يستأنف هذا المقال النقاش حول المسرح ووباء كوفيد-19 وعلاقتهما مع المستجدات السياسية والثقافية في فلسطين. إن العديد من الأحداث التي تمت بين شهري أيار وتموز من هذا العام عززت تداخل الأزمان الفلسطينية التي تحدثنا عنها في المقال السابق، والتي تشكل جميعها زمن الجائحة. فهبة أيار لمنع الاحتلال الاستيطاني من تنفيذ التهجير القسري لحي الشيخ جراح وحي سلوان في القدس، ومقتل الناشط نزار بنات على خلفية منع حرية التعبير، وما تلاها من فضيحة اللقاحات منتهية الصلاحية والهبة ضد سلطة الحكم الذاتي في الضفة وتبعها العديد من اعتقالات، جميعها تزامنت مع تراجع أعداد الإصابات بفيروس كورونا، بالإضافة إلى ثباتها نسبيا في مخيمات الشتات الفلسطيني، ولكن مع ظهور حالات من الإصابات بمتحوّر ديلتا الذي ينبئ بموجة قادمة للوباء. تداخلت هذه الظروف السياسية أيضا مع هبة شعبية ومؤسسية لإعادة امتلاك المساحات العامة للمشاركة سياسيا وثقافيا وزراعيا ومجتمعيا في تعزيز الصمود الشعبي والاقتصادي والثقافي أمام أشكال التسلط والاحتلال. ولفهم هذا التداخل في الأزمان الفلسطينية مع زمن الجائحة، نستكمل في هذا المقال محاكاتنا لمداخلة باروخا، حين تناول الانفلونزا الاسبانية حيث بقيت المسارح مفتوحة لتلبية ظروف متعلقة بزمن الجائحة على الرغم من فتك الوباء، كما نحاكي تناوله لمقال أرتو عن المسرح وعلاقته بالطاعون. ونستفيد من تساؤلات باروخا لنقاش حال المسرح في زمن الجائحة في الفترة بين شهر آذار وتموز في فلسطين.
يلقي باروخا نظرة على التأريخ المتعلق بالإنفلونزا الإسبانية التي فتكت في العالم بين 1918 و1920، وأصابت 500 مليون شخص على مدار أربع موجات متتالية. وقدّر عدد ضحاياها بين 50 إلى 100 مليون شخص، متجاوزًا عدد ضحايا الحرب العالمية الأولى. فأول تفشٍ لها كان في عام 1918، ولم يتم اكتشافها في اسبانيا، بل في الولايات المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا. ولكن بسبب الحرب، أخفيت بصورة مؤقتة معلومات عن تفشيها في هذه الدول من أجل تجنب إحباط الجيوش- تماما كما لاحظنا سياسات التعتيم حول انتشار فايروس كورونا في بعض الدول خلال عام 2020. وعندما وزاد الحديث عن هذه الأنفلونزا بعد إصابة الملك الإسباني، أطلق على المرض مسمى “إنفلونزا إسبانية”. وعرفت الأنفلونزا ذاتها بالعديد من الأسماء الأخرى مثل إنفلونزا بومباي، التي انتشرت عن طريق الجنود المصابين الذين عادوا إلى بومباي وكراتشي بعد الحرب. وبعد استعراض ظروف تفشي الانفلونزا، يقارن باروخا بين المسرح في زمن الإنفلونزا الإسبانية، والمسرح أثناء الطاعون وأثناء جائحة كورونا، مبينا أثر هذه الأزمان على إغلاق المسارح، ويستخلص من هذه المقارنات عدة تساؤلات نفهمها على أنها نظرة إلى المسرح كحاجة إنسانية للترفيه في زمن الإنفلونزا الإسبانية، وكحاجة إنسانية للتغيير كما في زمن الطاعون، وفي ظل الجائحة الحالية. وفي ضوء مقارناته نذهب لنقاش التساؤل المتعلق بإمكانية فهم الحاجة للمسرح أثناء جائحة كورونا في فلسطين.
