الدولة هي كل شيء تعرفه وكل شيء لا تعرفه، الدولة هي “الأسطورة” التي حين تسمع عنها فلا تصدقها، لظن منك أنها مبالغة مفرطة حد الإسفاف، إنها بالفعل مفرطة ولكن ليس في المبالغة وإنما في العظمة والتعالي على الكيانات المادية والتأطيرات النظرية. ولعل كاتب هذه السطور قد تولّع بالدولة كفكرة مجردة كما كان صاحب الپارتيزان الألماني كارل شميت معظّماً لها، لكن عذري في ذلك أنّني لا أنطلق من الهيام بالسلطة أو القوة، وإنما من الوعي بأهمية ومركزية الدولة، ودرجة حاجتنا إليها في عالم عربي يسقط في هوّة لا قاع لها، ومصيبة هذه الأمة أن ابتليت بدول لم تعرف من الدولة إلا سلطانها وقوتها المفرطة ضد شعوبها لا أعدائها.
لا أظنني أبالغ إن قلت إننا لم ننجح في التفاعل الحقيقي مع سؤال الدولة حتى اليوم، فبعد أن كان آخر “قول في الدولة” يعود إلى العبقري ابن خلدون، حين كان معنى الدولة عنده مرادفاً للسلالة الحاكمة Dynasty، عاد السؤال باستحياء إلى ساحتنا الفكرية في العقود الماضية مع النهضويين والقوميين، لكن الدولة عندهم أمست فكرة “مثالية” للوحدة الوطنية أو القومية أو الدينية (كما أوضحه غسان سلامة) أكثر مما فكروا بأن لها جذوراً اجتماعية واقتصادية وصياغات فلسفية وقانونية وتعبيرات مؤسساتية وجيوش واقتصاديات (كما تعمّق فيها نزيه الأيوبي مثلاً) لينصرف الأكثرون إلى الخوض في سؤالي العلمنة وتدبير الاختلاف السياسي بينما بقيت الدولة وسؤالها معلقين في الهواء، في تراجيديا تذكرنا بمقولة ماركس: “لن تخرج الأمة الألمانية من مأساتها إذا لم تعِ كم هي في مأساة”.
وكعادة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في استثارة الأسئلة الحرجة، لإدخالها في أجندة العرب البحثية، صدر عن المركز حديثاً ترجمة كتاب “الدولة: نظريات وقضايا” بمشاركة تسعة عشر باحثاً غربياً، في مقدمتهم محررو الكتاب: كولن هاي، مايكل ليستر، ديفيد مارش، بترجمة ممتعة أنيقة لأمين الأيوبي، جاء الكتاب في اثني عشر فصلاً ومقدمة وخاتمة، امتدت على (544) صفحة، وأقل ما يوصف هذا الكتاب به أنه كتاب أكاديمي/بحثي من الطراز الرفيع في العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي.
هل من تعريف للدولة؟ وكيف تطورت؟
يفتتح الكتاب رحلته النظرية المعمّقة بالتساؤل عن إمكانية اعتماد تعريف واحد “الدولة”، إذ يؤكّد كولن هاي ومايكل ليستر في مقدمتهما أنَّ الدولة فكرة مفاهيمية مجردة، وليست شيئاً مادياً، ومفهوم الدولة هذا أحد المفاهيم التي يصعب ضبط تعريفها إلى حد بعيد، لأن الدولة تعني طائفة من الأشياء المختلفة بعدد زوايا النظر المختلفة إليها، ومن هنا كان هدف الكتاب محاولة جمع أجزاء هذه الصورة المشتتة، ما انعكس في بنيته التي جمعت عدداً كبيراً من المقاربات والنظريات السياسية والفلسفية المختلفة، سعياً إلى بناء صورة أقرب إلى “ماهية الدولة” العصية على التحديد مفاهيمياً، وقراءة أكثر تماسكاً في فهم تطوّراتها في الواقع.
