لم تكن عملية إحصاء أفضل عشرة أفلام فلسطينية في العقد الأخير عملية سهلة، بل على العكس تمامًا، كانت في غاية التعقيد، سيّما وأن الحظ لم يقف إلى جانبي ولم أنل فرصة مشاهدة كم كبير من الإنتاجات السينمائية؛ هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى كان من الصعب إيجاد أفلام فلسطينية كثيرة ترتقي إلى مستوى تصنيفها تحت مسمى “أفضل” لما تحويه الكلمة من التزام بمعايير جمالية في الإخراج والسيناريو والتصوير والموسيقى والتمثيل والتطور الدرامي والحبكة والتجديد. إلى جانب ذلك، أفرزت عملية البحث، والمشاهدة ومراسلة المخرجين والمخرجات، معرفة ووعيًا لدي بوجود عدد كبير من المخرجين وصنّاع الأفلام.
خلال الأعوام العشر الماضية نجحت في مشاهدة عدد لا بأس به من الأفلام، أسميها أفضل عشرة أفلام فلسطينية شاهدتها وليست الأفضل على الإطلاق. وقد برز تفوق الأفلام الوثائقية خلال التصنيف وسهُل اختيارها وكان من الصعب اختيار 5 أفلام روائية جديرة بالتقرّب من الكمال. استثنيت في هذا التصنيف فيلم المخرج العالمي إيليا سليمان “إن شئت كما في السماء” (2019) الذي كان مرشحًا للأوسكار، فمن غير المنصف مقارنته مع سائر الأفلام لاختلافه إنتاجًا ومدرسةً. وعلى أقصى طرف النقيض رأيت من المفيد الإشادة بفيلم “أمبيانس” (2018) لوسام جعفري الذي نجح في الوصول إلى مهرجانات عالمية وعلى رأسها فئة الأفلام القصيرة في “كان السينمائي” رغم كونه فيلم تخرّج شحيح الموارد معقد الولادة بسيط السرد ضعيف الأداء، ولربما كان هذا الضعف الصادق نقطة قوته. فالفيلم يتحدث عن شابين يحاولان تسجيل مقطوعة موسيقية في مخيم الدهيشة الفلسطيني، لكن تركيبة المخيم لا تتيح لهما ذلك فيخرجان في رحلة لتسجيل “موسيقى روح المخيم” بكل ما تحويه من أصوات الفرح والتشييع وصخب الأعمال اليومية.
أفضل الأفلام
أعتبر الفيلم الوثائقي “المطلوبون الـ 18” للمخرج عامر شوملي وشريكه الكندي بول كوان الفيلم الفلسطيني الأفضل مما شاهدت خلال السنوات العشر الأخيرة، ويتربّع بالنسبة لي على قمة الإنتاجات وثائقيًا وروايًا. فيلم غاية في الأهمية لما يحمل من قصة جديرة بالمشاهدة عن تجربة فلسطينية فريدة. ينجح هذا الفيلم في دمج الوثائقي وإعادة التمثيل (دوكيو-دراما) مع التحريك (ستوب موشن) بسلاسة ليقدم القصة متنقًلا بين التقنيات بحبكة ذكية وسرد ذات ايقاع منضبط تسهم كل نوتة فيه إلى إكمال جزء من الرواية حتى الكمال.
ليست العوامل الفنية والقدرة على دمج تقنيات متعددة هي نقطة قوة الفيلم الوحيدة، بل يزيد من أهميته ما يرويه عن قدرة أهالي بيت ساحور المذهلة خلال فترة الانتفاضة الأولى؛ في مناورة الاحتلال والتفوق عليه من خلال مقاطعة منتجات الحليب الإسرائيلية والسعي للاكتفاء الذاتي من خلال 18 بقرة تتحوّل إلى هدف تجنّد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية جنودها للإجهاز عليه وتفشل في ذلك بفضل وحدة الصف!
إن الصورة المشرقة التي يقدمها الفيلم عن الإنسان الساعي إلى الإجماع على هدف ضد مُحتله تبعث الكثير من الأمل وتسطّر في تاريخ الشعب الفلسطيني.
أما في فئة الأفلام الروائية فكان فيلم “السلام عليك يا مريم” لباسل خليل من أجمل وأمتع وأذكى ما شاهدت. حيث يقدم الفيلم القصير واقعًا مثقلًا بحروب المعتقدات، فيكشف هشاشة الإنسان ويحطم التابوهات بنكهة كوميدية ساخرة ممتعة.
