باعتذار مقتضب وجلد للذات يظهر به خجله من كونه شريك بدفن الحقيقة، ينشر أحد العاملين في قناة “دويتشه فيله” الألمانية منشوراً على حسابه الشخصي في الفيسبوك “أعتذر عن الكتابة بخصوص الشأن الفلسطيني، لذلك مضار كثيرة علي، بإمكانك تسميتي جبان، خانع، مصلحجي، الخ. تعودت أن أكتب الحقيقة. ولكني لا أريد الانتحار”.
عرف هذا الصحفي بانتقاده للظلم والقمع حتى بدا أنه قلب الحقيقة النابض، وصوت الحرية الصارخ في كل مكان. إلا أنه عند الوصول إلى القضية الفلسطينية يتوقف نبض ذاك القلب وتشل حباله الصوتية. لربما يعتبر موقف الصحفي المذكور يتماشى مع موقف القناة العامل بها والالتزام بتعليماتها، إلا أن هذا لا يعكس كامل موقف القناة، ففي حين اكتفى هو بالصمت والنأي بالنفس، ذهبت “الدويتشه فيله” إلى أبعد من ذلك؛ حالها حال باقي القنوات الأوروبية عموما والألمانية خصوصاً؛ ولم تكتف بتشويه الحقيقة واللعب بالمصطلحات وإنما تحولت إلى سلاح بيد السياسيين لترهيب المواطنين ومن يسمون بالمواطنين الجدد “اللاجئين” وعلى وجه التحديد الداعمين منهم للقضية الفلسطينية. ترهيب انعكس واضحا بكلام الصحفي معبرا عنه بـ “الانتحار” ونعت نفسه بـ “الجبان، الخانع، المصلحجي ….”.
إن تغطية وسائل الإعلام الأوروبية وخاصة الألمانية منها للمظاهرات التي عمت أرجاء العالم حاولت إخراجها من جوهرها وسياقها الداعم للقضية الفلسطينية والرافض لجرائم الاحتلال وسياسات التطهير العرقي والفصل العنصري بحق الشعب الفلسطيني على كامل التراب الفلسطيني. فالكثير من القنوات الإعلامية والسياسيين الأوروبيين حاولوا تصوير المظاهرات الداعمة لفلسطين على أنها مظاهرات وأصوات معادية للسامية. لا بل إن العديد من السياسيين الألمان ذهبوا أبعد من ذلك بالإيحاء أن معاداة السامية الأوروبية قد ولت أو أنها؛ على أقل تقدير؛ لا تشكل تهديدا مجتمعيا حقيقياً، فمعاداة السامية الآن أتت مع المهاجرين الوافدين الجدد إلى ألمانيا، لم يقتصر الأمر على سياسيي الأحزاب اليمينية أو الوسط بل تعداه إلى معظم تيارات وأحزاب اليسار، فرغم تصدر هذه الأحزاب الواجهة في الدفاع عن كافة الحقوق المنتهكة في العالم من العنصرية بمختلف أشكالها سواء العرقية منها أو الجندرية وغيرها مروراً بمعاداتهم للرأسمالية وتحميلها مسؤولية تدمير حياة العمال والصراع الطبقي وتدمير المناخ ووصولا الى حق الحيوانات بطرق آمنة وجسور يتنقلون بها ضمن الغابات، يختفي الحق الفلسطيني عن هذه السلسلة التضامنية الطويلة، ويحل مكانه “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. في المانيا يجتمع أقصى اليمين مع أقصى اليسار على هذا الحق ويعلن الجميع استمرارية عملية التطهر من الماضي لا بل تحميل الماضي الألماني على عاتق المهاجرين، حيث توحي التصريحات المختلفة من أن معاداة السامية جاءت مهاجرة الى ألمانيا.
إن هذه التهمة كما بات معروف وليس بالجديد تشكل الأرق الأكبر في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية للعاملين بالمجال الأكاديمي والإعلامي والسياسي، فالتلويح بها فقط بوجه الخصوم كفيلة بالتأثير إن لم يكن القضاء على المستقبل المهني، وفي ذلك أمثلة كثيرة، ولعل آخرها الضغط على آيتين أرديل ترك منصبها في مجلس إدارة الحزب الحاكم في ألمانيا حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي إثر منشور لها على فيسبوك دافعت به عن الفلسطينيين واتهمت الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب. وكما أن العديد من الإعلاميين العالمين الذين تضامنوا مع القضية الفلسطينية على دراية بالتبعات المحتملة إلا أن الكيل قد طفح. وعلى سبيل المثال الإعلامي الجنوب افريقي تريفور نوح الذي أعلن تضامنه مع فلسطين رغم تيقنه من أثر ذلك السلبي على وضعه المهني.