تكمن جذور الدولة في الانتقال من الحياة البدوية القائمة على جمع الحبوب والصيد إلى مجتمعات أكثر اعتماداً على الزراعة، تميزت على نحو متزايد بنظام زراعي منظم. وبحسب هاي وليستر فإن “الثبات الجغرافي النسبي للإنتاج الزراعي هو ما أدى إلى تطور المؤسسات والبنية الأساسية القادرة على الحكم وبسط السلطة… على أرض محددة ومرسومة الحدود”. وتميزت الدولة في مراحل تطورها الأولى بالعسف والقهر إلى حد بعيد في طريقة بسطها لسيطرتها على مواطنيها، وفي هذا السياق صعد عامل رئيس ثانٍ هو الدين. فبينما كانت مجتمعات “الصيد وجمع الحبوب” أقرب إلى القبلية المعتمدة على أواصر القرابة، عانت الدول الزراعية الناشئة من ضعف الروابط بين أفرادها، فأصبحت أكثر اعتماداً على القهر، وأكثر هشاشة من الناحية السياسية، وكما أثبتت باتريشيا كرون، فإن قدرة “الدين على إسباغ الشرعية على الاستخدام المنظم والمركزي على نحو متزايد للسلطة القسرية (من خلال اللجوء إلى السلطة الإلهية) هي ما جعلت توطيد سلطة الدولة ممكناً، الأمر الذي ربما كان متعذراً لولاها”. وهذا بدوره ساهم في تطور القدرة المؤسسية على الحكم، وفي القدرة على التعبئة العسكرية بالتزامن مع ذلك. وبالتالي ترسَّخ تلازم الدولة مع القوة العسكرية في مرحلة مبكرة، ولعلّ هذا التلازم ما انفكّ حتّى يومنا هذا.
وعليه، يعرّف محررو الكتاب الدولة الحديثة بأنّها: “مجمّع مؤسسي يزعم امتلاكه السيادة، كونه السلطة السياسية العليا في داخل المنطقة المحددة التي يتولى مسؤولية حكمها … وهذا المجمع المؤسسي لديه جهاز إداري مركزي، وقدرة على جباية الضرائب، وجيش عامل، ونظام علاقات دبلوماسية مع الدول الأخرى، وحدود إقليمية معترف بها عموماً، وواضحة المعالم غالباً” وهو تعريف وصفيّ كما هو ظاهر.
مع دخول الدولة حيز التنظير السياسي في الأدبيات التأسيسية للفكر السياسي مع مكيافيلي وجان بودان وتوماس هوبز صاحب “اللفياثان” العظيم، الذي تزامن مع صعود الدولة الاستبدادية في أوروبا القرن السابع عشر، تم تقديم الدولة باعتبارها كياناً منفصلاً بحق عن سلطات الحكام والمحكومين، وكان لمفهوم هذا الكيان ثلاث صفاتٍ تجعله قريباً من المفهوم العصري للدولة على نحوٍ مميز: أولاً: الأفراد داخل المجتمع ممثلون بصفتهم رعايا الدولة، عليهم واجبات وولاؤهم للدولة ذاتها وليس للحاكم (خلافاً لمكيافيلي، الذي أضحت الدولة عنده مرادفاً للأمير نفسه). ثانياً: سلطة الدولة أحادية ومطلقة. ثالثاً: تُعد الدولة أعلى صور السطلة في جميع شؤون الحكم المدني.
