في الثاني من تموز 2014، الموافق للسابع من رمضان، خرج الفتى الفلسطيني محمد أبو خضير من بيته في شعفاط قبيل صلاة الفجر وجلس بمحاذاة متجر يقع على الشارع الرئيسي. فيما كان محمد يغادر منزله بعد تناول السحور كانت مجموعة من المستوطنين تتجوّل في المكان بحثًا عن فلسطينيّ، أيًا كان، وقتله انتقامًا لمقتل ثلاثة أولاد مستوطنين. قام المستوطنون باختطاف أبو خضير وضربه وحرقه حيًا في غابة قريبة، فهبّ الآلاف واحتجّوا وأغلقوا الشوارع في محيط القدس، وشيّعوا محمد كما تفعل فلسطين لكل شهيد. واستمرت المواجهات أيامًا بعد مواراة ما تبقى من جسده.
بعد 5 سنوات من ارتكاب الجريمة خرج للنور مسلسل يحمل اسم “Our Boys” أو باسمه العبري “HaNearim” (الفتية) من تأليف مجموعة مخرجين، وإخراج الاسرائيلي يوسيف سيدار والفلسطيني توفيق أبو وائل. إسرائيليًا، لاقى المسلسل المؤلف من عشر حلقات معارضة وانتقادات شديدة، ووصفه رئيس الوزراء آنذاك بنيامين نتنياهو بأنه دعاية مسيئة لإسرائيل.
بالتزامن مع الذكرى الثامنة لاستشهاد ابو خضير، ما من شك في أن هناك حاجة لطرح التساؤلات حول النيّة من وراء إنتاج مسلسل كهذا. ولماذا يختار صانع العمل ومنتجه رواية حكاية الشهيد ابو خضير دونًا عن غيره من الشهداء؟ هل لأن مرتكبي جريمة قتلهِ أفراد وليسوا ذراعًا من أذرع المؤسسة الاسرائيلية، وبالتالي يتيح فتح النقاش للمؤسسة أن تتبرأ من فعلتهم؟ هل لأنه من الممكن توليف قصة خلفية لارتكاب الجريمة يمكن أن يتعاطف معها العالم؟ هل لتبرير الفعلة على نسق المؤسسة الإسرائيلية والتذرع بكون الفاعل غير سليم عقليًا؟ أم قد يتوقف العالم للحظة وينظر تجاه القضية الفلسطينية محاولًا الإضاءة على أحد جوانبها المؤلمة التي يخفيها عن الأنظار بمنهجية واحتراف؛ خطاب الضحوية الإسرائيلي!
كمعظم الأعمال التي تبرز فيها وجهة نظر إسرائيلية، فالقصة ليست قصة أبو خضير الفلسطيني الذي يعيش تحت الاحتلال، ليست قضية شعبه، ليست محاصرة أهل القدس والتضييق اليومي على حياتهم، ليست الاستيطان في البيوت المقدسية وطرد أصحابها، ليست الحرب الدينية ومحاولات بناء الهيكل على أرض الحرم القدسي، ليست حرب على السيادة وجعل القدس عاصمة إسرائيل وتغيير هويتها، ليست حياة محمد أبو خضير الشخصية ولا التنكيل بمشاعر والديه بعد استشهاده! بل هي بحث درامي ونظرة تتفحص أحدى مجموعات المجتمع اليهودي، ما الذي يدور في فلك هذه المجموعة؟ وكيف يعيش أفرادها؟ وما هي قناعاتهم وقيمهم؟ وكيف تنظر المؤسسة الى هؤلاء، سواء على مستوى الشرطة أو المخابرات. أما السياق الحقيقي والواقع فيغيبان هنا، وتنطلق أولى الحلقات من غرفة محمد أبو خضير الصغيرة ولا تخرج منها الى قلب الصراع بتاتًا؛ وكأن الجريمة ترتكب في دولة طبيعية، تعيش فيها أقلية عنصرية كارهة لأقلية أخرى، وما مبادرة ارتكاب الجريمة إلّا فعل شخصي يأتي كردٍ على فعلٍ عيني منقطع عن أي فعل تاريخي أكبر!
يتعمّق هذا العمل في المجتمع المتدين المغلق الذي ينتمي إليه يوسيف حاييم بن دافيد مخطّط الجريمة ومنفذها، مجتمع يرتاد أفراده المدارس الدينية، قلّما يتلقون من العلوم غير علوم الدين والشرع اليهودي، لا يلتقون إلا بأفراد مجتمعهم، يغذون بعضهم بعضًا من خلال المعاملات اليومية، والزواج. لهم محاكمهم المجتمعية والدينية، لهم قانونهم، ولهم أعداؤهم -كل من يخرج عن تعاليمهم، أو يتعاطى مع المحيط الخارجي دون استشارة “الراب”- معلّم الدين الأكبر.
في أداء جميل، ومقنع ومتقن يقوم الممثل الإسرائيلي أور بن ميليخ بدور يوسيف حاييم، شخص موصوم بالعلّة النفسية، وهو ابن “الراب” شالوم الذي يترأس المجتمع ومن فمه تصدر الأوامر والأحكام. طوال فترة ظهوره على النص يحاول يوسيف حاييم إرضاء أبيه، فيقوم بدعوة العائلة لتناول الطعام في بيته، ويحاول شراء الحاجيات لأولاد إخوته، ويرافق شبانًا يصغرونه سنًا محاولًا اقناعهم القيام بعمل يعيد إليه الشعور بالقوة ولوالده الفخر. وفق المسلسل؛ تشكّل كل الظروف المحيطة بيوسيف حاييم طريقًا لجعله يرتكب “الحماقات” فتقوده الرغبات المستميته ليكون مقربًا من والده واثبات نفسه في مجتمعه إلى التفكير بالانتقام لثلاثة مستوطنين أولاد قتلوا على يد فلسطيني ودفنوا قرب الخليل- علّ ذلك يحوله إلى بطل قومي!
