“حين تعود بي الذاكرة إلى سمخ، أذكر بيت جدي المبني من طين، لكن الرحب، المضياف والمطل على البحيرة شمالاً وجنوباً على الشارع الرئيسي الواصل بين الحمة السورية وبين طبريا، أذكر بيت أبي الذي شيده على مقربة من بيت جدّي، ليسكنه في الشيخوخة ولم نهنأ لحظة بسكناه، فكان أبي يسكن في حيفا حيث مكان عمله، ولم نستطع العودة إليه بعد عام النكبة وكان من حجر أسود ولا أزال أحتفظ بترخيص بنائه وتحضرني صورة البيادر وأذكر حديث أمي عن بعض أرض جدي واسمها أرض الدوير وكانت تمتد من الماء (نهر اليرموك) حتى الماء (بحيرة طبريا)”.
الكاتب والشاعر إبراهيم مالك
“يجلس (راضي) في دكان خاله وراء الميزان الشاقولي، وفي انتظار عودة خاله يبيع قليلا ويسأم كثيرًا.. وعلى كل حال، فالناس في سمخ لا يدرون ماذا يفعلون. إنهم في حالة إنتظار أيضًا. ينتظرون قدوم المجهول. لم يعد ما يملأ فضاء البلدة بعد أن توقف صفير القطار القادم من حيفا والذاهب إلى درعا سوى القلق. لم يعد ثمّة ما يوحي بالطمأنينة”.
من رواية “بحيرة وراء الريح” ليحيى يخلف
سمخ: من الاسم إلى الفعل
سمخ؛ قرية فلسطينية في قضاء طبريا حسب التقسيمات الإدارية لحكومة الانتداب البريطاني. تقع على بعد 10 كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة طبريا. والاسم حسبما يفيدنا عدد من الباحثين في مجال تسميات الأماكن من الآرامية “سماحا” بمعنى الضياء والنور والإشراق. أما Semah فتعني “الإنبات”. و”سميّاح” العبرانية تعني الفرح والسرور والبهجة. أو من “السمك” واستبدل حرف الكاف بـ “خ”، هذه مسألة يتوجب فحصها والتدقيق فيها.
أرقام
تبلغ مساحة هذه القرية 18611 دونمًا. تسرّب منها لأيدي اليهودي 8412 دونمًا خلال فترة الانتداب البريطاني إثر نشاط سماسرة الأراضي العملاء، وصفقات الخفاء مع أصحاب الأراضي. واعتمد فلاحو القرية على زراعة الحمضيات والموز والحبوب والخضار على أنواعها.
أمّا عدد السكان فجدير دراسته جيدًا لأنّ القرية شهدت تحولات فيه خلال فترة الانتداب البريطاني على خلفية تحول المنطقة إلى موقع استراتيجي يربط بين سوريا والأردن وفلسطين عبر سكة الحديد الحجازية، وأيضًا لتطور مشاريع أخرى في المنطقة مثل مهبط الطائرات القريب منها. ولقد استقطبت القرية عائلات كثيرة وفد أربابها للعمل في سمخ في مخفر الشرطة وفي مكاتب الجمرك التي كانت فيها. في حين كان عدد السكان حسب الإحصاء الانتدابي من العام 1922 قد وصل الى 976 نسمة فإنّه ارتفع إلى الضعف خلال عقد من الزمن، أي أنّه بموجب احصاء العام 1931 والذي أجرته حكومة الانتداب يُبين أنّ العدد كان 1865 نسمة. ليبلغ في العام 1945 حوالي 3460 نسمة، وعشية النكبة 4014 نسمة موزعين على 1009 منزل. وتعتبر قرية سمخ أولى قرى قضاء طبريا من حيث كبرها وعدد سكانها.