المسرح كحاجة للترفيه
يطرح باروخا موضوع الأنفلونزا الإسبانية لتسليط الضوء على أن واقعا بهذا الفتك لم يؤد إلى إغلاق المسارح في تلك الفترة. ويقدم مواد حول لندن وبومباي من بعض المؤرخين لفهم فيما إذا توقفت الحياة الثقافية في هذه المدن خلال الجائحة أم لا. وتبين له أن بعض الحكومات أوصت بالإغلاق مع التهديد بعقوبات إلا أنها لم تنفذها. ففي لندن عام 1918 سادت دعوات للتباعد الاجتماعي وراجت تدابير الحماية على شكل حملات إعلامية صحية عامة، بالإضافة لتقييد استخدام أنظمة النقل العام، وحظر التجمعات وفرض الحجر الصحي في الموانئ ومحطات السكك الحديدية. ويجد أنه بالرغم من هذه الظروف ظلت المسارح مفتوحة. وفي الهند يعود للمؤرخ ديفيد أرنولد حيث وصف انهيار الخدمات العامة في المدن في عام 1918: “توقفت المواصلات والخدمات البريدية، وتراجعت المصانع والسلك القضائي حيث كانت القوى العاملة مريضة وتحتضر في كالكوتا ومومباي ولم تكن قادرة على العمل”، وفي ظل هذه الظروف ظلت المسارح مفتوحة أيضا. لذا يتساءل: “في ظل هذا الانهيار لأغلب الميادين المدنية والاجتماعية، كيف بقيت المسارح والسينما في لندن وبومباي وكالكوتا مفتوحة، وتابعت الصحف على الترويج لعروضها؟”
لم يجد باروخا دليل أرشيفي واضح حول إغلاق المسارح بسبب الانفلونزا، إلا أن هناك أدلة على إغلاقها بسبب الكوارث الطبيعية مثل الأعاصير والعواصف الثلجية، والانقطاع الكهربائي وتسونامي، وأثناء الاضطرابات السياسية كما في 11 سبتمبر. فيستنتج أن غياب الأدلة على وجود قيود مدنية من قبل الدولة على المسارح في لندن أثناء الحرب يعود لاستخدام المسرح للتشجيع على أشكال ما يسمى بـ “الترفيه من أجل الهروب” مستندا إلى كريفان ايدج في أن المسرح سعى لطمأنة ورفع المعنويات بين العمال والجنود الذين شكلوا أغلبية الحضور، مما يوضح ما أراد الناس رؤيته في حالات الطوارئ. فمثلا يذكر أن إحدى جوقات النساء الكوميدية والمبنية على علي بابا والأربعين لصًا قد استمر عرضها لما زاد عن 2238 عرضًا خلال الحرب منذ 1916 ومر بالأنفلونزا الإسبانية. ومن نظرة عامة بعنوان “من الأوبئة إلى التطهيريين: عن إغلاق المسارح عالميا وتعافيها” لكلارك وسمورثويت، يبين باروخا أن واقع النظافة مدعومًا بأنظمة تهوية وتطهير جديدة وفرت ثقة كافية بإدارة المسرح من قبل الجمهور العام، أنه بإمكان المسارح مواجهة خطر الإصابة بالأنفلونزا الإسبانية. فمثلا أوجدت توجيهات صحية عامة تتعلق بإخلاء القاعات بالكامل لمدة 10 دقائق كاملة بين العروض وفي الاستراحات، كما قامت بعض المسارح في العام 1918 بتركيب نظام رذاذ قاتل للجراثيم بعد كل عرض.
