للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، بعد أوسلو، تنفتح كافة الجبهات الفلسطينية على مقولة فلسطين التاريخية من بحرها إلى نهرها، وكأننا عشية محرقة العصر المستمرة منذ أكثر من سبعة عقود من الزمن ويزيد، الفارق الوحيد أن المجابهة اليوم، هي مجابهة بالأصالة وليست بالوكالة أو الإنابة. فمن يقود المجابهة الفلسطينية هم الفلسطينيون بأنفسهم وأيديهم وليس من خلال جيوش ادعى قادتها طويلاً أنها تحارب لأجل فلسطين. والفارق الآخر وربما الأهم هو فارق الوعي الفلسطيني والعربي الذي اكتشف مع مرور الوقت كيف احتلت فلسطين في عام النكبة، ولماذا اسمينا الهزيمة نكسة، وكيف وظفت كل أدوات الحداثة لتغييب فلسطين الفكرة عن الوعي الفردي والجماعي للشعوب العربية، بل وللشعب الفلسطيني نفسه.
في الداخل المحتل، وكنتيجة طبيعية لحالة التيه أو الارتباك، التي تلبست مفهوم الهوية بعد عقود من محاولات المحو حيناً، والأسرلة حيناً آخر، والتذويب والاندماج أحياناً، لم يجد الفلسطيني بداً من عبور الخيار الاجباري، خيار مجابهة الواقع عبر العمل الحثيث على إثبات النسب، نسب الجيل الجديد لهذه الأرض وشعب هذه الأرض، هذا النسب الذي لم ينكره الآباء والأجداد يوماً ولم يفكر أيٌّ منهم بالتخلي عنه لحظة، ولكن الظروف، كل الظروف المحيطة هي التي تكالبت عليهم فدفعتهم لتأجيل المجاهرة بخياراتهم إلى حين، وها قد آن الأوان، أوان الجهر بأن العلاقة بين فلسطينيي الداخل المحتل وكافة مكونات الشعب الفلسطيني، هي علاقة تكامل لا تفكيك، علاقة وصل لا ولم ولن تقبل أن تكون علاقة فصل، علاقة وحدة المستقبل والمصير. وهنا تكمن أولى المعادلات الجديدة التي دخلت على خط المواجهة، لا لتضيف معادلة جديدة على مشهد الصراع وحسب، ولكن لتعيدنا إلى أصل الحكاية وجذورها، حكاية فلسطين الشعب المشتت والأرض المغتصبة.
هذا التحول النوعي ساهم ويُسهم في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، وبفاعلية ملموسة في تشكيل حركة وطنية جديدة بوعي جديد، وعي راح يتحرر باندفاع ملحوظ من بيت طاعة سلطة الحزب أو الحركة، وخُرجه الأيديولوجي أو الديني أو الطائفي، كما هو وعي بدأ بفهم ماذا تعني لنا وللأمة وللإنسانية جمعاء مكانة القدس، ولا ينتهي برفض التمييز بينها وبين مكانة يافا أو حيفا أو الناصرة، فالكل سواء على سطر فلسطين الطويل، من رأس الناقورة شمالاً وحتى قرية أم الرشراش جنوباً، ومن نهر الأردن شرقاً إلى البحر الأبيض المتوسط غرباً. إنها فلسطين في كتب التاريخ الأولى لا المزيفة، فلسطين الإنسان مسلماً كان أم مسيحياً أم يهودياً ولكن بكل تأكيد ليس ذاك الصهيوني المستعمر الغريب.
