قد يكون الإيمان بعالم آخر يحصد المرء فيه مجده، يخفف من أثر الفقدان لإنسان مغمور كجون ويليامز، لكن إذا تأرجح بإيمانه أو لم يمتلكه، فالفقدان يكون كثيفاً، كثيفاً ومضنياً، وهذا حال الفن غالباً والأدب بشكل خاص، فكثر هم الأدباء والفنانون الذي سطعوا بعد خفوت نجم حياتهم. جون ويليامز هو بامتياز أحد هؤلاء، فقد حظي بحياة بسيطة أشبه بحياة أبطاله.
ولد جون ويليامز في عام ١٩٢٢ وتوفي ١٩٩٤، قليلة أو معدومة المراجع العربية التي تذكره، كل ما سمعته واستطعت معرفته عنه أنه كاتب وشاعر أمريكي، عاصر الحربين العالميتين واشترك في الثانية دون رغبة تُذكر. كتب حوالي ثلاث روايات ومثلها أو دون من الشعر، ولم تحظ كتبه باحتفاء يُذكر زمن صدورها، ولم أجد ما تُرجم له إلى العربية باستثناء رائعته “ستونر” والتي تعثرت بها من باب الصدفة وقادتني إليه.
تنتمي الرواية إلى ما يُعرف بالأدب الأكاديمي أو أدب الحرم، كون معظم أحداثها تدور في الحرم الجامعي. طُبع الكتاب في ستينيات القرن الماضي سنة ١٩٦٥، ومر بسلام إذ لم يبع منه سوى نسخ متفرقة، إلا أنه عاد إلى الصدارة بعد أربعين عاماً من إصداره وتحديداً عام ٢٠١٣، أي بعد وفاة كاتبه ليحقق نجاحاً ربما غير مسبوق وتصدر قوائم المبيعات في عدة دول بعد ترجمته إلى العديد من اللغات، ليكون نجاحه بعد موت كاتبه صورة جلية عن كثافة الفقدان التي تمتع بها ويليامز الكاتب الذي كاد يشتهر بكونه غير مشهور، ومن ناحية ميتافيزيقية قد يكون ويليامز الآن ينعم بلذة الصحوة لإنتاجه الفريد، أو ربما هو الآن مجرد مواد عضوية تحللت في التربة ودخلت في دورة الطبيعة فحسب.
في رواية “ستونر” نجد أنفسنا أمام عمل يبدأ من نهايته بشكل أو بآخر، ومن الأسطر الأولى ندرك بأننا نقرأ عن شخص ميت، وما تتبعنا مسار الرواية إلا لرصد رحلة ويليام ستونر وصولاً لأجله. .
ويليام ستونر طفل قروي، ولد لأبوين قرويين في إحدى الضواحي الزراعية في ولاية ميسوري الأميركية، يعمل ووالداه في الزراعة، سنة بعد أخرى تضمحل الأرض تدريجياً، ولرغبة وربما لمحاولة خلق حجة غير واعية بشكل جلي لإنقاذ الابن، يقترح الأب أن يلتحق ابنه بجامعة ميسوري في كولومبيا للدراسة في كلية الزراعة، ليستثمر فيما بعد ما تعلمه في إخصاب التربة ومساعدة والداه، وللمصادفة عليه في ذات الكلية دراسة مادة أو اثنتين للأدب الإنكليزي.
يلتحق ستونر بالجامعة، وفي منعطف بدا سلساً بقدر ما حمل من تضخم وصراع، يتأثر ستونر بمدرس مغمور “أرشر سلوان” أستاذ مادة الأدب الإنكليزي والذي كان مدرساً عصبياً متجهماً ينظر لمهنته بازدراء واضح ويعامل طلابه بقسوة، وفي أحد الأيام بدا أثر هذا المدرس بالغاً إذ أوقف ستونر وسأله بمقت شديد واشمئزاز عن السوناتة الثانية والسبعين لشكسبير، بعد عجز عدد من الطلاب عن الإجابة: “سيد ستونر ماذا تعني سوناتة، إنها سوناتة يا سيد ستونر، قصيدة شعرية، مكونة من أربعة عشر بيتاً ومكتوبة بأسلوب معين… السيد شكسبير يحدث عبر ثلاثمائة عام يا سيد ستونر، هل تسمعه”.