وتتابع المفكرون والفلاسفة على تقديم تعريفات للدولة والسعي للتنظير لها، كلاً بحسب عصره، باعتبار أن الدولة كيان قائم على التطور وفق المسار، فكانت وستبقى ساحة فريدة من مساحات التفكير الفلسفي والعلمي بحسب تطوراتها، فهي عند هيغل، التجسد الأخلاقي لحكمة شعب عبر أجيال، وعند فيبر، الكيان الذي يحتكر الاستخدام الشرعي للعنف المادي، وعند شميت، الانعكاس لكلية المجتمع… الخ. ولاحقاً بدأت النظرية السياسية تسعى لبناء نموذج نظري قادر على تحليل الكيان الذي غدا يخترق كافة المساحات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتتطور قدراته العسكرية والاستخباراتية بصورة مذهلة، وبدأ يمثّل تعبيراً عن كيانات اجتماعية وقوى اقتصادية كالطبقة البرجوازية مثلاً، أو تعبيراً عن نخب اجتماعية وسياسية.. الخ. ومن هنا وضع كتاب “الدولة: نظريات وقضايا” دراسات كتّابه مصنّفة تحت النظريات المتعلقة بالدولة، من النظرية التعددية، والنخبوية، والماركسية، والمؤسساتية، إلى النسوية، كما ناقش تحولات الدولة مع تطور الشركات الاقتصادية العابرة للحدود، واهتم بتأثير العولمة على الدولة، متسائلاً عمّا إذا كانت قد بدأت تفقد قوتها وجبروتها في ظل العولمة، وتعيش مأزقاً حقيقياً أم لا؟
النظرية التعددية
حافظت النظرية التعددية على أهميتها منذ أواخر التاسع عشر حتى يومنا هذا، وأثرت أنماط التفكير التعددي في عدد من الميادين الفرعية للعلوم السياسية، لتشمل جماعات الضغط والنظرية السياسية والتعددية الثقافية والإدارة العامة ونظرية الخطاب، بالإضافة إلى كونها قادرة على تحليل طائفة من أنواع النظم السياسية بدءاً بالنظم الديمقراطية الليبرالية وانتهاءً بالنظم الاستبدادية. وبالإمكان اعتبار التعددية أحد تيارات الفكر الأيديولوجي، إلى جانب الفوضويين والاجتماعيين واليمينيين والمحافظين.
وبحسب مارتن سميث، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيفيلد، فإن جذور التعددية بدأت في أوروبا ردةَ فعل على مفهوم الأحادية وفكرة وجود دولة استبدادية. وهناك رفض متعمد، في التعددية الأولى، للمثالية الهيغلية. كما أنَّ التعددية في نظر التعدديّين الإنكليز المبدعين مثل جورج دوغلاس وهارولد لاسكي هي نظرية معيارية تُعنى بالطريقة التي يجب تنظيم المجتمع وفقها لبناء مجتمع اشتراكيٍّ عادلٍ وليبراليّ. والمقولة الأساسيّة عند مفكّري التعددية جميعاً هي أنَّ التنوع منفعة اجتماعية تقي هيمنة فكرة معينة واحدة، فلا بد من توزيع السلطة وعدم السماح بتجمّعها في الدولة.
واعتنى التعدديّون الإنكليز بقضيتين في فهمهم للدولة: الأولى: مفهوم السيادة، والثانية: دور الجماعات والعلاقة بها. ويتفق تعدديو أمريكا معهم في مركزية دور الجماعات، ذلك أنّ الاثنين وجدوا في الجماعات لَبِنات السياسة والدولة. وانسجاماً مع موقفهم المعارض للأحادية، فقد رفض أمثال لاسكي وفيغيز كول زعمَ الدولةِ امتلاكَها الشمولية وعارضوا مفاهيم السيادة المتنافسة، كما اعتقدوا مثل الليبراليين بوجوب تقييد الدولة، وآلية هذا التقييد هي توزيع التنظيم الاجتماعي على عدد كبير من الجماعات والجمعيات.
ومن المفيد التذكير بأنَّ هذه الأفكار ليست وليدة حالة تنظيرية حالمة، بل تكمن جذورها في التاريخ الأوروبي الحديث، فهؤلاء الباحثون استطاعوا “استنباط” معرفة حقيقية من خلال التفكّر في واقعهم. فبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى تم تقديم المنافع العامة في بريطانيا عبر توليفة من جماعات عامة وخاصة وتطوعية بينما اضطلعت الدولة بدور صغير في هذا الجانب، فوجد التعدّديون في الجماعات بديلاً من الدولة باعتبارها آلية للتنظيم الجمعي وإنتاج المنافع الجمعية.
