عن العلاقة الوثقى بين الفلسفة والأدب، نبحرُ في لجج الحوارية الممتعة التي بثها التلفزيون البريطاني في قناته الثقافية عام 1978 بين الروائية الفيلسوفة آيريس مردوخ (1919-1999) والفيلسوف بريان ماغي (1930-2019). تَرجَمت هذه الحوارية وقدمت لها ونشرتها في كتاب بعنوان “نزهة فلسفية في غابة الأدب” الروائية والمترجمة العراقية لطفية الدليمي، وصدر الكتاب عن دار المدى (بغداد – 2018). تشير المترجمة في مقدمة الكتاب إلى التضمينات الفلسفية في الكثير من المنتجات الأدبية لبعض أعاظم الكُتّاب، وبعضهم كانوا فلاسفة محترفين، ووصفت هذه العلاقة الوثقى بين الفلسفة والأدب بأنها علاقة قائمة وقديمة، وظلّت حقلاً إشكاليًا منذ العصر الإغريقي وحتى يومنا هذا.
آيريس مردوخ
في ترجمتها لهذه الروائية والفيلسوفة قدّمت المترجمة ملخصًا وافيًا لسيرة حياة آيريس مردوخ وأعمالها، ذكرت فيه أنها روائية وفيلسوفة وأستاذة جامعية بريطانية عُرِفَت برواياتها السايكولوجيّة التي تحتوي على عناصر فلسفية مشوبة بنكهة هزليّة، وتركز في أعمالها على جوانب الخير والشر، والعلاقات الجنسيّة، وأنساق الأخلاقيات، وقوة التجربة اللاواعية في حياتنا البشرية. معروفٌ عن البدايات الأولى لآيريس مردوخ أنها في مضمار الفلسفة عندما درَستها في كلية نيوهام بجامعة كامبريدج (1947-1948)، وفي عام 1953 نشرت كتابها الفلسفي الأول “سارتر: العقلاني الرومانتيكي”، أعقبته بروايتها الأولى “تحت الشبكة” عام 1954، ثم توالت بعد ذلك أعمالها الفلسفية والروائية وفي الشعر والنقد أيضًا.
بريان ماغي
في مقدمة ثانية كتبت المترجمة عن مُحاوِر آيريس مردوخ، بريان إدغار ماغي فأوضحت أنه فيلسوف، وسياسي، وشاعر، وكاتب، ومقدّم برامج بريطاني، يُعرف عنه مساهماته الكبيرة في ميدان تقديم الفلسفة إلى العامّة وجعلها مادة تحظى بالمتابعة الجماهيرية القوية. ألف ماغي الكثير من الكتب التي تتناول موضوعات مختلفة في الشعر والفلسفة والسياسة والتاريخ، منها “الصلب وقصائد أخرى” عام 1951، و”رجال الأفكار: بعض صُنّاع الفلسفة المعاصرة” عام 1978، و”فاغنر والفلسفة” عام 2001، كما نشر سيرته الذاتية بعنوان “سحائب المجد” عام 2004.
نص الحواريّة
لعمل حوارية ناجحة مع روائية وفيلسوفة بوزن آيريس مردوخ، كان خيارًا صائبًا أن يتميّز محاورها بالفطنة والذكاء وعلى مستوى من الندية. فبريان ماغي كان هو الآخر كاتبًا وفيلسوفًا، وعبر مساحة أربعة وثلاثين سؤالاً ذكيًا تواصل ماغي مع مردوخ بطريقة أبعد ما تأتي بها مثل هذه الأسئلة بالقوالب الجاهزة المعدة سلفًا قبل الإجابة عليها؛ لكن أسئلته لها كانت تتناسل الواحد بعد الآخر بناء على جواب السؤال الذي سبقه؛ الأمر الذي زاد من المتعة الفكرية لمن سبق وشاهدوا تلك الحوارية على القناة الثقافية في التلفزيون البريطاني، ومثلها ممن قرأوا هذا الكتاب الممتع.