لكن ستونر كان كالمقعد الذي عليه والذي ظل يتذكره لسنين طوال، دون إجابة، هنا أدرك ستونر حبه للأدب أو ما يظن أنه يجب أن يكون عليه، لينقل فيما بعد مجال دراسته للأدب دون علم والديه.
مع التقدم في سير العمل يبرز ستونر في مجاله، ونتيجة للظرف العالمي والمحلي في ذلك الوقت يعين ستونر كمدرس في ذات الجامعة التي كان يجدها الملاذ الوحيد له، ويصل إلى درجة الدكتوراه، إلا أن عداوة تنشأ مع مدرس آخر”هولي لوماكس” حظي بمركز أعلى تبقي ستونر طوال سيره في الجامعة دون تقدم.
يتزوج ستونر من أول فتاة يقابلها وتثير انتباهه ويقرر الزواج منها رغم خلفية الفتاة البرجوازية وحياتها التي تتصف بنوع من البذخ والتكلف الطبقي ليقع مرة أخرى في مسار ثابت، ويستمر في زواجه رغم إدراكه منذ الأيام الأولى فشله الفادح، وكمن يرغب في الشيء دون السعي أو الفعل الواضح يقع في علاقة غرامية مع إحدى طالباته كاثرين دريسكول في سن متقدمة، لكنه حب حقيقي جاء متأخراً، لينفصلا اتقاء لشر لوماكس الذي يرغب بالفتاة ويكن عداوة طويلة الأمد لزميله، تأخذ حياة ستونر هنا منحى من الرتابة واللامبالاة أكثر من السابق، ويصاب ببعض الصمم وينتهي به الحال في صراع مميت مع السرطان، وكأنه مر في رواق حرم الجامعة ملوحاً ليوم أو بعض يوم.
يتصف أسلوب الرواية بحالة شديدة الحساسية، إذ نلحظ براعة مختلفة لدى ويليامز في وصف صوري يحمل شاعرية فذة، وسط سيل من القدرة على تصوير المشاعر، كذلك يمتاز الأسلوب بالكثير من البطء والصدامية، فيخلق لدى القارئ شعوراً بأنه على وشك حافة ما0يسقط مرات متكررة دون سقوطه، أيضاً يبدو العمل في جله كإناء ينضح بالسوداوية والمشاعر المربكة والصادمة، ويعود هذا إلى قدرة الكاتب على التصوير الغزير للنفس البشرية، ولمس مساحات دفينة داخلها، لدى ويليامز أيضاً قدرة كبيرة على الوصف، وتصوير الأماكن والشخصيات، وخلق حالة صورية مجازية ممزوجة بسرد تقريري نثري غزير.
فرصتنا للنجاة بأن لا نقوم بأي شيء على الإطلاق
عندما تقرأ “ستونر” لا تقرؤها طلباً للنجاة أو هرباً من الواقع، فأنت تقرأ عملاً يورطك ويغوص بك في الواقع أكثر، يضعك أمام مرآة بعد مرور زمن مُضنٍ، تتملكك رغبة في إخراج الآخر منها، ستونر الذي بداخلك والصراخ به لما فعله، أو بشكل أدق لما كان يجب أن يفعله.