أمّا من حيث التركيبة السكانية لقرية سمخ فإنّ سكانها الاوائل من قبيلتي عرب الصقور وعرب البشاتوة بالاضافة الى عائلات جزائرية وتونسية ومغربية مهاجرة قدمت مع من قدِمَ الى بلاد الشام برفقة الأمير عبد القادر الجزائري. وخلال فترة الانتداب وصلت الى القرية عائلات مسيحية من الناصرة ومن قرى في الجليل للعمل فيها، وكذلك بعض العائلات المنتمية إلى الديانة البهائية.
ساهمت هذه التركيبة السكانية في خلق واقع فسيفسائي جميل من الالفة والمحبة والاحترام بين سكان القرية الذين حظوا بتشكيل مجلس محلي(في عام 1923) لإدارة شؤونهم وشؤون قريتهم.
آثار القرية شاهد على قدم وجودها
تنتشر في القرية وأراضيها آثار ومكتشفات تعود إلى الفترة الكنعانية، وخصوصًا تلك الواقعة في موقع يُعرف باسم “كفار سماح”. وكذلك عرفت بالاسم ذاته في الفترة الرومانية التي خلفت بعضا من آثارها. وأيضا هناك آثار لكنيسة بيزنطية بقي منها أسس قليلة.
العلاقة بين القرية والبحيرة والنهر
ما يُميّز هذه القرية أنّ نهر الاردن يخرج من بحيرة طبريا على بعد ربع ساعة إلى الغرب منها في الموقع الذي تنتهي فيه البحيرة. وبين البحيرة (أي بحيرة طبريا) وبين أول جسر على نهر الأردن ويُدعى “جسر المجامع” ممرّان (مخاضان) على بعد حوالي ساعتين من القرية (مسيرًا) ويمكن خوضهما بسهولة في ساعات معينة في اليوم. أمّا الوادي الممتد من قرية سمخ الى طبريا فيُدعى بـ “غور طبرية”.
معالم القرية الدينية
كان في القرية مسجدان وأربع مقابر.
-
المسجدان: الأول باسم المسجد الحميدي. في حين أنّ الثاني حمل اسم المسجد الشرقي. والمسجدان تعرضًا إلى الانهيار بفعل زلزال 1927 الذي ضرب المنطقة بما فيها مدينة طبريا. إلاّ أنّ أهالي القرية وبدعم من المجلس الشرعي الإسلامي وأهل الخير أعادوا بنائهما من جديد.
-
المقابر: مقبرة المكبس الواقعة في منطقة باسم “أم المصاري” وتبلغ مساحتها حوالي 50 دونمًا. ومقبرة جذر القرية، وتبلغ مساحتها حوالي 20 دونمًا، ومقبرة في منطقة الربيضة ومساحتها تقريبًا 35 دونمًا. أمّا المقبرة الأخيرة ففي منطقة الدوير ومساحتها حوالي 25 دونمًا. وتعرّضت هذه المقابر إلى التجريف والتدمير الكامل على يد آلة الاحتلال الاسرائيلي على مرّ العقود منذ النكبة إلى يومنا هذا.
مدارس القرية
مع الزيادة في أعداد السكان في القرية، وبالتوازي مع تحسّن الحالة الاقتصادية خلال فترة الانتداب البريطاني بفضل جهود وتعب الاهالي أنفسهم فإنهم بادروا الى تأسيس مدرستين:
الأولى ابتدائية للبنين، وكانت قد تأسست في العهد العثماني وفيها حتى الصف الرابع الابتدائي، وتم خلال الحرب العالمية الثانية إضافة صفوف حتى السابع الابتدائي. كذلك أقام الأهالي مدرسة ابتدائية للبنات حتى الصف الرابع الابتدائي. هاتان المدرستان ساهمتا في رفع المستوى التعليمي للطلاب والطالبات، لدرجة أنّ بعض من الشباب قد تابع تعليمه في صفد وطبريا وحيفا وكلية النجاح بنابلس وفي غيرها من المدن الفلسطينية التي فيها مدارس وكليات تعليمية فوق الصف السابع.