في ذكاء لافت يختار باسل خليل أبطال فيلمه من فئتين قلّما تحظيان بالظهور على الشاشة: الراهبات والمستوطنين وفي هذين العالمين مساحة واسعة لإطلاق العنان للفنتازيا والإبداع في السيناريو. ينطلق خليل إليهما حاملًا رغبة في ذبح البقرات الأكثر قداسة. فعائلة المستوطن المتديّن المزمت ترتطم بالحاجة إلى مواجهة الإخلال بحرمة السبت وشرب الماء من مطبخ “نجس” والاستجارة بالفلسطيني العدو. من جهتها تواجه الراهبات الصامتات اللواتي يعشن في دير منعزل عن الناس الإخلال بقدسية الصمت والشذوذ عن الروتين. كل هذا بسبب عطل في سيارة المستوطن في وسط لا مكان اعتكفت فيه عدد من الراهبات ملتزمات الصمت.
إن عبقرية الحكاية، وجمال الأداء وتعقيد الأزمة مع ما يرافقها من موسيقى وإضاءة وتصوير، يجعل من هذا الفيلم تحفة سينمائية تتمتع بكل المواصفات السينمائية التي نحتاج. ترشّح لتمثيل فلسطين في الأوسكار.
الأفلام الوثائقية
١- المطلوبون الـ 18 / وثائقي طويل 2015 / عامر شوملي
٢- اصطياد أشباح/ وثائقي طويل 2017 / رائد أنضوني
٣- عالم ليس لنا / وثائقي طويل 2012 / مهدي فليفل
٤- صيف غير عادي / وثائقي طويل 2020/ كمال جعفري
٥- خمس كاميرا محطمة / وثائقي طويل 2011 / عماد برناط
عندما صدر الفيلم الوثائقي “اصطياد اشباح” لم أكن أتوقع بأن مخرجًا سيبني زنازين ويبعث عددًا من الأسرى المحررين ليستعيدوا ألم تجاربهم في واحد من أكثر سجون الاحتلال سوءًا-برغبتهم- بعد نجاتهم منها. رغم أن الفكرة تحمل بعضًا من السادية، إلا أن إسهام الأسرى المحررين في خلق ذاكرة جماعيّة حول أحد أهم أعمدة النضال والإدلاء أمام الكاميرا بتفاصيل صغيرة تصل حد الحميمية جعل من الفيلم جديرًا جدًا بالاهتمام والمشاهدة ليس كجزء من الرواية الوطنية فحسب بل فنيًا أيضًا. فجمع مؤدي الأدواء لدورهم الحقيقي من خلال إعلان في صحيفة لم يكن مسبوقا، ومن ثم إعادة تمثيل مشاهد التعذيب مقابل اعتراف الأسير بالحاجة إلى الحب ليس مألوفًا، واستعادة قوة الفلسطيني أمام الاحتلال حتى في الزنازين تمد المشاهد بالكثير من القوة.
ينجح الفيلم في تقديم قصص عدد من الأسرى المحررين المعروفين، من بينهم ممثل مسرح وسينما، إن تحوّل هؤلاء إلى شخصيات سينمائية فتح بابًا واسعًا لإطلاع العالم أجمع على قضية الأسرى، والأهم أن للسيناريو لم تكن أهمية في فيلم كهذا، فكل “ممثل” جاء محملًا بسيناريو خاص به.
في الفيلم الذاتيّ “عالم ليس لنا” يحضر الفلسطيني الذي أسعفه الحظ في الانطلاق من مخيمات اللجوء إلى العالم حاملا معه الكثير من الحكايات لشخصيات يصعب نسيانها. يصور مهدي فليفل زياراته في مخيم عين الحلوة الذي عاش فيه بعضًا من سنوات حياته، ويلاحق بعض الشخصيات متعددة الأبعاد التي تشكل والمخيم جسدًا واحدًا. ينجح فليفل في نقل حالة الإحباط وألم اللجوء من أبطاله إلينا وفي مقدمتهم “أبو إياد” الذي يعكس حكاية واحدة للاجئين كُثُر يعيشون عالمًا ليس لهم، لاجئون لم يعد الانتماء هاجسهم وسط حالة البؤس اليومي والرغبة في الهروب.