قد تُمضي أياماً تلوح كلمة محددة في أفقك الضيق، هل أنا ستونر آخر؟ الإجابات تبقى معلقة والأسئلة تُضيع الأفواه التي تنطق بها. لماذا يا ستونر؟ مما كنت تخشى؟ هل أنت بطل؟ أم مجرد فردٍ على هامش تاريخ العالم؟ كرقم؟
يرضى ستونر بما يتوفر له بشكل مستفز، ويجعل الحياة تقوده، وقد لا نراه يتدخل في خياراته أو تصحيحها رغم إتاحة الوقت له ذلك، فنحن أمام بطل آخر يختلف عن المفهوم الأرسطي للبطل المأساوي، البطل الذي يخطئ، يغضب وينفجر، وتتراكم أمامه العقبات وصولاً إلى التطهير، فستونر ليس خيّراً وليس شريراً؛ بل هو كيان آخر تماماً، الجانب الآخر لكلٍ منا، جانبنا العالق في عجلة الحياة، العاجز، والغارق في الرتابة والتكرار، أنه الشيء الذي نحاول طمسه داخلنا بوعي أو لا وعي، لا يواجه ستونر مصيره بحزم، إنما ينغمس في حياته العادية ليبدو ما يحدث له فيها هو الممكن، وهو ما تمناه، بل قد يراه أحيانا ترف فوق ما تطلع إليه، إنها قصة إنسان عادي جداً، في سرد وحكاية غير عاديين.
نجد ستونر سوداوياً، لا مبالٍ، يتأرجح بين عبثية مطلقة وعدمية غير واضحة بشكل جلي، إنه ليس غريب كامو، فستونر يمنح لما يشعر به ولمن حوله قيمة، حتى إنه قد يهلع من خشية فقدانهم رغم عدم وجود صلة قوية بينه وبينهم، وخير مثال علاقته الزوجية الطويلة بإديث، فهو غير متمسك بها، ومتشبث في الوقت ذاته، ليستمرا سوياً. ربما -ولا أرجح هذه الـ “ربما”- لا يبدو هذا جلياً للقارئ بشكل واضح لكنه سينتابه بشكل حسي حتماً، رغم هذا فإننا أمام شخصية مسالمة لحد مستفز، صامتة، لم يكن لديها يوماً خططاً للمستقبل، تبحث دائماً خلف المعنى السطحي للأشياء علها تجد المفتاح الذي سيقودها إلى حيث قُدِّرَ لها، وحيدة، ترى نفسها دائماً ما تسبب الإرباك لمن تتعامل معهم، بل وتتساءل إن كان يراها الآخرون مضحكة كما ترى نفسها، منعزلة وتنجذب إلى أشباح الأشخاص وليس إلى ذواتهم المتجلية لها بشكل مادي.
الطيبون يطحنون في حرب لا يراها أحد
يعزي البعض عدم نجاح ستونر وقت ظهوره لانجذاب الناس إلى نوع أحادي من الأدب في ذلك الوقت، بين وخلال الحربين، إذ كانت الناس تميل إلى كتب الخيال العلمي وما يتحدث عن الحرب، إنما في ستونر تبقى هذه الأحداث كخلفية للعمل وليست هي الموضوع الأساسي، بل ابتعدت حكايته بقدر ما اقتربت من ذلك المخاض العالمي وتناولت قصة مدرس في إحدى الجامعات “من حين لآخر يقرأ الاسم طالب ما عرضاً وبلا تركيز، ثم يتساءل عما كان ويليام ستونر هذا، لكن فضوله لن يتجاوز التساؤل بشكل عام، كبار السن منهم يعدون اسمه تذكيراً بالنهاية التي تنتظرهم جميعاً، وبالنسبة للشباب فما اسمه إلا صوت لا يحيل لأي ذكرى أو شخصية من الماضي يمكنهم ربط أنفسهم أو مستقبلهم المهني بها”
يحاول ستونر ألا يلحظ الحرب أو يتأثر بها، يسعى لأن يراها كحدث عرضي آيل للزوال، إلا أن الحرب استوطنته بكل سكونها الذي يمكن أن تخلفه، بات كبيت يحاول الحفاظ على نفسه، بيت جعل نوافذه إلى الداخل، متشبث بقطعة الأرض القابع عليها خشية الانهيار من زلزال يخلفه صاروخ أو قنبلة من يد مجهولة. بقي مدرساً ولم يشترك في القتال في الوقت الذي تطوع فيه أغلب زملائه -إن لم يكن كلهم- عن سابق عزيمة ورغبة وإيمان، لكنه كان يرى أثر الحرب الأكبر في الوجوه الشاحبة والشبحية التي تزين رواق عمله الأكاديمي، كان يرى الجانب الأخر للخسارة، الأمر الذي ضاعف شعوره المزمن بفشله رغم ظنه غير اليقيني بأنه ببقائه في مهنته إنما يصلح العالم والإنسان. كان يخوض حرباً ضروساً وأقوى لا يراها أحد ولا ترتفع جثث أصحابها إلى السماء، عانى من ضعف وعجز داخلي أتقن إخفاءه بل ربما لم يكن ليلحظ عجزَه وضعفه أحد. ربما لم يكن يلحظه أحدٌ أساساً.