موقع سمخ ودوره في تطوير المواصلات
لا بُدّ لنا من الاشارة إلى أنّ القرية قد بُنيت على امتداد بحيرة طبرية. وانتشرت بيوتها على طول مساحة الارض التي خُصِّصت لها وامتلكها الاهالي. وتمّ مد الخط الحديدي الحجازي في العام 1905 بالقرب من القرية، وجُعِلت إحدى محطاتها في أراضي القرية تحت اسم “محطة سمخ”. وكان القطار الحجازي ينطلق من مدينة درعا السورية متجهًا الى حيفا مارًا بمحطة قرية سمخ. ولأن القرية تقع على طريق عام يمر بمحاذاة بحيرة طبريا ويفضي إلى مدينة طبريا في الشمال الشرقي فكانت خطوط الملاحة في البحيرة تربط سمخ بمرفأ مدينة طبرية ذاتها.
أما الطريق التي تتفرّع عند سمخ فتتجه الى الشرق وصولاً إلى الحِمّة على نهر اليرموك وفي الحِمّة محطة للقطار الحجازي ذات أهمية كبرى. أمّا الطريق الآخر فيتجه نحو الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا لتصل إلى قرية السمرا في الشمال الشرقي. في حين أنّ قرية العبيدية القريبة منها تقع إلى الجنوب الغربي.
أمّا المواصلات البحرية فكانت متيسرة بين مدينة طبريا وقرية سمخ أسوة بوسائل النقل وطرقات المواصلات الأخرى.
وكانت الدولة العثمانية وبالتعاون والمساعدة الألمانية قد أقامت مهبطًا للطائرات في سمخ اعتبر الأول في فلسطين. وقامت حكومة الانتداب بتطوير هذا المهبط ليتيح هبوط طائرات متوسطة الحجم. واستعمل هذا المهبط للطائرات المُقلعة من حيفا باتجاه بغداد وكراتشي في فترة الانتداب البريطاني. بالإضافة إلى استخدامه للسياحة الوافدة إلى بحيرة طبريا.
بمعنى آخر، فإن قرية سمخ هي القرية الفلسطينية الوحيدة التي تمتعت بوسائل نقل متعددة: طرقات برية، نقل بحري، وسكة حديد.
حاملو القلم من أبناء سمخ
برز بعد النكبة عدد من الادباء والكتاب من أهالي سمخ، خصوصا في اللجوء خارج الوطن، وبعضهم داخله. ومن هؤلاء: فايز قنديل، وهو إذاعي عمل في إذاعة دمشق وكاتب ايضًا. وأحمد حسين مفلح وهو شاعر. ومحمود حسين مفلح شاعر وقاص. وصالح هواري وهو شاعر. يحيى يخلف، كاتب وروائي ووزير الثقافة الفلسطيني سابقا، وابراهيم مالك، كاتب وشاعر.
احتلالان للقرية؛ الثاني هو الاصعب
شكلت سمخ وأراضيها ساحة قتال بين الجيش البريطاني (معظم عناصره من الأستراليين) وبين الجيش التركي – الألماني خلال الحرب العالمية الاولى (1914- 1918). وانتهت المعركة التي وقعت فيها الى انتصار الحلفاء بقيادة الجنرال اللنبي، وفتحت الطريق أمامه نحو مدينة دمشق. وباحتلال الحلفاء لسمخ تنتهي فترة الحكم العثماني التي استمرّت قرابة اربعة قرون.
واستمر الاحتلال البريطاني الذي يُطلق عليه عدد من المؤرخين تسمية “الانتداب البريطاني” حتى العام 1948 وهو العام الذي انتُـكِبَ فيه الشعب العربي الفلسطيني وتمّ تدمير قرابة 531 قرية ومدينة وخربة، ومنها سمخ.
