منذ احتلاله في العام 1967، لم يغب الفعل الثقافي عن أرض الجولان العربي السوري. هذا الفعل الآخذ بالتزايد والتطور من فعاليات وبناء أطر مسرحية ومراكز ثقافية، كانت حصة السينما فيه قليلة. فحتى يومنا هذا أنتج صنّاع السينما الجولانيون عددًا قليلًا من الأفلام -ويعود ذلك إلى عدّة أسباب أهمها التمويل- فأخرج إيهاب طربيه فيلمه الروائي القصير “المنسيون” بطولة الراحل طارق قبطي، وسيرى فيلمه الجديد النور قريبًا تحت اسم “طعم التفاح الأحمر”؛ وأخرج أمير فخر الدين أفلامه الروائية القصيرة “بين موتين” و “بريد صوتي”، وفيلمه الروائي الطويل “الغريب”؛ وأخرج وسيم صفدي فيلمه الوثائقي القصير “الحصار”؛ وأخرج سليم أبو جبل فيلمه الوثائقي الطويل “روشميا”، وهو بصدد العمل على فيلمه الوثائقي الثاني.
اختار المخرج سليم أبو جبل في فيلمه “روشميا” الحديث عن حي روشميا في حيفا، وتحديدًا حول عائلة فلسطينية تسكن المكان المحاصر بمخططات التطوير العمراني. أما زملاؤه فخاضوا في أفلامهم مغامرة ترتبط بالوطن الأم سوريا، ساروا بين كروم التفاح والكرز، ووقفوا أمام الشريط الحدودي، وغاصوا عميقًا في نفس البطل وأفكاره التي طغى عليها الهروب المجازي نحو الوطن.
في “حصار” وسيم الصفدي نتعرف إلى حكاية الجولان بشكل مباشر، نعيش لحظة الشعور بالفقدان مع السيدة التي تتحدى جنود الاحتلال علها ترى وجه والدها بعد سنوات طوال من الغياب؛ نرافق الطبيب الذي تعلّم في الوطن الكبير وعاد إلى الوطن الصغير حيث تم وضع الحدود بصورة غيّرت الواقع والحياة، وجعلت الحرب على الكيان والوجود والهوية أمرًا يوميًا، صراع التشبث بالثقافة والانتماء أصبح الألم فيه روتينًا، والبُعد حاضرًا، والتيه مستقبلًا.
يبكي أهالي الجولان كرمى لأهل قرية حَضَر المتاخمة، يقفون قرب الحدود وعيونهم تنظر شمالًا نحو امتدادهم الطبيعي، يصمت بعضهم ويتحدث آخرون عن الاحتلال الهادئ الذي ينخر عظم قراهم، يضيّق المساحات ببناء المستوطنات، ويخنق كرومهم بشح الماء كي يمنع الجولانيين من إحياء الأرض، كما يقول العم علي عويدات.
المجتمع المنسي، يصف وسيم أهالي الجولان؛ ثم نسمعه يقول “حافظ على تبقى منك” ونراه يختتم فيلمه بمقطع من قصيدة محمود درويش… نربي الأمل. فيغادر الصفدي شاشتنا وهو مصر على أن الأمل لا زال هناك رغم كل محاولات الاحتلال ترويض الناس.
إن ما يقوله وسيم الصفدي وثائقيًا يقوله كل أمير فخرالدين وإيهاب طربيه روائيًا.
مصطفى -المنسي هو المُسن الهارب لجوءًا إلى بقايا قريته في الجولان، واحدة من عشرات القرى التي هُجرّت وهدمت، يعود باحثًا عن بيته وبقرته، تائه هو مصطفى لأن ذاكرته آخذة بالتلاشي. قصة مصطفى في فيلم “المنسيون” لإيهاب طربيه هي قصة العائد، عابر الحدود الذي يخاطر بروحه كي يموت على أرض ولد بها، يعود كي يسترجع ما تبقى من الذكريات قبل أن تستولي عليها احتلالات فعلية ومجازية.
يساعد المهربون مصطفى في تحقيق رغبة تبدو الأخيرة في مشوار حياته، يقطع الحدود ويبدأ البحث عن الطريق التي تنتهي في قريته “عين فيت”، يدخل مصطفى حقل ألغام ساعيًا وراء وَهم بقرته التي رآها تبتعد، ودخوله هذا يرتبط كثيرًا بالواقع، فالبقاء في الجولان والتمسك بالأرض والبيت هو حقل ألغام تغذيه أذرع الاحتلال التي تعمل جاهدة لدفع الناس للاستسلام.
يروي مصطفى للمُهرّب قصصًا عن قريته وحياته السالفة، ثم يسير ببطء نحو المجهول في مسار مائي يزداد عمقه شيئًا فشيئًا، ويغيب مصطفى في ظلام مغارة دون أن نعرف مصيره.
أما “الغريب” الذي اختاره أمير فخر الدين بطلًا لفيلمه فهو تائه آخر، جولانيّ خرج لدراسة الطب في الوطن وعاد إلى الجولان ليقضي أيامه بين الكروم، فاقدًا الشعور بالوجود. يفرض عليه الواقع هوية لا تشبهه، ولا تشبه أيًا من أهالي بلده، حتى بقرته التي تحلب الدم بدلًا من الحليب تعلن بهذا العداء للاحتلال ومحاولاته تدجين كل حي في قرى الجولان، “كتفاحة زرعت في غير تربتها” يعلن الغريب جهارًا عن موقفه من محاولات الاندماج في مجتمع المُحتل! يشبه “الغريب” مصطفى، يعرف ما يريد لكنه مراده صعب المنال، فهو لا يريد أن ينتمي إلى الحلول المؤقتة.