وعلى نحو مشابه، تطورت التعددية الأمريكية بفضل أعمال ديوي وماري فوليت، فقد عارضت الأخيرة بقوة تأثير الفردانية ومفهوم الدولة المستبدة. ورأت، مثل لاسكي، أن الأفراد موجودون من خلال الجماعات فحسب، وأن الهوية الفردية تعبير عن العضوية في جماعة. واعتقدت فوليت أن الحياة العصرية أفضت إلى مجتمع تعددي معقد، وأنه لا بد من تحديد سلطات الدولة لتلافي سحق الجماعات.
رأى التعدّديّون الأمريكان أن الدولة الأمريكية هي التعبير الأمثل عن التعددية، حيث لخصها روبرت دال تلخيصاً جيداً فقال: “يجري التوصل إلى السياسات المهمة للحكومة من خلال المفاوضات والمساومة والإقناع والضغط على عدد كبير من المواقع المختلفة في النظام السياسي؛ البيت الأبيض والأجهزة الإدارية ومتاهة اللجان في الكونغرس والمحاكم الفيدرالية ومحاكم الولايات والمجالس التشريعية والتنفيذية في الولايات والإدارات المحلية. ولن يكون لأي مصلحة سياسية منظمة أو حزب أو فئة أو منطقة أو جماعات إثنية سيطرة على جميع هذه المواقع”.
هل تتحول الدولة وتفقد سيادتها حقاً؟
في الفصل العاشر يصحبنا غيورغ سورنسن في نقاش معمّق لأهم الآراء الأساسية حول طبيعة التحول الذي يصيب الدولة جراء العولمة الاقتصادية، إذ يرى بعض المراقبين مثلاً أن شبكات الاتصال الاقتصادية العالمية غيرت الجوهر الاقتصادي للدول بطرائق عدة، لأنّها أضعفت ما يسمى الاقتصاديات الوطنية. وبحسب زعمهم فقد ساعدت هذه العمليات الاقتصادية والسياسية بدورها في تحدي المفاهيم التقليدية لكيان الدولة والمواطنة، وبالتالي أثارت جدلاً جديداً في شأن الهوية والجماعة.
يصنف سورنسن الجدل الدائر إلى ثلاث وجهات نظر محورية، الأولى: “انكفاء الدولة” التي تجادل أن التغيرات الجارية تهدید خطر لسلطة الدولة واستقلالها. والثانية: “انتهاء الدولة” ذات السيادة كما نعرفها الآن نتيجة هذه التغيرات. والثالث: استمرار “مركزية الدولة” رغم كل شيء.
يشير سورنسن إلى أن التغيرات الجارية ليست جديدة في الواقع، ولا هي شديدة الاختلاف عما حصل سابقاً وبقيت الدول قوية وتتمتع بسلطات خاصة، كما يوضح سورنسن في بداية ورقته العلمية أن مجمل الجدل الدائر في شأن تحول الدولة على صعيد التغيرات الاقتصادية؛ الجماعة؛ السيادة، والتي يحاول تفكيكها على التوالي في مقالته، هي انحياز أوروبي التوجه: هذا الجدل معنيٌّ بالدولة الليبرالية المتقدمة في أوروبا وأمريكا الشمالية وشرق آسيا.