نتتبع خطى يوسيف حاييم وهو يحاول فاشلاً اختطاف طفل فلسطيني في وضح النهار، ثم نرافقه وهو ينجح في ذلك برفقة شابين آخرين ويكون الضحية محمد أبو خضير.
منذ ارتكاب الجريمة وبدء عائلة أبو خضير بالبحث عن ابنها، تنتقل الكرة من ملعب المجتمع اليهودي المتدين الى ملعب الأذرع الأمنية الإسرائيلية، والخط الواصل بينهما متمثلًا في شخص رجل المخابرات سيمون الذي كان تابعًا لهذا المجتمع ثم قرر الخروج منه. نظرًا لمعرفته العميقة بخبايا المجتمع المتدين، يتحوّل سيمون الى شخصية مركزية في عملية التحقيق، والى جانبه ضباط يختلفون في التوجهات والمواقف والآراء، ونرى الجريمة المروعة محصورة في غرف معتمة مليئة بالحواسيب والنقاشات، ونرى الحرص الإسرائيلي على معرفة الجناة والدوافع والخطة تاركًا حسين أبو خضير -الوالد الثاكل- رهينة في غرفة تحقيق وكأنه الجاني!
تنكّل الشرطة والمخابرات بمشاعر عائلة محمد أبو خضير، منذ ترك والده منتظرًا لساعات في مكاتبها، مرورًا بـ “اتهامه بالمثلية” وانتهاءً بفرض التقييدات على الجنازة. في مشهد يتيم يثور حسين أبو خضير، مذكرًا الشرطة والمخابرات بأنه الضحية، وهي ما تحاول دولة الاحتلال بكل قدراتها اللوجستية أن تمحوه من خلال التشديد والتأكيد على أن الضحية الوحيدة هنا هم اليهود الذين يواجهون خطرًا وجوديًا، وأن كل فعل للاحتلال ما هو إلا محاول للبقاء! لكن مشهد حزن والديّ محمد أبو خضير المقتضب لا ينصف الحكاية الحقيقية التي سرعان ما تطغى عليها صور الشبان الفلسطينيين وهم يغلقون الشوارع، ويقطعون الطريق أمام القطار الخفيف، ويحرقون الإطارات ويقذفون أفراد الشرطة ووحداتها الخاصة بالحجارة، تاركين ضباطًا برتب رفيعة يشعرون بالغضب اضطرارهم قمع الغضب الفلسطيني الهادر! انهم عالمون بمدى فداحة الموقف، وفظاعة الجريمة، لكنهم حريصون طوال الوقت على كبح جماح “الأقلية” العنصرية، فها هم يسجنون ويحققون مع “فتية التلال” (مجموعات منظمة من الفتيان والشباب الذين يقومون باعتداءات على الفلسطينيين – مثل حرق عائلة دوابشة ) ويعملون جاهدين على منعهم من الاعتداء على الفلسطينيين!
إن كون أبو خضير فتي، وكون المستوطنين الثلاثة فتية، وكون الأصوات المتعالية من السجن أصوات “فتية التلال” يجعلنا نلتفت إلى الاسم الأصلي للمسلسل باللغة العبرية “الفتية”. فهل وضع صنّاع المسلسل كل هؤلاء الفتية على قدم المساواة في حياة مركبة على أرض فلسطين التاريخية؟!
أما عند المحاكمة فنرى مشهدًا غاية في الواقعية يبدو مألوفًا من قاعات المحاكم الاسرائيلية في أحداث شبيهة، عندما يعتلي منصة الشهود طبيب نفسي ليقدم شهادة حول عدم أهلية مرتكب الجريمة، وبالتالي يكون حكمه مخففًا.
في لحظات قصيرة نعود الى بيت عائلة أبو خضير، نرى عائلة طبيعية، نلتمس دفئًا رقيقًا في العلاقة بين الوالدين سهى وحسين، ونرى أمًّا تحاول اقتفاء أثر الحب والفرح في حياة ابنها القصيرة. تنشغل الأم في بعض رسائل الحب التي تبادلها ابنها مع شخصية ما، وتغامر خارجًة إلى اسطنبول للقائها.
قد نستشعر بعضًا من النقد لمظاهر تكريم والدة محمد أبو خضير في اسطنبول، ونشعر بأن جزءًا من التضامن ما هو إلا طقس سرعان ما تخبو ناره بانتهاء “العرض”.
عندما تفتتح الحكاية بمشهد مقارن ما بين تتبع عيون سهى أبو خضير ابنها وهو يجلس في مرمى نظرها قرب البيت، ورؤية مكان جلوسه فارغًا فيما بعد، نعتقد أننا سنتجوّل في سيرة هذا الشهيد، سنتعرف إلى شخصيته، وأحلامه، وأصدقائه، سنعي واقع حياته وما يشكله وجود المستوطنين على مقربة منه. لكن الحكاية تختتم تاركة في ذهننا محققًا إسرائيليًا “بطلًا” سعى جاهدًا إلى كشف الحقيقة، مشكلًا بذلك خطرًا اجتماعيًا على والدته المسنة التي تتبع للمجتمع اليهودي المتدين، هذا المجتمع الذي أفرز مجرمًا لكن السيناريو يود أن يقول أن ذات المجتمع أفرز أيضًا شخصًا يسعى وراء الحقيقة وربما العدل!