضيء العالم خارج المغارة (المألوف)، لفائدة شيء آخر هو أقرب إلى ليلة مضيئة بالنّجوم وهي حسب اعتقادي النموذج الأقرب إلى المعرفة. لأن الحقيقة لا يمكن إلّا أن تكون مرشدة وهناك دائما إشارات للحقيقة تضيء للذين يريدون أن يروها.
أنتم تتحدّثون دائما عن الدّين، لكن لا تتحدّثون عن الله؟ ماذا يعني هذا بالنسبة لكم؟
الله هو ذات، ومن الممكن فكرة، التي لا يمكن أن نجزم بشيء بشأنه، وجوده من عدمه. من زاوية اخرى، العلم الوجودي (الّلاهوتي) الوحيد المهم هو ذلك الذي يدّعي أن الله غير موجود.
إذا هل نستعمل مصطلح الإله، أم تفضّلون التّعالي(٩) (المفارقة)؟
علاوة على أنّهم علماء رياضيّات، الفلاسفة يعرفون أيضا أن المواضيع الرّياضيّة توجد كما توجد حقيقة الأفكار: مجموع زوايا المثلّث لا يمكن أن يكون شيئا آخر غير مجموع مستقيمين، 180 درجة! ليبنيز(١٠) لا يعطي غير ذلك إجابة للوك(١١) الذي يعتقد كل شيء هو مجموعة أحاسيس: إفعل بالرّياضيات ما تشاء، وسترى أنّه لا يوجد غير الأحاسيس…وأنّ هنالك عالم آخر أين يمكن أن نجري تجربة فعليّة يوضّح هذا. لهذا السبب أظنّ أنّه عندما يتحدّث دولوز(١٢) عن ” مساحة المحايثة(١٣)” (أو الكمون) لكي يفنّد فكرة التّعالي، لكّنه لا ينتبه إلى أن كلمة مسطّح تفترض مجالا ليتمدّد فيه! ولهذا، أفضّل كلمة إلا هي بدل التّعالي لأنّه وصف. وأختار الوصف المرن بدل المركّب الذي يفضي على التناقضات. في المركّب، التّصوّر (المفهوم) يعطّل الأمثلة، حيث يمكن أن يكون معرّفا، ممّا يحيل إلى نهاية وحدود، وهذا هو الجماد! لكن الوصف سائل، مثل فلسفتي: “أد جاكير(١٤)” (إرمي جانبا). أين الله؟ على جنب… لأنّ الله في كل مكان، فهو يفرّ دائما إلى الحضور والعقلنة.
هل تؤمنون بالله؟
لا أعلم إن كنت أومن بالله، هذا سؤال لا جواب له، لكن أعلم أنّ الروح الإلهيّة هنا أمامي، إنّها ليست مسألة إيمانية لكن مسألة حتميّة! الإله كلمة جميلة لأنّه في كلّ مكان لمن يريد أن يدركه، في قصيدة، إمرأة جميلة، عمل صالح…
الحياة جميلة…؟
بالتّأكيد، لكن ما هي الحياة الجميلة؟ حسب أي معايير؟ فلنعتبر من المسيح: إذا ما اعتبرنا النّجاح الإجتماعي، سيكون مثلا المنبوذ، محشورا مع غاليلي وعلماء آخرين، مهمّشون ينتهون على أيدي قطّاع الطّرق! لكن في العمق، وحسب تجربتي في التعليم و الفلسفة والإيمان، فإنّ داخل كل منّا نواة خاصة تقوده إلى حيث يتميّز. لكن يجب إكتشاف ذلك والسّعي وراءه. للأسف 99% من النّاس يدفنون قبل اكتشاف هذه النّواة. بالرّغم من أنّه عبر هذا الإكتشاف، يمكن المضيّ إلى حياة حافلة و صاخبة، ونوعا ما ناجحة.
هوامش