العولمة الاقتصادية: يعتقد الباحثون الذين يتبنون “مركزية الدولة” أنّ الدول لا تزال تسيطر على الأسواق، فيما يرى الباحثون الذين يتبنون رأي “انكفاء الدولة” أن الأسواق أقوى كثيراً من الدول. لكن سورنسن يرى أنه عوضاً عن القول بـ”خسارة الدول” و”فوز الأسواق” أو العكس، ربما يجوز لنا النظر إلى “العلاقة بين الدولة والأسواق على أنها علاقة دائمة التذبذب والتغير لاختلاف السياقات السياسية والاقتصادية. ساهمت الحرب العالمية الثانية في زيادة مستوى مشاركة الدولة في الاقتصاد. وفي أوروبا الغربية على الخصوص، استمر الدور الرائد للدولة بعد الحرب في سياق سياسات التقديمات الاجتماعية الكينزية الحكومية”. وفي مقابل القائلين بانكفاء الدولة أمام قوّة الأسواق، نستحضر الأقوال الأكثر امتاعاً للواقعيين القائلين بمركزية الدولة: “أن الدول تضع قواعد اللعبة لكل من عداها، وعندما تكمن قوة الدول في ترسانات من القوى العسكرية التي تتحكم بها جهات فاعلة أحادية ومنسجمة، فإن أي زعم بأن الدول في حالة انكفاء لتعاظم نفوذ الشركات الخاصة أو لتطور قوى السوق بوجه عام يتعين مقابلته بتشكيك قوي. والجواب السريع للواقعيّين هو أن الأسواق والشركات تتطور لأن الدول تريد منها ذلك، وعندما يحين وقت السحق، ويلوح صراع عنيف في الأفق مجدداً (وهذا ما سيحصل دائما في مرحلة ما) تظل قبضة الدول شديدة، خصوصا الدول القوية منها”.
الجماعة: بحسب التصنيف التقليدي للدولة القومية، فإنّها تبنى على نوعين من الجماعات: جماعة المواطنة: المعنية بالعلاقات بين المواطنين والدولة (وهذا يشمل الحقوق والواجبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية)؛ وجماعة الوجدان: ونعني بذلك جماعة تشترك في اللغة والهوية الثقافية والتاريخية المبنية على المؤلفات الأدبية والأساطير والرموز والموسيقى والفنون وما إلى ذلك. ويتساءل سورنسن في غمار الجدل القائم، هل هذان النوعان من الجماعات في طور التحول؟
يستعرض سورنسن التحوّلات في جماعة المواطنة على المستوى الإقليمي والوطني المحلي: إذ يشكل الاتحاد الأوروبي الحالة الإقليمية الأهم والأوضح في حالات التحوّل، فقد أسست “مواطنة الاتحاد الأوروبي” مع توقيع معاهدة “ماستريخت” عام 1992، ويتمتع مواطنو الاتحاد بحق العمل والإقامة والضمان الاجتماعي في جميع دول الأعضاء، بالإضافة إلى حق التصويت والترشح في انتخابات البرلمان الأوروبي وغيرها.
على المستوى الوطني، يستدعي سورنسن دراسة “حدود المواطنة” للباحثة التركية ياسمين سويسال حول العمال الوافدين إلى ألمانيا، التي وجدت أنهم يشاركون في النظام التعليمي، وفي البرامج الاجتماعية، وفي أسواق العمل. وهم يلتحقون بالنقابات التجارية ويشاركون في السياسة عبر المساومة الجمعية والنشاط الترابطي، بل يقترعون في الانتخابات المحلية أحياناً. وهم يمارسون حقوقاً وواجبات بالنسبة إلى النظام الحاكم والدولة المضيفة، لكنّهم لا يمثلون جزءاً من الهوية الوطنية للبلاد، وترى سويسال في ذلك تحول المواطنة نحو “عضوية ما بعد وطنية” بناء على حقوق الإنسان العالمية، وليس على الحقوق الوطنية النابعة من مواطنة قومية مشتركة وجماعة قومية ذات وجدان. معتبرة أنَّ الحقوق تأخذ على نحو متزايد طابعاً عالمياً وانتظاماً قانونياً وتجريدياً، وهي معرفة على الصعيد العالمي. في المقابل، لا تزال الهويات تعبر عن خاصية، وهي تعتبر مؤطرة إقليمياً. وبلغة سورنسن، تشير العملية إلى فصام بين جماعة المواطنة من ناحية، وجماعة الوجدان الثقافية التاريخية من ناحية أخرى، بينما كان هذان العنصران متشابكين بإحكام في العمليات التاريخية السابقة لتكوين الدولة القومية. كما أن أحد التحديات الإضافية لجماعة المواطنين يُعنى بما يسميه الباحثون ممارسة “المواطنة من دون روابط مثبتة”.
