إن اتكأنا على فاعلية الثنائيات الضدية بمعناها الوظيفي للتعبير عن دلالة التناقض، في التعامل مع مفهوم الحرية مقابل تعريف السجن، سنكتشف أن فضاء السجن قد يكون أكثر الأماكن رحابة لاحتضان مفهوم الحرية، باعتبار الأول ملمح تغييب للإنسان، فيما الثاني فرض حضور، في ظل تجاذب طرفي الصراع (السجان والأسير) لإثبات الوجود والنفي. بهذا المعنى يمكننا أن نقرأ رواية “الخزنة – الحب والحرية” (دار طباق للنشر والتوزيع 2022) للأسير المحرر عصمت منصور، في مغامرته الأولى بعد التحرر، والثالثة من حيث الترتيب بعد رواية “السلك” عام 2013 ورواية “سجن السجن” عام 2010، إضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان “فضاء مغلق” عام 2011 كنتاج أدبي لحوالي عقدين من الأسر قضاهما في سجون الاحتلال.
والمشترك الواضح في المنتج الأدبي للكاتب منصور، كما يتضح من العناوين سالفة الذكر، هو السجن بوصفه الفضاء المكاني، المعادل للفضاء الجغرافي الكلي في بعده الصراعي بين المستعمِر والشعب الواقع تحت الاستعمار، حيث تعد “حياة الأسرى عينة مصغرة عن حياة المواطنين في الأراضي المحتلة، يمكنها تبسيط الصورة وإيضاحها لفهم المشهد الفلسطيني برمته” على حد تعبير الأسير وليد دقة في دراسته المعنونة بـ”صهر الوعي”.
الحكاية…
اختار منصور مقاربة فلسفة الوعي بالحرية في موقعة النفق عام 2021 ، لتكون موضوع سرديته “الخزنة”، باعتبارها القاعدة الأساس لمقاربة مفهوم الحب بسر قوته الكامن في منطقه الحالم، فجاء العنوان الفرعي “رواية الحب والحرية” ببساطة لأن “الرغبة في الحريّة قويّة، أخاذة، ومستبدة، لا لشيء سوى أنّها تنبع من أكثر الأشياء ليناً في النفس البشرية، الحبّ” (ص15)، ولكن القارئ المنتبه، سيلاحظ أن كلمة السر في العلاقة بين الحرية والحب لا تقتصر على الرغبة أو الحلم وحسب، ولكنها تمتد لتُعبر عن هواجس النفس البشرية في أكثر حالاتها هشاشة وقوة في آن.
هكذا قص علينا عصمت منصور حكاية تحدّ على نحو شديد الاقتضاب في ستة فصول موزعة على 174 صفحة، استعار خلالها صوت السارد خالد ليروي جزءاً من تجربته الشخصية مضيفاً إليها بعدا تخييليا، افتتح بها سرديته بصيغة ضمير المخاطب في الفقرة التالية ” لا أعرف أيّ حدث هو الذي يمكن أن اعتبره الأهم في حياتي داخل الأسر، أو إذا كانت هناك أحداث يمكن اعتبارها مهمة، أو أهم من غيرها، في حياة رتيبة، محدودة الحركات، ومحصورة بين أربعة جدران” (ص13).
من هذا المفتتح، ذهبت سردية منصور لترصد يوميات مجموعتين من الأسرى قررت كل مجموعة على حدة أن تنتزع حريتها انتزاعاً لا يحقق الحرية وحسب، ولكنه يواجه اليأس في الصدور، بجرعة أمل تؤكد إيمان الكاتب بالمقولة التي تشير إلى أن “السجن ينتهي عندما نقرر، ونريد” (ص14-15)، علنا نعي أن فعل الهزيمة أو الانتصار يبدأ داخليا، ليصبح السؤال: ماذا نريد؟ وكيف لنا أن نحقق ما نريده؟
في الحكاية، تكتشف كل مجموعة، ما تنوي الأخرى القيام به، فتقررا التعاون فيما بينهما لتصبح المجموعتان، مجموعة واحدة، هدفها الأسمى هو تنفيذ خطة هروب على نحو هادئ ومحكم، يحفل بالإنسان الأسير وهو يصنع معناه في سياق لم يخل من القلق، والتشوش، والغموض، والترقب، والخوف. وهي الحالة التي عبر عنها خالد السارد الأساسي ابن تنظيم فتح في الرواية، قبل الدخول في شراكة مصير مع مجموعة من حركة حماس، وهو يقول: “كنا عاجزين، نتأرجح بين تعقيدات السجن، وانعدام الأدوات، والاجتهاد في الحفاظ على سريّة محاولتنا، وكأننا نسير على خيط رفيع وهش” (ص24).