هو تحول نوعي، ليس فقط لصالح فلسطين وقضيتها العادلة، ولكنه قصر الزمن أم طال، سيكون اللبنة الأولى لتحول عربي وإسلامي غاب طويلاً بفعل فاعل، وهو تحول يخط الإجابة الأمثل لسؤال إدوارد سعيد حول حرف العطف “و” الكامن في عبارة “فلسطين ومستقبل العرب”، دون ادعاء لأية شاعرية أو تراجيديا في الأقوال أو العناوين، فالأمة العربية في عقودها الأخيرة، دخلت أروقة نفق شوه كل معالم الطريق المحلي والإقليمي في آن، لتشكل ثقافة الهزيمة لحظة اختلال فكري للإنسان العربي، وبوصلة منحرفة للمغلوب في نظرته للغالب، لتنشغل شعوب الأمة في كل فتنة ظاهرة ومضمرة. فتبدد كل ما تبقى لها من معانٍ للوجود.
إن تأملاً سريعاً في بلاغة الأحداث على الأرض اليوم ومهما كانت النتائج في المنظور القريب، يستدعي كل الثنائيات المقترحة إلى طاولة التشريح، ما حاجة الشعب الفلسطيني لظاهرة الحركات والفصائل والأحزاب إن لم تتوحد اليوم وليس غداً؟ ولمن اقترح مساراً للسلام سمي “أوسلو” ألا يرى أنه بات عبئاً وجب التخلص منه فوراً؟ ومن ارتبط بأجندات إقليمية استسلمت مبكراً لمحتل مدّع أن الوقت قد حان ليتحرر من وصاية منْ حاول بإرادة واضحة أو خوف مستتر، تأبيد الاحتلال؟ ما معنى أن نكتشف هشاشة هذا الكيان الغاصب وما نزال نتساءل لمن ستكون الغلبة، لمن يملك حق القوة أم قوة الحق؟ ولماذا لم نفهم مبكراً مقولة الجغرافي المصري الراحل جمال حمدان وهو يشير لنا وللبشرية جمعاء إلى حقيقة أن “الجغرافيا تاريخ متحرك، والتاريخ جغرافيا ساكنة”، ما يعني أن لا قوة على سطح الأرض يمكنها أن تطوع الجغرافيا أو تزور التاريخ وتطرد أصحابهما الأصليين إلى الأبد بأي وسيلة كانت مهما طال الزمن؟
أخيراً، إن كان الموتُ هو الحقيقة الوحيدة التي لا يُمكن أن يُنكرها الإنسان، فإن الهوية في حياة الفلسطيني كالبصمة الوراثية، هي الدلالة الواضحة لمن يكون، في زمن يُعرفه قاموس الفعل المقاوم بأنه اسم لقليل الوقت وكثيره معًا، إلاّ أننا يمكن أن نضعه مبدئيًّا في سياق الإحساس الجماعي لعوام الناس كافة، على توالي الأحداث بشكل لا رجعة فيها أو عنها.
ما يدفعنا للمنظور الإدراكي لما يدور اليوم على طول البلاد وعرضها، والذي يشير بشكل واضح لا لبس فيه، إلى تغيير ملموس في معالم المواجهة بين الجيل الفلسطيني الشاب، والكيان الإسرائيلي المسخ، على مستويات عدة ستأخذ أبعادًا لا أظنّ أن صانع القرار في دولة الاحتلال قد وضعها ضمن مخططاته وحساباته المسبقة.
في هذا الزمن الفلسطيني الفاعل، ولأن قوة الدفع اليوم هي قوة جيل لم يستسلم لغول استعماري متوحش، ولا للغة خشبية وظيفية، وتحديداً في القدس كما في الضفة والقطاع، ومن قبلهما وبعدهما في الداخل المحتل، أدرك الفلسطيني بفطرته السليمة ووعيه الحي، أن عقارب الزمن الفلسطيني لا يمكن أن تتحرك إلا وفق تقويم ذاتي لا يعمل إلا بإرادة فلسطينية خالصة، وفعل مؤمن يملك الذاكرة ولا ينسى الحاضر ليصنع مصيره بيده فيخط الجملة الأولى له ولغيره من العرب في درس هزيمة الهزيمة، وهو يسجل فلسطين حين تكتب تاريخها الممتد على جغرافيتها الصامدة.