تمسّك بإديث وغريس وكاثرين وبمهنته اللعينة، التي طالما سمع صدى صديقه ديف ماسترس يردد بحقها “أنها مصحة عقلية، أو ماذا يدعونها هذه الأيام؟ بيت الراحة للمقعدين، والمسنين والساخطين، ومن يعدون من غير الأكفاء في الأماكن الأخرى”.
كلمات تصف الإحباط الوظيفي والمصير لمن يتمسك بهذه المهنة، وهذا المكان، الذي رآه ستونر ملاذه الوحيد، بل ربما الحياة محاصرة بين هذه الجدران.
رحل ديف ماسترس، غادر الجامعة وغادر العالم، مخلفاً شبحيته في حياة ستونر، وأزيزه في أذنيه، لكن ستونر استمر في مهنته، تزوج وتقدم به العمر إلى حيث لا عودة، وإلى حيث لا رحيل لديف من حياته، وفي الوقت ذاته كان يدرك الفشل والإحباط الذي هو سائر أليه؛ ربما وعينا بالأشياء يبدأ متاخراً.
ديف ماسترس، الحقيقة الحاضرة وضجيج الغياب
حظي ويليام ستونر بصديقين خلال دراسته ولما تبقى من حياته، جوردن فينش، والذي سيعين فيما بعد بعمادة الكلية ويرافق رحلة ستونر الحياتية، وديف ماسترس، الذي ما أن تبدأ صداقته بستونر لتنتهي وكأنها وجدت منذ الأزل. اشترك ديف وجوردن في الحرب العالمية الأولى، وانضم ديف إلى صفوف المقاتلين من دون إيمان بضرورة هذه الحرب، لكن باختيار منه طمعاً في تحقيق حلمه بمشاهدة أوروبا والترحال. تظهر لنا شخصية ديف كشخصية استثنائية وفريدة رغم مرورها الطفيف في مشهدين في الرواية إلا أنها تخيم بظلال واسعة على طول العمل وعلى حياة ستونر بشكل خاص، تبدو شخصية ديف وكأنها من عالم آخر غير الذي يقبع فيه ستونر، ما يجعلنا نرى علامات رحيله من جمله الأولى، فلا بد أن تكبح وتوأد هذه الحقيقة الفجة، ليقتل في بداية الحرب في عام ١٩١٨ في معركة شاتو ثيري الشهيرة وهي إحدى المعارك الأولى لقوات الحملة الأمريكية ضد الربيع الألماني على الجبهة الفرنسية. كان ديف الحقيقة التي يمقتها الجميع وعشقها ستونر ربما لعجزه بأن يكون ديف أخر.
بدت شخصية ديف -كما يظهر لنا- متشائمة، فهو صاحب لسان لاذع وعينين طيبتين، حظي بسمعة في الكلية وبين الخريجين بأنه متعجرف ووقح، إلا أن ستونر رآه أذكى شخص قابله في حياته، رغم علاقتهما قصيرة الأمد بقي ديف باذخ الحضور في ذهن ستونر يردد كلماته صحواً أو سهواً، حتى أنه يسأل فينش عنه وهو على فراش الموت يؤكل من الداخل جراء السرطان الذي أصابه، بات ستونر يبحث عن ديف في وجوه من يصادفهم في الحياة، ومن يحمل ولو شيئاً خادعاً وضئيلاً من خصاله كالوماكس المدرس الذي سيعاني ستونر من تسلطه طويلاً، ومع تقدمه في العمر يدرك ستونر بأن العالم لا يحتمل أن يوجد به ديف، وهذا ما أكده ديف نفسه “لن أستطيع إبقاء فمي مغلقاً، إنه مرض بلا علاج، لذلك يجب حبسي حيث يمكنني التهور بأمان ودون أن أؤذي أحداً”.