قدّم ماغي للحوارية بالقول: كان بعض عظماء الفلاسفة كتّابًا عظامًا، وأورد أمثلة أكثر تعبيرًا عن هؤلاء الكُتّاب – الفلاسفة هي: أفلاطون، القديس أوغسطين، شوبنهاور، نيتشه، وأمثالهم. أضاف: في وقتنا الحاضر (سنة إجراء الحوار 1978) فإن كلاً من برتراند راسل وجان بول سارتر قد مُنحا جائزة نوبل للأدب؛ لكن ثمة في الوقت ذاته فلاسفة عظامٌ هم كُتّاب سيئون، مثال ذلك الفيلسوف الألماني كانت وأرسطو؛ لكنهما من الكُتّاب الأكثر رداءة في الكتابة الأدبية، وآخرون سواهم كانوا على قدر غير قليل من الركاكة الأدبية.
استنتج ماغي من أن الأمثلة السابقة تكشف بوضوح أن الفلسفة ليست تفريعًا أو حقلاً معرفيًا منتميًا للأدب؛ كون نوعية الكتابة الفلسفية وأهميتها تكمن في اعتبارات أبعد من القيمتين الأدبية والجمالية؛ بمعنى أنّ أيّ فيلسوف لو كان مبدعاً في كتابته فهذه مزيّة تُحسب له؛ غير أن الكتابة الفاتنة لن تجعل منه فيلسوفًا أفضل.
الفلسفة تفعل أمرًا واحدًا فحسب
ليس أقدرَ من فيلسوف انغمس في عالم الكتابة من يعطي جوابًا قاطعًا عن شعوره الواعي الذي ينتابه عند انغماره في كتابة رواية أو كتابة فلسفية. في ردّ مردوخ على تساؤل ماغي حول ذلك الشعور، تقول: إن الأدب يمتّعنا ويملأ أرواحنا بالبهجة على مستويات مختلفة وبأنماط مختلفة هي الأخرى. وبشكل مختصر وصريح، الأدب يوفّر المتعة ويفعل الكثير من الأمور، أما الفلسفة فتفعل أمرًا واحدًا فحسب. خلص ماغي من ردها إلى الإبهام في العبارات في أعمالها الروائية المكتنزة بالغموض والدلالات التضمينيّة؛ في حين أن العبارات في أعمالها الفلسفية طافحة بالشفافيّة والغايات الصريحة لأنها تبتغي قول شيء واحد محدّد في كل مرة، وأكدت ذلك بقولها: أجد نفسي مسوقة بغواية القناعة بوجود أسلوب فلسفي مثالي متفرّد يمتلك خصائصه المعلومة في الوضوح والصرامة، وأن يحاول الفيلسوف توضيح مقاصده بالضبط وأن يتجنّب التفخيمات البلاغية الطنّانة وغير المجدية، وأن يتحدث بصوت محدّد بارد واضح يمكن تمييزه متى ما وجد نفسه يتصدّى لمعالجة واحدة من المعضلات الجوهرية في عمله الفلسفي.
الفلسفة والشعر
يعترف ماغي أن مردوخ هي واحدة من هؤلاء القلّة النادرة الذين يمكنهم تشخيص الفروق الدقيقة بين الكتابة الأدبية والفلسفية؛ فأفصحت أن الكتابة الفلسفية ليست شكلاً من أشكال التعبير الذاتي؛ بل هي تنطوي على كبح منضبط للصوت الذاتي. الأدب هو الآخر ينطوي على شيء من ضبط الصوت الذاتي وتحولاته خلال العمل الأدبي، وأضافت: بل حتى يمكن للمرء إقامة نوع من التماثل بين الفلسفة والشعر الذي تراه أصعب أشكال الكتابة الأدبية وأكثرها تطلبًا ومشقة؛ إذ يتطلب الأثنان (الفلسفة والشعر) ضغطًا وتنقية للعبارات المكتوبة التي تبتغي إدماج الفكر في اللغة وبطريقة محددة وشاقة للغاية. الكاتب الأدبي، كما ترى مردوخ، يترك قاصدًا مساحة من الحرية للقارئ لكي تكون ملعبًا خاصًا له؛ أما الفيلسوف فلا يمكن – والأصح لاينبغي – أن يترك أي مساحة للقارئ لئلا يعيد تشكيل العمل الفلسفي كيفما تقوده رغباته. تحدثت مردوخ في مكان آخر عن اعتقاد أفلاطون بوجود نزاع قديم بين الفلسفة والشعر مع عدم إغفال حقيقة أن الفلسفة في زمن أفلاطون كانت تنبثق للتوّ من رحم كل أنواع التأملات الشعرية واللاهوتية.