وهنا يتسائل سورنسن: كيف نفهم هذه التغيرات في سياق جدل أوسع في شأن تحول الدولة؟ يجادل القائلون بـ”الانكفاء” أنه مع تحول كيان الدولة، تصبح الدولة ضعيفة بسبب توهين الصلة بين الدولة وشعبها؛ وتتسع الولاءات في اتجاهات جديدة وتبرز مصادر إضافية للمواطنة. ويرى القائلون بمركزية الدولة أن كیان الدولة يبقى قويا في ناحيتي “جماعة المواطنين” و”جماعة الوجدان”، وأن الرابط بين الدولة والشعب لا يعتريه وهن شدید. فيما يرى سورنسن أن هذه التحولات التي تعتري الجماعة لا تُضعف الدولة كونها لا تُوهن بدرجة كبيرة الانتماءات إلى الهُويات الوطنية.
السيادة: يرى سورنسن أنَّ الاستقلال المؤسساتي هو الجوهر القانوني للسيادة، ولكن السيادة تزيد على ذلك، فهي مجموعة من القواعد التي تنظم طريقة أداء الدول في “لعبة السيادة” وكيفية إدارة العلاقات فيما بينها، والمبدآن التنظيميّان في لعبة السيادة الكلاسيكية: مبدأ عدم التدخل، ومبدأ المعاملة بالمثل. ولكن العديد من الباحثين رأوا أن “تغيّراً طرأ على جوهر الدول لأسبابٍ، أقلها العولمة. وبحسب هؤلاء، باتت الفرصة المتاحة للدول أقل اليوم لضبط وتنظيم ما يجري في داخل حدودها أو خارجها، مثل الاتصالات الإلكترونية، ووسائل الإعلام، والتدفقات المالية العالمية، والمشكلات البيئية العابرة للحدود، والشركات العالمية المتعددة الجنسية. ذلك كله يعنى أن الدول تخضع لعملية انتقال تتجاوز السيادة أو انتقال نحو “غسق السيادة”.
أمّا المشككون بهذا الطرح، فيعتبرون أن فكرة “غسق السيادة” مبنية على خطأ تصنيفي. فالسيادة مؤسسة شرعية، تشمل الاستقلال المؤسساتي والقواعد التنظيمية. وعندما يجادل بعض الباحثين أن السيادة في طور الأفول نظراً إلى تقلص الفرص المتاحة للدولة كي تمارس السيطرة، فهو يرتكب خطأ تصنيفياً بدمج قضية جوهر الدولة في قضية المؤسسة الشرعية للسيادة.
يخلص سورنسن إلى أن تحول كيان الدولة يوفر للباحثين قائمة ضخمة جديدة من التحديات التحليلية والجوهرية. وبرأيه يجب مواصلة تطوير المقاربات التقليدية لمواجهة الوضع الجديد. وهناك أسئلة كبيرة وكثيرة تتطلب أجوبة أفضل من الأجوبة التي توصل إليها الباحثون (وصناع السياسة) إلى الآن. وهذا يعني أن مسألة تحول الدولة وعواقبه ستحتل مكانة بارزة في أجندتنا التحليلية مدة طويلة من الزمن.
خاتمة
إنّ اتّساع وتنوّع المقاربات التي تضمنها كتاب “الدولة: نظريات وقضايا” قادنا إلى الاقتصار على عرض بعضها، وهي جميعاً تدرس جوانب “التحول” في الدولة الحديثة ونظرياتها، وتظهر قدرة الباحث الغربي على مواكبة هذا التحول الذي يضرب ويهدّد كيان الدولة الحديثة التقليدي، وبينما ينشغل هذا الباحث في الإجابة عن أسئلته، يبقى علينا نحن العرب أن ننشغل في الإجابة عن تحديات بناء الدولة الحديثة في العالم العربي.. إذ إنَّ خوض الغرب لتحديات تحول الدولة، يجب أن لا ينسينا أننا لم نشهد دولة حديثة حقيقيّة بعد!!