وبسبب موجة التضامن العالمية الواسعة والتي استطاعت إثبات وجودها وبقوة على وسائل التواصل الاجتماعي رغم سياسات القائمين على هذه المواقع من تقييد وحذف وتجميد حسابات كل ما من شأنه أن يدعم القضية وينشر الحقيقة، ما دفع الإعلام التقليدي والسياسيين الأوروبيين توسيع حملتهم لتشمل مختلف الفئات الشعبية وتحديدا الداعمة للقضية او التي بدأت تأخذ موقف المتشكك من القيم الأوروبية ولعل الطرف الأكثر تضرراً هم شريحة المهاجرين واللاجئين التي مورس ويمارس بحقها الكثير من الضغط النفسي والاجتماعي والسياسي، وتم إجبارهم على الدخول بعمليات طويلة من إعادة الهيكلة الفكرية عن طريق ما يسمى دورات الاندماج، دورات قال عنها المسؤولين الألمان أنها ستلعب دورا مهما بوضع الإقامة القانوني للاجئ أو المهاجر، من حيث منح الإقامة الدائمة، أو تمديد الإقامة الحالية، أو الترحيل. والآن يلوح العديد من الساسة الألمان بحزمة عقوبات مبهمة من حيث نمط العقوبة ودرجتها وأركان الجريمة المستهدفة بالعقوبة. وأكثر العقوبات التي يتم الترويج لها إعلاميا ومجتمعيا هي العقوبات الماسة بوضع الإقامة القانوني للاجئ، والتهديد بإمكانية الحصول على الجنسية الالمانية.
فذهب الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري في هذا الاتجاه وطلب من الولايات الألمانية بحث حظر المظاهرات الداعمة لفلسطين في المستقبل. حيث قال رئيس الكتلة البرلمانية للحزب، ألكسندر دوبرينت، “عندما يكون من المتوقع حدوث معاداة السامية، وحرق أعلام، وترديد شعارات كراهية، فإن هذه بوضوح جرائم جنائية متوقعة تبرر حظر هذه المظاهرات”. وأضاف “إنه إذا كان المتورطون يحملون الجنسية الألمانية أيضا، فيجب أن يكون السؤال هو كيف أمكنهم الحصول عليها في الأساس”
كذلك كانت التهديدات من قبل وزراء الداخلية للولايات الألمانية وعلى رأسهم وزير الداخلية الاتحادي هورست زيهوفر الذي توعد بإجراءات صارمة لمواجهة أي مظاهر لمعاداة السامية “لن نتسامح مع حرق الأعلام الإسرائيلية على الأراضي الألمانية”.
وأضاف الوزير الألماني: “من ينشر كراهية معادية للسامية، سيواجه أشد درجات صرامة سيادة القانون” إلى أن سياسة الترهيب وصلت الى حد التلميح أن المتظاهرين الغاضبين ما هم إلا إرهابيين “ألمانيا يجب ألا تكون ملاذاً آمناً لإرهابيين”.