وعودةً إلى التباين بين الفلسفة والأدب، يسألها ماغي كيف تشخّص الأدب باعتباره حقلاً إبداعيًا متمايزًا عن الفلسفة؛ فكان جوابها: يمكن القول إن الأدب هو الشكل الفني الذي يوظّف الكلمات، وعلى هذا الأساس يمكن للكتابة الصحفية أن تكون أدبًا إذا ما راعت بعض الاعتبارات الفنيّة. الأدب حقل واسع الأطياف وشاسع المديات؛ بينما الفلسفة أصغر من الأدب من حيث الأطياف والمديات المبتغاة. الفلسفة مبحث ينطوي على الكثير من المشقة والصعوبة.
الفن بين أفلاطون وشوبنهاور
وعن الاحتكاك بين الفلسفة والأدب، طرح ماغي موضوعة تناول بعض الأفكار الفلسفية بشأن الأدب، وبعض القيم التي لها ارتباط وثيق في الفنّ: يبدو لي أن هذا الابتذال المقترن بالفن هو السبب الذي يجعل بعض الفلاسفة يتخذون موقفًا عدائيًا من الفن، وأورد مثلاً كتابها المرجعي الممتاز في الفلسفة المنشور آنذاك – وقت إجراء الحوار – بعنوان “النار والشمس”، 1977، وهو مناقشة النزعة الأفلاطونيّة تجاه الفن. أراد سماع رأيها في السبب الكامن وراء تلك الروح العدائية من أفلاطون تجاه الفن؛ بينما هو نفسه استخدم الكثير من الأشكال الفنية في أعماله مثل المحاورات والكثير من التخييل الروائي في أعمال أخرى.
أكّدت مردوخ أن أفلاطون كان ذا توجه عدواني واضح تجاه الفن؛ كونه كمفكر سياسي كان يكتنز في داخله خوفًا عميقًا من سطوة المشاعر غير العقلانية التي تثيرها الفنون، لذلك فضّل دومًا الرقابة الصارمة ولجأ إلى استبعاد المشتغلين بكل الفنون الدرامية من الدولة المثالية، وفي زمنه عزلت الفلسفة نفسها عن الأدب.
عقّب ماغي: ثمة فيلسوف واحد رأى ضرورة استثنائه من تلك المثلبة التي وصم بها الفلاسفة دومًا، وقصد بذلك الفيلسوف شوبنهاور الذي رأى أن الفن قيمة جوهرية أساسية في الحياة الإنسانية بالضد من النزعة الأفلاطونية تجاه الفن. تردّ مردوخ: نعم بالتأكيد. تخالفَ شوبنهاور مع أفلاطون الذي رأى في الفن وسيلة لمنح المتعة الذهنية للجزء الأنويّ الأحمق من الروح الإنسانية؛ لكنْ من جهة أخرى رأي شوبنهاور أن الفن يسعى حقًا وراء الأفكار ويمكنه حمل تلك الأفكار ونقلها للآخرين، وأنّ الفن يزيح قناع أو ضباب الذاتية ويجعلنا نمسك بفيض الحياة في تيارها الهادر.
الفلسفة ووظيفة الفنان في خدمة المجتمع
يعود ماغي لمحاورة مردوخ عن إحدى المعضلات الملازمة بشكل مؤكّد تقريبًا لكل فلسفة للفنّ بكونها تنطوي في جوهرها على طبيعة إقصائية، فإن كان البعض يظن أن كلّ الأدب ينبغي له الانضواء تحت شكل محدد من أجل الإيفاء بمتطلبات تلك الفلسفة؛ عليه فكل ما لا يفي بتلك المتطلبات يعتبر شيئًا خارج نطاق الفنّ.