ففي اليوم الأخير من عمر هذا الانتداب وقبل مغادرة الجيش البريطاني لفلسطين قام الجيش السوري بهجوم على منطقة سمخ لاستباق اي تحرك يهودي كان يلوح في الأفق. فاستولوا على مستعمرتي شاعار هجولان ومسادة. لكن الجيش السوري أخلى موقع سمخ في 21 أيار 1948 بعد الفشل في معركتي مستعمرتي دجانيا (أ) ودجانيا (ب). وأستنادًا إلى صحيفة نيويورك تايمز في عددها الصادر بتاريخ 20 أيار 1948 فإنّ الطيران الاسرائيلي قد أغار على مواقع الجيشين السوري والعراقي مِمّا ساهم في استعادة السيطرة على سمخ لأهمية موقعها الاستراتيجي. كذلك نفذت هذه الطائرات غارات جوية على مواقع قرى عربية أخرى في الجوار لتسريع عمليات هروب وخروج الفلسطينيين، وبالتالي سيطرة الجيش الاسرائيلي سريعًا على القرية ومحيطها.
ولا بُدّ من الاشارة هنا إلى أنّه قريبًا من سمخ وعلى بعد قليل تقع “خربة التوافيق”، وفيها وقعت اشتباكات بين العرب واسرائيل زمن الوحدة العربية المصرية – السورية، حيث حركت جيوشهم المنطقة من خلال سلسلة من المناوشات. لكنها في نهاية المطاف لم تثمر كثيرًا.
ما بعد الترحيل، وماذا بقي من سمخ؟
كانت الوكالة اليهودية ومؤسساتها قد أقامت عددًا من المستعمرات الصهيونية على اراضي تمّ تسريبها في سمخ وغيرها من القرى والمناطق في الجوار قبل العام 1948. ومن بين هذه المستعمرات شاعار هجولان ومسادة ودجانيا (أ) ودجانيا (ب). وفيما بعد تهجير وترحيل سكان سمخ وغيرها من القرى وتفريغها من سكانها والاستيلاء عليها فقد قامت حكومة اسرائيل بإقامة مستعمرات جديدة، منها: تل كتسير ومعجان وتسيماح (الأخيرة على اسم القرية الفلسطينية سمخ)، وغيرها.
عائلات كثيرة من سمخ لجأت إلى الأردن وبوجه خاص الى مدينة اربد ومخيمها. في حين أنّ عائلات أخرى اتّجهت في طريق لجوئها الى سوريا وكثيرون منهم استقروا لاحقا في مخيم اليرموك. وهناك عائلات وصلت الى الناصرة ومنها الى كفر ياسيف وغيرها من قرى وبلدات فلسطين الداخل.
لم يبق من قرية سمخ سوى عدد من المباني، من بينها محطة القطار الحجازي وعدد من المنازل التي استخدمتها المستعمرات كمخازن لمعداتها الزراعية او لإيواء أعداد من المواشي فيها. في حين أنّ الأراضي التي استولت عليها تتم زراعتها بالحبوب والموز ومحاصيل أخرى. بالإضافة إلى مبان أقيمت على أراضي القرية وتستخدم للصناعات المتنوعة ولأغراض سياحية.
وأخيرًا…
“توقف نجيب تحت شجرة خروب معمرة، وأطل يراقب مغيب الشمس وانعكاسها على مياه البحيرة.
كان يشم رائحة سمخ، لقد مرّت شهور كثيرة دون أن يراها أو يشم رائحة ترابها ومائها، لكنّها ظلّت تعيش في أحلامه، بل وفي يقظته…
أدركتُ عند ذلك أنّه قد ضاع كل شيء، وأنّ كلّ الدروب أصبحت تُفضي إلى الغربة والشتات، فيا لكآبة المنظر، ووحشة الطريق!”.
من الفقرات الأخيرة من رواية “بحيرة وراء الريح” ليحيى يخلف