وكما جرت العادة في الكثير من الدول حول العالم، لا بد لسياسات الترهيب من أن تترافق معها أو تتبعها سياسات الترغيب. ومن أفضل من الرئيس الألماني شتاينماير من لعب هذا الدور حيث دعا؛ خلال حفل أقيم في قصر بيليفو الرئاسي؛ المهاجرين واللاجئين السعي للحصول على الجنسية الألمانية الضامن الوحيد لحصولهم على حقوق متساوية مع باقي المواطنين. إلا أنه لا يمكن أن يفوت مثل هذه مناسبة للتذكير دائما بضرورة الانتباه والابتعاد عن معاداة السامية والإيحاء بشكل مباشر أو غير مباشر على أنها أحد شروط الحصول على الجنسية، شرط لا يفهمه معظم المقيمين في ألمانيا من المواطنين او المهاجرين، حيث يتم الترويج لمعاداة السامية على أنها معاداة لإسرائيل أو الصهيونية وهذا لا يتفق مع الدستور والقانون الألماني. في ألمانيا خرج الآلاف بمظاهرات في مختلف المدن الألمانية، ولربما حصلت بعض التجاوزات التي يمكن عدها على أصابع اليد الواحدة وندرك ذلك من طريقة الإعلام الألماني بوضع أصغر خرق؛ وأحياناً أحداث لا تشكل خرقا حسب القانون الألماني؛ تحت المجهر. حيث كان المتظاهرون حذرون من أي تجاوز للقانون الألمان القائم على حرية الاعتقاد وعدم التعرض للغير في ممارسة شعائره الدينية، فإن موقفه من معاداة السامية (في حال حصرها باليهود) لا يختلف عن رفضه لمعاداة أي ديانة أخرى، وهذا يعني أن قيام أي شخص بالتعرض لأي دين فيه مخالفة للدستور الألماني ولقانون العقوبات. حيث تنص المادة ٤ الفقرة ١ من الدستور على: “لا تنتهك حرية العقيدة وحرية الضمير، ولا حرية اعتناق أي عقيدة دينية أو فلسفية.”
ولفهم هذه المادة بشكل أفضل لابد من العودة للمادة ١٣٠ من قانون العقوبات “يعاقب بالسجن مدة تتراوح بين ثلاثة أشهر وخمس سنوات، من يقوم بطريقةٍ ما بالإساءة للسلم العام عن طريق بث الكراهية ضد أي مجموعة قومية أو عرقية أو أي مجموعة سكانية عن طريق إجراءات العنف العنصرية، أو الاعتداء على كرامة الآخرين بسبب انتماءاتهم الخاصة” لذلك أيضا وبحسب القانون لا تقع الهتافات المناهضة للاحتلال الإسرائيلي تحت هذه المادة على كون “اسرائيل” دولة بحسب القانون الألماني وليست مجموعة بشرية في ألمانيا. وكما أن القول بحرق العلم الاسرائيلي معاقب عليه في القانون الألماني، صحيح في حال كان مرفوعا على سارية السفارة أو القنصلية ، وهذا لا يشمل العلم الذي يحضره معهم المتظاهرين إلى المظاهرة إلا في حال اشترطت الشرطة على منظمي التظاهرة عدم إشعال الحرائق بداعي الأمن العام.
على مايبدو إما أن الساسة الألمان يجهلون القانون الألماني أو انهم يعرفونه جيدا إلا أنهم يحاولون تجاهله أو تشويهه.
ربما ينسب البعض السياسة الألمانية تجاه القضية الفلسطينية إلى التاريخ الألماني الكارثي المسؤول عن الكثير من الإبادات الجماعية وتحديداً المحرقة التي كانت إبادة جماعية بحق اليهود. إلا أن مثل هذه المحرقة لم تحصل ضد اليهود في دول أوروبية أخرى كفرنسا على سبيل المثال والتي احتلتها القوات النازية لفترة من الزمن أيضا، ورغم غياب المبرر الألماني في فرنسا إلا أن الحكومة الفرنسية ذهبت بعدائها للفلسطينية مستويات أعلى وصلت حد التضارب المباشر مع الدستور الفرنسي ومنعت التظاهرات الداعمة لفلسطين والمنددة بالاحتلال.
دافع الحكومات الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية الاستبسال بالدفاع عن السياسات الإسرائيلية ضمن ما يسموه “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” مبني ليس على الماضي كعقدة ذنب تجاه الإبادة بحق اليهود وإنما على استخدامهم كأداة استعمارية وهذا بحد ذاته استمرارية لعدائهم لهم كيهود. إن هذا الدعم يعتبر جزء من الحاضر والمستقبل كتركيبة بنيوية عنصرية واحدة لا تمانع نهائياً إبادة الشعب الفلسطيني. ولذلك لا يعد تصريح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس؛ “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها يشمل الحق في مهاجمة البنية التحتية التي يمكن أن تنطلق منها الهجمات في المستقبل”؛ خارجا عن المتوقع ورغم ابتعاده عن الأعراف الدبلوماسية، واعتبار قصف الاحتلال جرائم حرب بحسب الكثير من المنظمات الحقوقية الدولية، “هيومان رايتس ووتش” مثالاً.
قد وصل مصطلح معاداة السامية الذي أنتجته أوروبا، وتحور مفهومه ضمنها، ليتحوّل إلى معاداة الفلسطينية.