بالإضافة لسياسة الترفيه الهارب، تعالت في وقت لاحق أصوات ناقدة عدة كبيرنارد شو في عام 1937، حين قال: “إننا ممتنون جميعًا في مناعتنا ضد الأوبئة القديمة إلى مهندس الصرف الصحي وإلى أشعة الشمس والهواء النقي والصابون. فلا يحق لأحد، ومن الغباء أن يتم إغلاق المسارح الآن”. وساهم هكذا نقد أثناء الحرب العالمية الثانية في عدم إغلاق المسارح لأكثر من أسبوع. ويضيف باروخا “بالتأكيد لا توجد تقارير عن أعداد كبيرة من الإصابات أو الوفيات من بين المجتمع المسرحي سواء الممثلين أو الجماهير خلال زمن الإنفلونزا. كل ما وصلنا هو وجود احتجاج عام شمل جميع قطاعات صناعة المسرح. أجمع هذا الاحتجاج على أن المسارح يجب أن تظل مفتوحة لكسب الرزق للعاملين في المسرح والدور المعنوي الذي يوفره الترفيه.” ثم ينتقل باروخا لطرح تساؤل آخر بعد مرور ما يقارب السنة على وباء كورونا، وبعد شح البيانات أو التصريحات عن الاتحادات المسرحية في العالم التي تثير نفس القناعة بضرورة المسارح كحاجة إنسانية: “هل الافتقار الأساسي للوعي بتأثير الانفلونزا الاسبانية هو الذي مكّن مجتمعات المسرح من الاستمرار في العرض، أم هل اختار فنانو الأداء والجماهير بوعي قبول المخاطرة في الذهاب إلى المسرح؟ وما هي اللحظة التاريخية التي نجحت اليوم في جعل أغلب العاملين في المسرح والمخرجين والممثلين والفنيين والمتفرجين يؤيدون إغلاق المسارح من جانب واحد؟ وما الذي يجعل إجماعهم كانصياع لقوانين الدولة؟”
إحدى إجاباته المحتملة المتعلقة بالأنفلونزا والحرب هي أن الناس بعد أن نجوا من الدمار الذي خلفته الحرب لم يعودوا مستعدين لقبول حالة الإرهاق من جديد. فكانوا بحاجة إلى استمرار أشكال الحياة، حتى لو كان هذا يعني قبول احتمالية الموت المستمر بسبب الانفلونزا. ويرى أنه بالنسبة لفايروس كورونا، فعمليا بالإمكان تبرير هذا الإغلاق جزئيًا بسبب توفر البدائل التكنولوجية. فقد توفرت منصات إلكترونية مرتبطة بالإنترنت، والهاتف الذكي، وزووم، تعتبر جميعها وسيطاً آمنا للأداء. ولكن على مستوى وجودي، يمكن أن يُعزى إغلاق المسارح اليوم إلى الإفراط في الحذر أو الخوف المرتبط بالكم الهائل من المعلومات التي وصلتنا بسهولة عن هذا الوباء وعززت من خوف الإصابة لدينا. فما تعلمناه ولا زلنا نتعلمه يوميا عن فيروس كورونا تقريبًا لم يؤد إلى الوضوح، بل إلى الارتباك، الذي يفسر على شكل استسلام شبه كامل إلى صنم الوقاية حتى مع استمرار الغموض والتناقض في العديد من هذه الإجراءات. وهنا، لا يقترح باروخا أن يقتحم العاملين في المسرح المباني، ويحتلوا مساحاتها الخالية ولا يدافع عن تنظيم العروض السرية، بل يؤكد فكرة أنه يجب فهم مبررات المغامرين في تنظيم حفلات خلال جائحة كوفيد 19 حيث يمكن أن تكون إمكانية الإصابة بالعدوى والموت حتمية بعد المشاركة. إضافة لذلك فإن فهمه للحفلات التي شاهدناها عبر وسائط الإعلام التي تتحدى الفايروس وتدابيره، هو أنها أفعال نرجسية وتتسم باللامسوؤلية الاجتماعية. إلا أنه من ناحية أخرى يشدد على أنه لا يؤيد نوع التضامن الذي يؤدي بدعاة الاشتراكية والديمقراطية للسير في نفس المسيرات الاحتجاجية مع المتظاهرين اليمينيين المطالبين ضد جميع أشكال التباعد الاجتماعي. وبالتالي يخلص إلى طرح حول الحاجة إلى تقييم حقيقة إغلاق المسارح وعدم قبول هذه الحقيقة فقط دون إخضاعها للنقد الجاد والبحث عن ممارسات بديلة فيقول:
“ما هي لحظة الإغلاق هذه التي نتواطأ فيها جميعًا، ولماذا سمحنا بتضليل رغباتنا في الاحتجاج بأن يتم تصنيفها بمقابل الطاعة المدنية العالمية؟” ولماذا قبلت صناعة المسرح في جميع أنحاء العالم شرعية إغلاقها فيما بان بأنه طاعة مدنية عالمية.