يبدو من حسن طالعنا جميعًا، تعقّب مردوخ، أنّ الأدباء لا يعيرون الكثير من الاهتمام إلى الفلاسفة؛ لكن يمكن للفلسفة أحيانًا أن تدمّر الأدب من حيث أنها قد تعمي أبصار الناس عن رؤية بعض أشكاله. أعطى ماغي مثلاً لذلك بالفلسفة الماركسية: كان للفنّ دور محدد يتلخّص في كونه أداة للثورة الاجتماعية، ونعت أشكال الفن الماركسي من روايات ومسرحيات ولوحات فنية وأعمال نحتية بأنها نفايات عقيمة.
ما الذي تفعله الفلسفة في غابة الأدب؟
يعود ماغي هنا لتناول موضوعة الفلسفة في الأدب، فبعد أن تناول في البدء موضوعة التميّز بين الفلسفة والأدب، تناول الرواية كأحد الأمثلة في هذه الموضوعة؛ وضرب لها مثلاً بعض الفلاسفة والمفكرين الضاربين في الشهرة مثل فولتير، وروسو، وجان بول سارتر، عرف عنهم صنعتهم الرواية المُجيدة، وفي المقابل روائيون ملك التأثر بالأفكار الفلسفية عقولهم وأرواحهم مثل تولستوي في “الحرب والسلام” في أنه حاول في روايته تلك التعبير في فلسفة محددة للتاريخ. وأيضًا دوستويفسكي كونه أعظم كاتب بين الكتّاب الوجوديين وبخاصة بين مناصري هذا المذهب الفلسفي. أجابت مردوخ ببرود: لستُ أرى في العموم أيّ دور للفلسفة في الأدب، ولستُ من المُنافحين عن هذا الدور وإعلاء شأنه بأيّ شكل من الأشكال، ورأت أن الفلسفة متى ما أقحمت في الأدب فإنها تستحيل دمية يلهو بها الكاتب ويحرفها عن مآلاتها المرجوة لها.
لكن ماغي لم يرتضِ تفسيرها هذا، قائلاً: لستُ واثقًا من أنني أشاطركِ القبول الكلي بما صرّحتِ به للتو. يخبرنا تولستوي في (الحرب والسلام) أنّ الإعلان عن نظرية محددة في فلسفة التاريخ هو أحد الأهداف الكبرى التي سعى لتحقيقها في روايته تلك. أضاف: إذن ثمّة روايات عظيمة تمثّل الأفكار الفلسفية جسمًا أصيلاً في هيكلها الروائي.
الحق، أردفت مردوخ، أنني أشعر برعب قاتل يتملكني متى مافكرتُ بإقحام الأفكار الفلسفية في رواياتي، ويردُّ ماغي في مكان آخر: يبدو لي أنكِ تريدين تأكيد حقيقة أن لامكان للفلسفة في الأعمال التخييلية ما لم تكن الفلسفة موضوعًا للكتابة كشأن سواها من الموضوعات العديدة التي يتناولها الكاتب، وأكّد أنه يميل لتأكيد حقيقة وجود روايات عظيمة وظّفت الأفكار الفلسفية لا كمحض موضوعة مثل سائر الموضوعات بل كجسم أصيل في هيكل العمل الفني. وسبق ذلك الحديث عن نظريات سارتر وعن (الغثيان)، واكتشاف المرء في روايات سارتر العديدة وكذلك في روايات سيمون دي بوفوار أنّ الكاتب متى ما لجأ إلى اعتماد (الصوت الوجودي) فإن العمل الفني يكتسي شيئًا من الصلابة، وبشكل عام، تضيف مرودخ، أراني غير معتدّة بإمكانية أن تكون البنية التحتية للعمل الأدبي فلسفية.
نعود للتساؤل: إذا كان الأدب يوفّر المتعة ويفعل الكثير من الأمور، تُرى ما الأمر الواحد الذي تفعله الفلسفة فحسب؟ وما الذي وجدته الفيلسوفة آيريس مردوخ في غابة الأدب؟