كان يخشى ستونر ألا يوجد كديف في الحياة، كان موقناً بعدم وجوده وخائفاً من ذلك، لذا احتفظ به في براد الذاكرة حيث لا يراه أحد، ولا يسمعه غيره، ويردد بين الحين والآخر كلماته على فينش الذي بدا وكأنه يخشى من مس ديف لروحه في هذا العالم الذي لا يحتمل وجوده، فبقي سراً علنياً إلى زواله وستونر.
الغربة ومعركة التواصل مع الآخر
في “ستونر” نحن أمام شخصيات هشة، خائفة وخائبة، مربكة، غير قادرة على البوح أو الكتمان. يخوض ستونر ومن حوله حرباً مضنية وخاسرة بمجرد فكرة بدأها، للتواصل مع الآخر. في المجتمع الذي يضع ويليامز فيه روايته – وسط انهيار مدوي للإنسان وللإنسانية من خلال الحروب وسيطرة الرأسمالية وصولاً إلى فترة الكساد العظيم في أوروبا وقتها، والذي ظهر كحدث عرضي إلا أنه ترك أثراً مدوياً في العمل وعلى ردود أفعال الشخصيات والتي وصلت بعضها للانتحار -نرى الغربة وعدم التواصل منذ بداية الرواية وفي خلية المجتمع الأولى والمتداعية وهي عائلة ستونر. صور ويليامز أفراد العائلة الثلاثة -وتحديداً الأبوية- ككيان متآكل قاحل في طريقه إلى زوال حتمي، إذ نادراً ما دار حديث بين أفراد العائلة، وبدا واضح الجفاف في حميمية الترابط، بل ما جعل الأسرة مترابطة ضرورة الكدح فقط، يتحدثون بالضروري والمهم القليل “يجلس ثلاثتهم في المساء في المطبخ على ضوء مصباح الكيروسين، يحدقون في اللهب الأصفر، لم يكن يسمع في ذلك الوقت سوى صوت تململ جسم على كرسي، والصرير الخافت لخشب بدأ يئن قليلا مع قدم البيت”.
ينظر ستونر لوالديه كغريبين جمعتهما به صدفة لا يعلمها، لا يعرف عنهما إلا ما أتيح له ولا يعرفان عنه إلا هيكله النحيل الذي انحنى من ثقل المسؤوليات في سن صغيرة والعمل في الزراعة، “كان أبوه وهو في الخامسة والعشرين وأمه على أعتاب العشرين، كان ستونر يراهما حتى وهو طفل صغير عجوزين، بدا أبوه وهو في الثلاثين كأنه في الخمسين، محني القامة يحدق ببؤس في قطعة الأرض القاحلة التي تقتات عليها الأسرة سنة تلو الأخرى، وكانت أمه تعتبر حياتها لحظة طويلة الأمد عليها أن تتحملها بصبر”. لا نرى والدي ستونر سوى ضيوف عرضيون في حياته لا أثر ولا تأثير يوجد لهما ولا ذكرى حتى، عاشا وماتا في قطعة الأرض التي التهمتهما والتي كانا يراقبانها كموت بطيء أدركه ستونر منذ رحيله عنهما وانسلاخه عن تلك الأرض ثم وفاة والده، ورؤيته له كجسد مسجى غريب عنه تماماً وإدراكه بأن والدته ستلحقه لا محالة.