إن المقاربة ما بين الفيلم وأسلوب السرد في مجموعة قصص غسان كنفاني التي تحمل نفس الاسم، وتظهر في كرتونة مقتنيات “أبو إياد” نجد العلاقة الخاصة والمتميّزة ما بين صانع الفيلم وشخصياته، ما بين حكاية لجوئه على اختلاف الأماكن وحكاية لجوء شخصيات فيلمه الذين لم يبرح معظمهم حدود عين الحلوة إلا في خياله.
بعيدًا عن مركبات القضية الفلسطينية شديدة الحساسيّة، يختار كمال جعفري تقديم مادة سينمائية جديدة. رحل والده تاركًا له مادة توثيقية جميلة للشارع المقابل للبيت في الرملة حيث يسعى هذا الوالد من خلال نصب كاميرا مراقبة إلى معرفة الشخص الذي يقف خلف كسر زجاج سيارته. ترصد هذه الكاميرا حياة حي فلسطيني في قلب مدينة أصبحت مختلطة، فيقوم المخرج بخلق حالة سينمائية لذيذة نتلصص فيها معه على المارة ونراقب تحركاتهم الصامتة ساعين إلى معرفة مرتكب الجريمة.
في فيلمه المشترك مع المخرج الإسرائيلي جاي دافيدي يقوم عماد برناط بتوثيق عمله في توثيق الصدامات ما بين أبناء قرية بلعين الفلسطينية وجنود الاحتلال، والتي يضحّي برناط خلالها بخمس كاميرات يعتدي عليها الجنود فيكسرونها لكنهم لم يكسروا إرادة المخرج وعلاقته بالكاميرا التي تنقذ حياته من رصاصة وتحمله إلى الأوسكار.
كان برناط الشخص الوحيد الذي يمتلك كاميرا فيديو في قريته فقام بتوثيق اعتداءات المستوطنين الطامعين باحتلال أراضي بلعين، وقد مد برناط نشرات الأخبار بالكثير من المواد التوثيقية التي تحولت فيما بعد إلى فيلم يصور قصة بلعين من خلال قصة عماد الشخصية وكاميراته التي أصبحت هدفا للرصاص. يحتفظ عماد بالكاميرا المحطمة، ويحولها إلى لاعب مهم في سرد الحكاية التي استمرت سبعة أعوام.
الأفلام الروائية
١- السلام عليك يا مريم/ روائي قصير 2016/ باسل خليل
٢- 200 متر/ روائي طويل 2020 / أمين نايفة
٣- الحب والسرقة ومشاكل أخرى/ روائي طويل 2015/ مؤيد عليان
٤- غزة مونامور / روائي طويل 2020/ عرب وطرزان نصر
٥- لمّا شفتك/ روائي طويل 2012/ آن ماري جاسر
ببساطة ودون ابتذال في الحوارات يقدم لنا أمين نايفة قصة أخرى من قصص الفلسطينيين الذين يجمعهم الحب ويفرقهم جدار الفصل العنصري في فيلمه “200 متر”. وعلى الرغم من أن الحكاية تبدو مألوفة، وعلى الرغم من استعادة مشهد جدران الخزّان، إلا أن نايفة ينجح في تحويل تفصيل صغير فيها إلى مغامرة شائكة تم تصميم معيقاتها بصدق وواقعية.
على طرفي الـ 200 متر يعيش زوج من حملة الهوية الفلسطينية وزوجته من حملة الهوية الإسرائيلية- كما هو حوالي مليون ونصف المليون فلسطيني في الداخل- لكن وبسبب ما يفرضه الاحتلال من انعدام فرص العمل لدى الفلسطينيين تضطر الزوجة والأولاد للبقاء في الجانب “الإسرائيلي” حيث يسعى الزوج لإصدار تصريح للعمل وزيارة زوجته وأولاده، بكل ما في القضية من تعقيدات الحصول على التصاريح، وعبور الحواجز وحالة التشتت التي تعيشها الأسرة. ما يجمعه الحب لا يفرقه احتلال لكن هذا ليس نضالا يسيرًا.
يتمتع هذا الفيلم بأسلوب سرد وتطور درامي وأسلوب عصري مبتعدًا كل البعد عن العويل والبكاء والشكوى.
في فيلمه بالأبيض والأسود يعكس مؤيد عليان في فيلمه “الحب والسرقة ومشاكل أخرى” صورة من حياة الفرد الفلسطيني الذي تلاحقه الكوارث السياسية والاجتماعية وكأنه كُتب لهذا الإنسان أن يبقى معلقًا على صليب الآلام أبد الدهر. ينجح عليان في تسليط الضوء على حياة شاب فلسطيني أعزب شبه عاطل عن العمل، قليل الحيلة عديم الحظ. يحاول بالسرقة إعالة نفسه إلى أن يجد نفسه متورطًا بجندي رهينة.