وبإمكاننا أن نستنتج من التساؤل والمقارنة وجود علاقة بين المسرح والدولة والحالة المجتمعية في زمن الاوبئة، جعلت من الترفيه أداة سياسية تقود الوضع الصحي المجتمعي لمصالحها. ونتساءل بذات الخصوص حول تطويع المسرح لمصالح الدولة في فلسطين. ولكننا قبل ذلك، نتابع فهمنا لحاجة أخرى تناولها المسرح في زمن الأوبئة وهي كون المسرح أداة سياسية للتغيير.
المسرح كحاجة للتغيير
بعد طرح هذه التساؤلات يعود باروخا إلى البحث في تجربة الطاعون من خلال مقالة أرتو “المسرح والطاعون”(1933) كي يفهم الحاجات الإنسانية الأخرى بعيدا عن سلطة الدولة عليها في أزمنة الأوبئة. فنظر في علاقة الطاعون بالأفراد والتغيير الاجتماعي. ويرى أن جوهر المقال يتعلق بتصور أرتو عن الطاعون الذي يرتكز على مسرح القسوة، الذي يفهم القسوة على أنها أداء جسدي عنيف يسعى لتحطيم حقيقة زائفة تتعلق بجوهر الوجود البشري. فيرى أرتو أنه ينبغي عدم مقاومة الطاعون، بل احتضانه بكل بشاعة تفاصيله وهو أمر في غاية القسوة، ولكنه يساهم في فهم جديد لحقيقة جوهر والإنسان والمسرح في زمن الطاعون. ومن ذات المنطلق بحث باروخا عن تفسيرات للمقال تمكنه من إعادة النظر في واقع عصر فيروس كورونا. إحدى التفسيرات تتعلق بتجنب فهم المقالة على أنها محاولة إيجاد فهم خالص للطاعون، فبحسب غروشوفسكي، إن نظرية أرتو عن الطاعون هي رؤية تتزاحم فيها المرجعيات والصور والخيال في خطاب حول الطاعون يمتزج بالمقارنة مع المسرح. فيقدم أرتو فهما للطاعون ليس على أنه ظاهرة وبائية بقدر كونه متعلق بالحالة النفسية للإنسان والايماءات الجسدية التي تنتج عن الاصابة به. يفسر غارنر في مقالته “نظرية الجراثيم ومسرح الوحدة” (2006) أن كتابات أرتو عن العدوى ربما سعت إلى تجاوز الجسم من خلال استخدامه الكثيف للمجازات حول إيماءات الجسد المصاب وتوفيره لأشكال متعددة من النظر إليه، ويستنتج أن نظرة ارتو للطاعون تمثل احتواء لأشكال الوباء وطرق عدواه وآثاره النفسية والجسدية على شكل “قسوة كامنة”. وعبر تصوير قاس وحميمي لشكل القسوة على أعضاء الجسد، يظهر أثر الطاعون على الجسم بطريقة تكسبه قوة أداء تقودها الأحاسيس المتراكمة. أما الموت، فحسب رأي سونتاغ، لم يقدم له أرتو فهما لأنه اعتبره الشكل الظاهر من المعاناة التي فضل أن ينهمك في فهم الكامن فيها.
يستخدم باروخا وصف أرتو لقسوة الطاعون في تأملاته حول أعراض الإصابة والموت الناجمين عن فيروس الكورونا الذي لا تظهر في بدايته أعراض مثيرة للقلق كالتهاب الحلق والسعال الجاف، والحمى المتكررة، وفقدان الحواس. ولكن بعد ذلك تخرج الأمور عن السيطرة وينقل المريض إلى مستشفى حيث تستحوذ على المشهد أشكال الطواقم الطبية التي تشبه شخوص الخيال العلمي، وقد لا يعود المريض أبدا. فلحظة الموت يتم إخفاؤها تماما، تحديدا عندما يفقد المحيط فرصة التواجد بجانب المريض، وتغيب فرص الوداع أو الدموع. ففي حين يساعدنا ما وثقه التصوير الفوتوغرافي من ذكريات حول صور من فارقونا بسبب امراض أخرى، لا نستذكر في زمن الجائحة سوى أكياس تحتوي أجساد مجهولة، ومقابر جماعية، مما يصعّب الحزن، لأنه ليست هناك فرص لوداع الموتى، أو لمسهم، أو تقديم الزهور لهم، أو الصلاة، أو ممارسة أي علامات الحداد. وهذه حالة وصفها باروخا بتخدير الموت التي تترك الإنسان مخدرا فاقدا للكلام أمام قسوة الحدث.