ولمّا كان للبنية المكانية دور أساسيّ في نسج حبكة السرد، كان لعنصر الزمن الروائي دوره الفاعل في خلق حالة تعاقدية بين ثابت النطاق المكاني، ومتحرك البنية الزمنية، فتوسعت رقعة السرد، بغية كسر نمطية التناول السردي فيما يعرف بأدب السجون، فضلاً عن تشريح هذه الحقبة الاستثنائية في حياة الأسرى من منظور داخلي وآخر خارجي، مما شكل لحالة الحب مساحة مكنتها من مقاربة وهج الحرية المتدفق لدى شخوص العمل وقارئه على حد سواء. وهو ما يمكن أن نفهمه من العجوز مريم وهي تخاطب خالد بعد تحرره قائلة: “لماذا تتمرس في هذا الحصن؟ انطلق! أرفس الجدران.. بسطت يدها ومدتها صوب النافذة وقالت: الأفق مفتوح أمامك، ليس مطلوبا منك سوى أن تجتاحه بقلبك الجبار، الذي أكاد أسمع صوت خفقانه” (ص158).
الأسلوب بين التكلف والبساطة
مال عصمت منصور في سرديته “الخزنة” إلى تقديم العديد من الحكم والأفكار الفلسفية بلغة بدت متكلفة ومبالغ فيها إلى حد بعيد، خاصة وأنها وردت على لسان عدد من شخوصه، بشكل لم يحدث فوارق فكرية في لغة الخطاب بين هذا الصوت وذاك كما نلحظ من حوارات خالد، سامر، سفيان، والعجوز مريم، مما أدخل العمل في إشكالية أسلوبية على حساب المضمون، كأن نسمعه يقول على لسان سامر: “الفرق الحقيقي في حالتنا التي ننوي عليها هو: قوة العادة (…) انتبه! إنّك قد تجد نفسك في مكانه (يقصد السجان)، إذا ما أغفلت نفسك واعتدت السّجن، إنّه يعتاد الحياة والروتين والوظيفة التي يؤديها، بينما نحن نقاوم العادة، ونتمسك بكلتا يدينا بطرفي خيط، يشدنا كل طرف منه إلى اتجاه مختلف (…) وحتى أكون أكثر تحديداً، محظور علينا أن نألفه” (ص19) مثل هذا الجزء من الحوارات كنموذج، يشعر معه القارئ بشكل أو بآخر بلغة تنظيرية لا تتطابق كثيراً مع جنس الرواية. مما يذكرنا برأي توفيق الحكيم في هذا الشأن، وهو يستعير عن الكاتب والمؤرخ الفرنسي “جورج غويو” قوله: ” إن الرشاقة في فن الرقص هي أداة الحركة الجثمانية العسيرة، دون تكلف يشعرك بما بذل فيها من مجهود، تلك أولى خصائص الأسلوب السليم في كل فن. حتى الحاوي الماهر هو ذاك الذي يخفي عن الأعين مهارته، ويحدث الأعاجيب في جو البساطة والبراءة”.
إلى ذلك وقع منصور في خطأ سردي لا يصح أو يستقيم أن نغض الطرف عنه، ببساطة لأنه يقرع جرس التنبيه لكُتاب الرواية إلى أهمية وضرورة المراجعة الدقيقة قبل النشر، ففي مشهد مؤلم يصور لنا الكاتب في الصفحتين 141 و 142 بالتفصيل الدقيق مشهد تعذيب جسدي ونفسي قاس تعرض له بطله سامر وهو عار كما أنجبته أمه، وسط الكثير من القيء والأوساخ في غرفة من زجاج، شعر لحظتها وكأنه تعرض لحالة اغتصاب أمام الكاميرا المثبتة في زاوية الغرفة، ليعود لنا الكاتب بنفس المشهد على لسان بطله خالد في مونولوج داخلي رداً على ما قالته العجوز مريم فنجده يقول: “كيف عرفت؟! من أين لها بهذه البصيرة؟ هل تفضحني ملامحي إلى هذه الدرجة؟ وهل بت مكشوفاً وعارياً كما كنت ذات مرة في تلك الغرفة الزجاجية غارقاً في القيء والأوساخ؟” (ص158)، عدا عن هذا الخطأ، يلحظ القارئ المنتبه أن رواية “الخزنة” قذف بها الكاتب إلى الطبع والنشر من دون تحرير وتدقيق، ما أدى إلى العديد من الأخطاء اللغوية والمطبعية البسيطة.
في الختام، وبعيدًا عن فكرة القياس التسطيحي لمعايير الجودة من عدمها، فإنَّ العمل الروائي الذي لا يقول شيئاً جديداً، لا يستحق حتى الالتفات إليه، ورواية “الخزنة – الحب والحرية ” لعصمت منصور، التي مارست فعل النقد العميق على الجبهتين السياسية والاجتماعية، تقول أشياء جديدة، دفعتنا لمثل هذه الوقفة على المستويين؛ المضاميني، والأسلوبي، وإن أشرنا إلى بعض المشكلات الفنية هنا أو هناك، ليس بوصفها مشكلات يُمكنها أن تقوض العمل أو تقلل من شأنه، ولكن لأن موضوع الحكاية ببنيته السردية الماثلة بين أيدينا، كان يستحق أن يقدم من دون مثل هذه الهنات، خاصة وأن موضوع العمل هنا، لم يأت بوصفه رافعة خطاب وحسب، ولكنه أيضاً محمول رسالة كتبت بأعمار وأوجاع فئة من أمة لا تزال على جبهة الحق تقاتل، كيف لا وكاتبها أحد من ساهم نضالياً وإبداعياً في صناعة معنىً جديد للحرية تحت شرط الحب.