لم يحتك ستونر سوى بالجامعة وبإديث التي جمعتها به صدفة غير بعيدة عنها رغم عدم صلتها بمجاله. تزوج إديث بعد أول لقاء بينهما، وكانت عديمة الخبرة كما هو في هذا النوع من العلاقات، لكن زواجهما تم رغم أنها من خلفية برجوازية متنفذة، فيدير والدها أحد المصارف، وقد حظيت بتربية صارمة وجافة، رسمية ومتكلفة لمن هن مثلها. بعد دخول ستونر غمار هذه العلاقة أدرك الكارثة التي لازمته طول حياته وأذعن مستسلماً لها دون سبب واضح. بدت إديث شخصية هشة، متمارضة وغير متزنة، وبدأت ترى ستونر فيما بعد كأنه دمر حياتها، فسعت إلى جحيم ممض للاثنين، فكانت مزاجية، ما أن تهدأ من حرب حتى تخوض أخرى. تجسدت كذات شاحبة الملامح، وفي مخاض مجهول مع شيء ما، تفوق ستونر في انعزالها وغربتها، وبإمكاننا القول إنها أكثر الشخصيات غرابة وغربة عن الذات وعن الآخر، فقد بدت إديث غير مبالية بستونر تماماً، بل قد نستشعر كرهها له في بعض المواقف رغم علاقتهما الطويلة والتي تستمر حتى موته. رغم هذا كانت تعلم ما يحدث لستونر الذي أبقى حياته المهنية ومشاكله بعيدة عنها، فقد نتساءل كيف عرفت بمشاكله الأولى مع هولي لوماكس، المدرس الذي عانى ستونر منه بعد أن رسّب طالباً يشرف عليه لوماكس، ثم معرفتها بعلاقة ستونر الغرامية بكاثرين دريسكول، وصولاً إلى علمها بمرض ستونر ومعاناته مع السرطان. فقد نستشف من خلال ذلك شخصية غير ثابتة لا تعرف ما تريد، تبدو طوال النص وكأنها تحمل شيئاً ما توشك وتمتنع عن البوح به، فرغم معرفتها لما يحدث لستونر أو سعيها إلى المعرفة لا تمنح أي حدث أي أهمية، إلا إننا قد ندرك شيئاً من الغيرة داخلها، الغيرة من وجود متنفس لستونر في مهنته، هذا المتنفس الذي لا يتوفر لها، فهي تبحث عن مبرر لوجودها فتتنقل بين عدة أعمال لا تلبث أن تبدأ بأحدها حتى تغادره إلى آخر، فتعمل مع فرقة مسرحية، ثم تقرر أن تمتهن الرسم، وتصل إلى ممارسة النحت. وهي هوايات فرضتها عليها تربيتها ولم تفلح في أي منها، وعند الانتقال من مهنة إلى أخرى تلحق أضراراً جسيمة بستونر معلنةً عن بداية حرب جديدة لإثبات أهميتها، ستونر الذي يبقى دون حراك وكأنه يرفض أن يولي وجهه لمعركة يوقن خسارته بها سلفاً.
تبقى إديث في عين نفسها طفلة تتابع حياتها بمزاجية غير محتملة، وكأنها تبحث عن هزة تصحو من خلالها لشيء ما، وعند انتحار والدها بعد إفلاس مصرفه وتورطه في أموال مهدورة خلال فترة الكساد تدرك بأن الأمر لا يعنيها وأنها مخدرة إلى الأبد، ستعيش وتموت هكذا، فتسعى إلى الإنجاب وتكرر نسخة مشوهة منها، ابنتها غريس. يراقب ستونر ضياع ابنته أمامه دون التدخل في انتشالها، فتكبر غريس وتمتد الغربة جيلاً آخر حين تسعى إلى توريط شاب في حملها، والزواج به بغية الابتعاد عن والديها، لكنه يهرب بعد الزواج إلى الحرب نتيجة مسؤولية لم يكن ليتحملها، ويموت هناك، فتمضي غريس بقية حياتها تلوم نفسها على موته، وتلجأ إلى إدمان الكحول ومراقبة زوالها.
معظم الحوارات بين الشخصيات تضمنت جملاً مقتضبة ومقتطعة، تحتاج إلى تكملة، وكأن الحديث فعل عبثي لا جدوى منه، فحين تقرر الشخصية الكلام تتوقف فجأة وتقطع حديثها، لنقع في هوة إتمام المعنى واستنتاجه بشكل قد يصعب على القارئ التكهن به، ماذا كان يعني؟ لم توقف؟ ماذا أراد أن يقول بعدها؟ لتغرق كل ذات في العمل بخوف من الآخر، من الحديث، أو الرد، وما لا يفهم لوحده ليس جديراً بأن يقال.