لذلك تعالت أصوات غاضبة حول قسوة ما حدث أثناء الموجات الأول للجائحة. فوصف جورجيو أغامبين: “هم موتانا ولا حق لنا في جنازة بهم، فلم نعد نعرف ما يحدث لجثث أحبائنا”. بينما أثارت كيفية إخفاء وفاة ضحايا فايروس كورونا إلى السخرية لدى مفكرين آخرين مثل ميشيل أولبرغ. فحين تدفن الجثة على الفور دون دعوة أي شخص يصعب تحديد الشعور الناتج عن ذلك، لأنه من خلال حصر الخسائر التي لا حصر لها الناتجة عن الكوفيد-19 لا يوجد شيء ملموس يمكن التمسك به. وأهم هذه الخسائر هو محو الذاكرة بسرعة البرق، تحديدا في غمرة الإحصاءات المتزايدة للوفيات. ولا يزال مبهما لنا كيف من المرجح أن يؤخذ الموت في الاعتبار في زمن ما بعد الكوفيد، وكيف ستكون أنماط إدارة الموت. فالسخرية تتمثل بإمكانية أن تكون الحياة والموت قد طوعتا لما صوره بول بريسيادو في مقاله “التعلم من الفيروس”: “السيطرة الجماعية عالية التقنية على الأجسام البشرية”. فوصف أشكال الحدود الجديدة بين البشر الناتجة عن هذا التطويع بأنها حاليا على هيئة قناع. فالهواء الذي نتنفس يجب أن يكون للفرد وحده. والحدود الجديدة هي البشرة الخاصة بالفرد. وفي حين يصف بريسيادو هذا المجتمع الجديد بالأبوي التقني النيوليبرالي، فهو مليء بمستهلكين رقميين مجهزين ببطاقات الائتمان، ومقنعّين، وبلا شفاه أو ألسنة، فلا يتحدثون مباشرة؛ بل يتركون بريدا صوتيا. وحيث تعتبر نظرة أرتو للطاعون مرتكزة على الجسد، فلا يوجد طاعون بدون الجسم، أو أكوام من الأجسام، وكذلك التعامل مع الجسد في الجائحة، من منظور رقمي يحتاج لأرقام من الأجساد واحتساب الكتروني لسلوكهم وموتهم.
واستكمالا للحديث عن القسوة، أشار أرتو للمسرح عبر مثال لعملية نهب من قبل أفراد يعرفون أن نهبهم للثروات لن تخدم أي غرض أو ربح. ويرى أن هذا هو الدافع وراء عدم الرضا الذي يكمن في المسرح الذي يثير الأفعال دون توظيف أو منفعة، أي دون أن يحدث تغيير. فإن الطاعون يغزو ضحاياه دون تغيير الحشوية الداخلية. وكذلك يتم اختراق الممثل أيضا من خلال سيل من المشاعر، التي لا تشبه أو تغيّر حالته الحقيقية. فيجد أرتو أنه مثلما يأخذ الطاعون القسوة الكامنة للحالة المظلمة للواقع ويدفع المصابين ومن حولهم إلى إيماءات جسدية متطرفة، فكذلك يتحرك مسرح القسوة نحو أقصى الإيماءات، وحدود التمثيل. كيف يحقق المسرح هذه المهمة بالضبط هو شيء لا يوضحه أرتو، فلم تكن لديه أجندة على الإطلاق، بقدر ما كان يبحث عن لغة جديدة للمسرح، عن نقطة يعترف فيها بأنه “لا يمكن أن يكون هناك مسرح إلا من اللحظة التي يبدأ فيها المستحيل حقا”. وبالتالي فهو يبرز عمق القسوة الكامنة التي يتم من خلالها تحديد جميع الاحتمالات السلبية لجوهر الفرد أو الجماعة. كما أن المسرح كالطاعون لأنه يطلق العنان لأحلك التجارب لتكون الطريق لتحويل الذات، وبالتالي يتحقق المسرح في اللحظة التي يبدأ فيها المستحيل حقا. وإن هنالك شيء ميتافيزيقي في فهم أرتو لكيفية أن الطاعون لديه