و”كميل” بطل فيلم “بين موتين” هو غريب آخر يبلغ من العمر ما بلغه مصطفى. صامت، يخرج من بيته في الصباح برفقة الراديو وزوجته، يصاحبهما صوت النار القادم من أرض سوريا حيث تدور معارك دامية. يعيش كميل بين موتين، الموت من جهة الشمال حيث تدور رحى الحرب، والموت الآخر المتمثل في البُعد القسري عن الوطن. القلب والأذن يُصغيان فقط إلى الأصوات الآتية من الشمال. هل الحياة في ظل الاحتلال موت؟ هل الحرب هي الموت؟ أي الموتين نختار أم قد تمضي حياتنا عالقين بين الموتين؟
على الرغم من انتظار الفلاح للمطر إلا أن كميل لا يكترث للنشرة الجوية ولا لكثافة الغيوم فوق رأسه، فالغيمة التي تمركزت فوق قلبه أكثر سوادًا. “تعال نولع نار قبل ما تشتي” تقول زوجته، ربما تكون هذه رسالة ترتبط بالأمل الذي لوّح به الصفدي أيضًا. لكن الراديو تنتقل من صوت الحرب إلى أغنية فيروز وهي تغني “لا تندهي ما في حدا” فأي رسالة تحملها هذه الجملة؟ أهي إجابة لمن تريد ايقاد النار لمحاربة البرد؟ أهو تلميح لغياب قضية الجولان عن أجندة الحكم في سوريا؟ أهو فقدان الأمل بالتحرير نظرًا للواقع المعقد؟ أهو خوف من المستتر والتحوّل إلى جزء من مجتمع محتلٍ يُمطر الجولانيين بالتضييق الذي قد يجري بسرعة فيسلخ عنهم هويتهم؟
تدور أحداث “الغريب” و “بين موتين” و “المنسيون” في الشتاء، وبرد الجولان في فصل الشتاء لاذع، والصمود أمامه تحدٍ، فما من شك أن الرمادي الذي يغطي أجواء الأفلام الثلاثة ليس صدفة، هذا هو الحال في الواقع، رمادي واسع يبتلع حياة الناس، شعور بالضيق والاختناق لحضور مظاهر الاحتلال وسط السرد متمثلة بالجنود والمركبات العسكرية والحواجز والحدود.
“أكرم ” في فيلم “بريد صوتي” ينضم إلى ركب المنسي والصامت والغريب ويجمع ثلاثتهم في شخصه الذي يجسد حال مئات الشباب الجولاني الذين يعيشون ويعملون في مدن دولة الاحتلال. يبدو أكرم عاملًا يتقاسم غرفة صغيرة من عدد من العمال، يقضي وقته ملاصقًا للشباك يراقب جارته الإسرائيلية الممثلة، ويستمع بين حين وآخر إلى رسائل والدته الواردة عبر البريد الصوتي.
أكرم يعيش في مدينة إسرائيلية، يجلس مستمعا إلى أغنية أسمهان “يا طيور” وهو حبيس في قفص الغربة، وحيدًا. تعبّر والدته في رسائلها المتكررة عن شعورها بالاشتياق، تحدثه وكأنما يجلس أمامها، تذكره بالعادات والتقاليد وتدعوه للمشاركة في عرس ابن عمه ليجد لنفسه من بين الفتيات عروسًا. تذكره والدته بأن الشتاء يقترب، وأنه يحب الثلج.
ها هو الشتاء والبرد يطل علينا من جديد ويذكرنا أن الثلج الأبيض يصاحب الغيوم الرمادية، وأن الشتاء سينتهي ليأتي بعده ربيع تعيش فيه الطبيعة حالة من التجدد، وربما هذه رسالة اخرى من وراء اختيار الشتاء موتيفًا متكررًا في أفلام الجولانيين، فالأمل سيشق طريقه من قلب الضباب.
يبدو واضحًا أن الاغتراب والغربة والحنين للوطن وتحديات الانتماء والهوية، وسط حياة يومية قاسية تتطلب من الجولانيين جهدًا كبيرًا للبقاء، هي العنوان الكبير للسينما الجولانية. التأكيد على أن الوضع الحالي مؤقت، والأمل هو اعادة رسم الحدود بالصورة التي يريدها أهالي مجدل شمس وعين قينيا ومسعدة وبقعاثا. يستخدم بعضهم المجاز والرمزية ويختار آخر مشاهد واضحة المواقف والمعاني، يتنوع الابطال في أعمارهم وخبراتهم وممارساتهم اليومية وكلمات مونولوجاتهم، يختلف الأسلوب الفني، وتتنافس الحكايات فيما تتحد الرسائل وتتشابك.
تنسج السينما الجولانية حكاياتها من الحياة اليومية للمخرج، من بيئته المحيطة، وخبرته وتجاربه، بالتالي تتسم بالكثير من الواقعية والحقيقة. فيها متسع كبير للألم والمشاعر القوية، تنتصر هذه الأفلام للإنسان وتناصر قضيته وتضعه في مركز الكون السينمائي. لكن الواقع يصارع البطل ويجرده من البطولة، تحيطه الهزيمة من كل الجهات، هزيمة 1967 التي جرّت وراءها سلسلة من الهزائم تذيلها عدم القدرة على الانتفاض!
قد يصطفي المخرج بطله من بين الآلاف، أو يمنع عنه الكمال، ربما يضع في فمه كلامًا لا ينتهي وربما يحكم عليه بالصمت؛ وقد يشوش الضباب الطريق ما بين الكروم أو على امتداد الشريط الحدودي فلا تعود صور قرى جنوب سوريا واضحة المعالم؛ إلا أن الصورة التي تلتقطها العين واضحة، وبوصلة العمل الفني -كما قلب صاحبه- هي الوطن أبدًا!