رغم الاحتلال وملاحقته، والمقاومة الفلسطينية التي تحتاج الجندي كورقة رابحة لتحقيق المطالب، وحبيبته المتزوجة وأفق حياته الضيق يبقى موسى متحركًا في مساحة من الكوميديا التي تحقق مقولة شر البلية ما يضحك.
لعل في هذه الفيلم نقلة ما من نمط سينمائي معتاد إلى نمط جديد يتسم بالغرابة والفانتازيا، حبكة محكمة وسرد أنيق لعبثية حياة الإنسان الفلسطيني الباحث عن الحب ومشاكل أخرى.
وفي سياق الحب يأخذنا عرب وطرزان ناصر إلى مغامرة لذيذة لرجل ستيني يشعر بالحب في فيلمهما “غزة مونامور”. قصة فلسطيني آخر متحرر من قيود الاحتلال العسكري المباشر لكنه محاط بقيود سلطة غزة، وحصارها، وعاداتها المجتمعية.
وسط هذا الجنون يرقص الصياد عيسى على صوت موسيقى كلاسيكية تصاحبها قرقعة زيت القلي خلال إعداد وجبة سمك، يشعر عيسى بالحب تجاه الأرملة سهام فيطاردها بهدوء إلى أن تتاح له الفرصة لعرض الزواج. لكنه روميو غزة يتعثر ببعض التفاصيل الصغيرة كاصطياد تمثال أبولو ومحاولة بيعه وما يترتب على ذلك من الوقوع فريسة لدى السلطة.
على الرغم من أن الحكاية لا تتسم بالتماسك إلا أن براعة سليم ضو في أداء دور الغزي الفرد المقاوم للموت، وبعض الجرأة في عرض تفاصيل حياته، وقليل من السخرية والتهكم وتجسيد الواقع الغزي المؤلم دون دموع وولولة يجعل الفيلم خفيف الظل على المشاهد.
تتقاسم الأم غيداء وابنها طارق بطولة قصة لجوء أخرى في فيلم “لمّا شفتك” لآن ماري جاسر، لكن هذه المرة لجوء الفلسطينيين في الأردن في ستينات القرن الماضي. تعيش غيداء في مخيم لجوء منتظرة قدوم زوجها عابرًا للحدود بين فلسطين والأردن، التي يُصر ابنها الطفل طارق قطعها عائًدا إلى الوطن، مشيًا على الأقدام.
يحتمل هذا الفيلم عددًا من العوامل لأذيّل به قائمة اختياراتي لأفضل أفلام روائية، فبطولته نسائية، وفيه يتحقق حلم العودة على يد طفل، وهناك حضور مركزي للفدائيين الذين خفت حضورهم سينمائيًا. كل هذا بقالب إنسانيّ ومناورة ما بين التفاصيل الشخصية للأبطال والإطار الجامع: التهجير واللجوء والعودة.
في المقابل…
وسط الفرح والاحتفاء بما جادت علينا السينما كان هناك مكان للخذلان. خلف الكثير من الأفلام وقفت أسماء هامة في سجل السينما الفلسطينية، وقدمت أفلامًا لم تحمل مقومات العمل الفني الجيد سواء بسبب ضعف السيناريو، ضعف الإخراج، إقحام لنجوم كبار على حساب جودة الأداء ومدى صدق الرواية وتماسك السرد.
لعل أبرز هذه الأفلام كان فيلم “يا طاير الطاير” للمخرج العالمي هاني أبو أسعد الذي قدّم قصة نجاح المطرب الفلسطيني محمد عساف والذي كان بعيدًا كل البعد عن جودة أعمال أبو أسعد السابقة. ومن بعده المخرج رشيد مشهراوي في فيلم “الكتابة على الثلج” الذي قدّم صورة عن حرب الفصائل في غزة مثقلًا بالنجوم والأخطاء، متعثرًا بالتكرار وانعدام التشويق. وثالثهما المخرجة مي مصري التي قدمت فيلمها الروائي الأول “3000 ليلة” عن الأسيرات الفلسطينيات والذي رغم ما جمعه من نخبة ممثلات إلا أنه غارق في الكليشيهات ومستفز في كيفية تصويره للسجّان.