إمكانية ليس فقط للتأثير علينا، ولكن لتحويلنا من خلال المسرح. إنه يجبرنا على “رؤية أنفسنا كما نحن. إنه يتسبب في سقوط القناع، ويكشف عن الكذب، والنفاق في عالمنا؛ إنه حين يهز القصور الذاتية الخانقة – وفي الكشف عن قوتها المظلمة-يدعونا إلى تبني موقف متفوق وبطولي”. وهذا هو بالضبط موقف التحدي أو التمرد في مواجهة الموت الذي ينادي به أرتو في أعماله. ولكنه عندما قال إن هناك مسرحا فقط من اللحظة التي يبدأ فيها المستحيل حقا. فإنه برأي دريدا يقع في مأزق تحدي قوانين التمثيل، ولا يلبث يقع في قبضتها. فبقدر ما كان يدرك أن المسرح هو المكان الوحيد الذي لا يمكن فيه تكرار نفس الإيماءة بنفس الطريقة مرتين، فلا يلبث يقع هو نفسه في دائرة التكرار. وهذا الفهم لموقف أرتو يدفع لضرورة التجديد المستمر في تصور المسرح، بعيدا عن تسوية الخيارات الآمنة والتنازلات. وينهي باروخا قراءته للمقال بتساؤل:” ما هو المستحيل بالنسبة لنا عند تخيل المسرح في عصر فيروس كورونا وكيف يمكن أن يساعدنا على دفع حدود الممارسات المسرحية الحالية؟”. وهنا لا بد أن نضيف بعدا آخرا لهذا التساؤل حول المستحيل، ذلك المتعلق بزمن الجائحة في فلسطين، حيث تتأجج الحاجات المتفاوتة بين الترفيه والتغيير، والمقدرة على تحقيق أي منهما في ظل التسّلط والاحتلال الإسرائيلي.
المسرح كحاجة للبقاء
تساءلنا في المقال السابق عما إذا كنا قد لاحظنا إغلاق المسارح في فلسطين أم لا خلال العام الماضي وتحديدا إغلاقها في الأشهر الثلاث الأولى من الجائحة. وتناولنا أثر العروض الالكترونية ومبادرات القائمين عليها لتعويض الغياب ومساهمتها تسهيل وصولية المجتمع للفنان، وإمكانية المجتمع للتواصل المرئي مع ماضيه وبالتالي تعزيز فرصه في تأمل الأزمان الفلسطينية المتعددة المكونة لزمن الجائحة، مما بين أن الفنان فائض على الدولة. ولكن من ناحية أخرى عملت العروض الالكترونية على استجلاب الفنان لهموم وقضايا سابقة لتصير لها مركزية ما في ظل الجائحة، وتحديدا تلك التي تتناول “الذاتية”، وهي البحث عن السبب الرئيسي مرة أخرى في وقت استجدت فيه الهيمنة الرأسمالية بصور جديدة تحت الجائحة. كما أنها جاءت كمحاولة لإبقاء الفلسطيني على مقومات وجوده وذاتيته ضمن جماعة قابعة تحت الاحتلال. وبالتالي أظهرت تجربة الوباء التناقض بين منظور السلطات للفن، ومنظور الفنان نفسه له. لا بد أن ما يعتبر فائض بالنسبة للدولة، أعتبر ضرورة بالنسبة لمجتمع الفنانين من بين الفلسطينيين. فإنتاج الفن في أغلب الظروف التي مر بها أي فلسطيني يعقد النية على ذلك، هي حالة مستمرة من البحث عن الذات أو الذاتية والبحث عن الجماعة، وهي حالة مستمرة من التحاور والتقابل حول ذلك. في الوقت الذي توقفت السلطة عن النظر إلى دور الفنان كفاعل، أو لاجئ ذا قضية، أو ممثل خلال الجائحة، استمر الفنان بالنظر إلى دوره كما في السابق، وبحث عن أساليب لتحقيق ذلك بمفرده وبالاتكاء على مصادره أو على مساحات الدعم المتوفرة.