يعكس لنا العمل الإنسان الحديث، إنسان العلم، وإنسان الحرب والشعارات الإنسانية، حتى ليختلط الأمر علينا أحياناً، فهل انتقد ويليامز العلم والعمل الأكاديمي، والمؤسسات التعليمية، أم الحرب التي لا طائل منها؟ ففي لحظات تغرق النتيجة باللا جدوى من الاثنين، إنها في الوقت ذاته علاقة تأثر وتأثير سيحدث لا محالة. صور ويليامز الواقع بواقعية شديدة الحساسية والصدق فحسب، وهذا ما يخيفنا. لم يكن ستونر ليجرؤ على الابتعاد عن أسوار الجامعة، وهي المكان الوحيد الذي بدا آمناً له، لا من حياة أو موت أو حروب، فهذه لم تشكل له هاجساً أو شبحاً شعورياً، إنما عله يصادف في يوم الإجابة عن جدوى وجوده، وكلما تقدم العمر به وبرحلة البحث المضنية، تجسد له فشله، وأن العالم ليس سوى صورة مشابهة لأرض والده القاحلة. لقد انغمس في عمله، إلى درجة أنه نسي عما كان يبحث، لتتخذ حياته شكلاً كئيباً من الرتابة والتكرار، فلا يكون أمامه إلا أن يستعد لإعادة ما قاله هذه السنة على مسامع الطلبة السنة القادمة.
الحب، خدر الزمن وتحرك إنساني نحو الصيرورة
العلاقة الوحيدة التي قد نراها منطقية ومعقولة هي علاقة ستونر بكاثرين، رغم لا منطقيتها. تجمع الاثنين علاقة عاطفية، ظهرت متأخرة جداً في حياة ستونر، غريبة جداً وصادقة جداً لمن في سنه. جذب ستونر لها ما يجذبه لشخصيات مشابهة، غرابتها وشحوبها وكأنها على شفى الزوال، شخصيات تبدو مأساوية وتحمل سراً ما، لغزاً يشوبه شبح الكآبة، فنقع في سؤال: أهو من يبحث عنها أم هي من تعترضه؟ إلا أن كاثرين بدت له ذكية ومتزنة، وتمنح الحب أوجهه كافة، فالحب بالنسبة إليها طريقة للعيش وفهم للحياة، السعادة في عالم مضنٍ. كأنه وجد أخيراً ما يبحث عنه، وجد ما لن يكون له أبداً، لتقع علاقتهما في مطب الشائعات ورغبة لوماكس الانتقامية فيفترقان أو ربما يتخلى ستونر عنها، خشية المجازفة، خشية ألا يكونا هما كما عرفا بعضهما إن تطرفا واختارا الاستمرار.
يفترقان بحجم الحب والتفاهم ذاته، لكن ستونر يشهد بعدها تحولاً جللاً، إذ يضنيه الفراق، ويقع صريع حمى تتسبب في إصابته ببعض الصمم، ويتغير أسلوبه ومعاملته لطلابه ولمن حوله، فيغدو شخصاً جلفاً غير مراعٍ للرسميات، ويكسوه طيف قسوة لا يغادره. يستمر ستونر في عمله رغم محاولات لوماكس إزاحته إلى التقاعد، ويستمر لتخيب محاولاته بعد أن يفتك به سرطان الأمعاء، ليقضي أياماً في الهذيان ومخاطبة من رحلوا، تحت رعاية إديث الخائفة من مغادرته عالمها والعالمة بيقين الرحيل، ليسقط بعد فترة في صمت غرفته وحيداً كما جاء، بين أكداسٍ من الكتب.
ستونر، عمل قد يضعك أمام ذاتك، أمام الآخر، وجدوى وجود كل منكما، كل منا.