وفي حين تابع الفنانون بحثهم عن الأساليب وجدواها منذ بدء الجائحة حتى يومنا هذا، ظهرت عدة أعمال وتصورات يفيد الإتيان على فهمها في تصوير المسرح كحاجة للبقاء. فبين إغلاق المسارح وفتحها والعروض الالكترونية، ننظر إلى تجارب كل من مسرح الخشبة، ومسرح الحرية. ونحاول من خلال هذه التجارب أن نفهم طرق الفنانين الاستاتيقية، أي تلك التي تتناول فلسفة الفن لديهم في ظل حالة الطوارئ، وكيف ساهمت هذه الطرق في فهم دوافع ومسوغات الفنانين للبقاء في زمن الجائحة.
قام الفنان بشار مرقص في بداية الجائحة بمشاركة ملحوظة على منبر للتواصل الاجتماعي يقول فيها “العروض الالكترونية هي ردة فعل على حالة عالمية طارئة من الفردانية والتباعد الاجتماعي، ومحاولة إجابة سريعة عن دور الفنون الأدائية فيها، لكنها ردة فعل كسولة، تحاول دون أي جهد اجترار أعمال فنيّة بلا أي اعتبار لشرط المسرح الوحيد، وهو اللقاء… لا يمكن للمسرح أن يتماشى مع أي حالة طوارئ، المسرح فن التواصل واللقاء، إنه فن العمق وهو بحاجة للبطء والتمهل ويمكنه أن ينتظر الآن قليلا. وعلى الجمهور أن يشتاق اللقاء.” تركز ملحوظة بشار فهمه لعروض المسرح الإلكترونية في حالة الطوارئ، ثم يقدم رأيه حولها، وبعدها يطرح رؤية حول فلسفة العمل المسرحي في ظل جائحة الكوفيد. وبانتقاله من مدار الطاعة المدنية العالمية لمدارات ذاتيه وتلك التي تتناول جوهر العمل المسرحي، فإنه يبين ما هو المستحيل بالنسبة له في ظل الجائحة، وهو “اللقاء”. أي أنه يبين أن المسرح مستحيل في ظل الجائحة، تحديدا في ظل ظروف الطاعة العالمية. إلا أن التفاعل الكبير من قبل صناع مسرح آخرين مع ملحوظته، طوّر من أثرها بحيث شكلت نواة التوق المستمر للفلسطينيين للعودة للنشاط المسرحي بعد أي مستحيل يمروا به. فالصفة الجمعية للملحوظة التي شاركها الكثيرين من أوساط الفنون الادائية حوّل فهم استحالة المسرح في زمن الجائحة كاستحالته في زمن الاهتزازات الناجمة عن الاحتلال، بحيث يتوق أصحابه لاستئناف نشاطهم بعد زوال المحنة، تلك التي لم يكن لأحد علم بإمكانية انتهائها في الأشهر الأولى للجائحة، أي عندما تناقلت الأوساط ملحوظة مرقص في نيسان 2020. وبالفعل استأنف مسرح الخشبة نشاطه وكانت آخر عروضه في مهرجات أفنيون الشهير.
وبعد سبعة أشهر، أنتج مسرح الحرية مسرحية “الفيل” عن سعدالله ونوس، بنص من شذى يونس، وإخراج أحمد طوباسي. يتناول العمل تساؤلات عن آليات إدارة الجائحة من قبل السلطة الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي. كما يتناول التفاعل والوعي المجتمعي مع ظروف الوباء، وتذهب في ذلك لتصور حالة الموت في زمن الجائحة. ولعل من أكثر الأمور إثارة في العمل المسرحي هو افتتاحيته، حيث تم في مبنى المسرح نفسه قبل أن ينتقل للشارع. حيث يظهر للمشاهد فيل ضخم جدا، ومجموعة من المؤدين في مشهد يعتمد على أسلوب السيرك والايماء. ثم يظهر الراوي بعد دقائق لينطلق موجها الجمهور نحو قصة الفيل وظرفه القهري الطاغي وحجمه الضخم الذي أكل أغلب مساحة الخشبة والذي لا يمكن تجنبه تماما كواقع تفاعل المجتمع مع ظروف وإجراءات الجائحة. وتشكل الفترة الافتتاحية التي تعتمد على الإيماءات الصامتة والموسيقى والحركة ومقدمة الراوي مرآة تساعد الجمهور على مشاهدة ما اعتاد الإنسان على ممارسته من تواصل، ولكنه لربما غاب في زمن شُح ومَنع التواصل. فظهرت مشاعر وقيم إنسانية يختبرها الإنسان كالتعاون والحنو والعمل الجماعي التي اختفت في فترة الجائحة بشكل ملحوظ. وتزامن هذا العرض الغزير بالمشاعر مع دخول الفيل للخشبة أيضا. وبالتالي سنحت الفترة الافتتاحية للمشاهد أن يلتقي بأصل مشاعره (الإيماءات ذات المشاعر المكثفة)، وأصل الدخيل عليها (حال الفيل في ظل السيطرة عليه). وفي حين حدث هذا اللقاء أثناء بناء فسحة الفرجة لبدء الراوي والتواصل الكلامي مع المشاهد، تساعد الافتتاحية في التقاء الإنسان مع جوهره ومواجهته المباشرة مع الواقع المتمثل في الفيل، بحيث يستكمل العمل المسرحي بعد ذلك المواجهة باستعراض عدة ظروف من الواقع المجتمعي في زمن الجائحة. ولعل المواجهة منذ بدايتها تنم عن قسوة مواجهة المشاهد لمشاعر الإنسان في ظرف استثنائي كالجائحة فقد أثر على هذه المشاعر وتبادلها. كما أن هذه القسوة تمثلت بحجم الفيل وحال السيطرة التي يتعرض لها الإنسان في زمن الجائحة، وتمثلت أيضا في مقدمة الراوي، وتفاصيل العمل اللاحقة. كما لم يكتف العمل بإقحام المشاهد هذه المواجهة القاسية في المسرح، بل انطلق بعدها لنقل هذه القسوة بشكل أعم حين أخذه مسرح الحرية ليعرض في الشارع.
يقدم لنا عمل “الفيل” إجابة على تساؤل باروخا حول الطاعة العالمية. فالمسرح يعبر من خلال هذا العمل عن رفض الطاعة المدنية العالمية والمحلية أيضا. ويعكس استمرارا حقق النبوءة الجماعية التي خلقتها ملحوظة مرقص. وأبعد من ذلك فقد حقق مسرح الحرية أنواع من المستحيل، أولها الالتقاء في زمن الجائحة، بالإضافة إلى المستحيل المتعلق بالمواجهة القاسية للطاعة المدنية المحلية والعالمية. في حين لم يرفض مسرح الحرية الوسيط الادائي بأن عرض ضمن الوسيط الامن الكترونيا مجموعة رسائل لفنانين ومجموعة أعماله التي قام بها لاحقا، إلا أن استاتيقيا المسرح بنيت على فلسفة مواجهة، كان آخرها توقيف الشرطة لمخرج العمل المسرحي المصمم للشارع “غزة ماذا الآن” أحمد طوباسي في نابلس على أثر حرية التعبير.
ومن هنا بالإمكان القول إن تجربة مسرح الخشبة ومسرح الحرية في السنة الأولى للجائحة عكستا حاجة إنسانية للبقاء. وتتشكل هذه الحاجة على أثر الرغبة المستمرة في الجدل حول الواقع تحت الجائحة والتغيير بالرغم منه. وإذا ما قورنت بتجارب الأوبئة الأخرى كالإنفلونزا الاسبانية والطاعون، فإنها وجهت المسرح ليخرج من علاقة مسطحة مع الدولة وإجراءاتها إلى علاقة جدل ومواجهة. ولا شك أن زمن الجائحة الذي يتناول أزمان عدة، عزز من تشكل هذه العلاقة بعيدا عن تحويلها لأداة سياسية بيد الدولة، بل أعادها للفنان.
نستعرض في المقال التالي الفترة التي انتعشت فيها الأعمال المسرحية من جديد بعد الهبة الشعبية السياسية بالرغم تعاظم التحذيرات المتعلق بمتغير ديلتا من خلال تجربة سرية رام الله ومسرح الحارة ومسرح عشتار.