“ولدتُ على حافة البئر
بذنبٍ لا أعرفه
ربمّا ألتهمتُ أخًا لي في الرحم.
ولدتُ هرمًا أتأمل في كفي
وجوه قتلاي الذين لا أسماء لهم”
تَستندُ المجموعةُ الشِعريّة “بحثتُ عن مفاتيحهم في الأقفال” (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2022) في سوادِها الأعظم على العائلة، العائلةُ الصغيرةُ والكبيرةُ والممتدة، على التفاصيل اليوميّة لحضورِ العائلةِ في المُعاشِ والموروثِ والمُتخيل، بالإعتمادِ إلى ذكرياتِ الطفولةِ في كنفِ العائلةِ الواسع، وأحاديثِ الجدادتِ والأجدادِ ومُمارساتِهم، شكلّتْ هذه الأبعادُ المرتبطة بالحضورِ الكثيفِ للعائلة، مُحركًا للشِعر الّذي جاءَ استجابةً طبيعةً لنداءِ العائلة المُمتدُ بعمقِ التجربةِ الوجدانيّةِ والمعرفيّةِ المسؤولةِ عن اختلاقِ النصوص، ويُمكن أن يتضّحَ هذا بجلاءٍ في عَتباتِ النصوص (طفل الجدة المدلل، موقد الجدة، سبحة الكهرمان، سعاد، أبي، أمي ، بيت…)
إذنْ فالبحثُ عن المفاتيحِ في الأقفال، هو بحثٌ عن مفرداتِ العائلة، عن الأسماءِ والمعارفِ التي ورثها الشاعرُ والتي يريدُ فتحها والبحث عن مفاتيحها التي في الأقفال، بمعنى آخر التي فقط تحتاجُ إلى يدٍ تُحركها؛ ولهذا كانت القصائدُ في المجموعة بمثابةِ اليدِ التي حركتْ المفاتيح في الأقفال، في محاولةِ الكشفِ عن وجوهٍ جديدةٍ، عن أسماءٍ ومفرداتٍ وأسئلةٍ ظلتْ عالقة، والنصوصُ الشِعريّة في هذا السياق، تحاولُ أن تَفُكَ الشِيفرة؛ إلا أنها في مسارِ محاولاتِها تلك تُضيف شيفرات وأسئلةٍ جديدة.
“أننا مدينون للموتى
بواقعٍ أفلّ رملًا
وأن كل شيءٍ سيشرق
مثل مسوداتٍ يمحوها الزبد
حينَ يكتمل النصاب.”
تنفجرُ المقولةُ الشِعريّة من زهدٍ وحكمةٍ وهدوء، كأنما جاءتْ بلسانِ الجدة، لكنها مقولةٌ لا تدعي شيئًا، بقدرِ ما تُحاولُ أن تستبصرَ مزيداً من المعنى المُتواري في أحشاءِ النص، لقد صبغتْ هذه البداهة الشِعريّة النصوص بطبيعيةٍ عالية، لا زيادات لدواعي اللغة، لا تكلّف، فقط تلقي وإفصاح، كما يتلقى مريدٌ من شيخِ الطريقة سرًا أو معنى، وبهذا يأتي النصُ؛ ليقولَ ما يريدُ قَولَهُ دونَ اختلال.
يوافقُ هذا الشكل واحداً من أدقِ تعريفاتِ الشِعر، التعريفُ الّذي يُقدِمهٌ الشاعر الإنجليزي جون كيتس، حينَ يقول: “أذا لم يجئ الشعر طبيعياً كما تنمو الأشجارُ على الأشجار، فخيرٌ له أن لا يجيء” ويمكننا أن نرى في المجموعةِ الشِعريّة “بحثتُ عن مفاتيحهم في الأقفال” كيف كوّنت مفرادت التدوال اليومي لطفلٍ يراقبُ وينتظرُ ويتأملُ ويثورُ ويهدأُ ويُصابُ بخيبةِ الأمل، مُتسعًا شِعريًا مُنسابًا في راحةٍ عالية “ألحفة، الريش، السمك، البحر، إبر الخياطة، العقود، الخواتم، الكهرمان، أولاد الخالة، المناديل، ..”
أتاحَ هذا الاستخدامُ الخفيفُ والطبيعيُّ للغةِ مجالاً مزدهرًا لنموِ صورٍ شِعريّةٍ طازجةٍ ومُتفرّدة، خَلَقَها التعاطي الحُرُّ والبديهي مع مفرداتٍ حياتيّةٍ تغوصُ حتى الأعماقِ في العاديّة، إلا أنَّ الصِيغَ التي يُعيد بواسطتها النصُ موضعةِ المفردات، تجعلُ العادي يبدو غير عاديّاً.
إنّها مسألةُ خلقٍ موازيةـ إلا أنه خلقٌ لا يستدعي شيئًا من العدم، لكنه يقومُ بخلعِ الأشياءِ من سياقاتِها مُعترضاً ربمّا علي شكلِ اصطفافها في مصفوفتِها الكونيّة، لصالحِ رؤيتهِ الخاصة التي تَرغبُ في إعادةِ بناءِ وتركيبِ الأشياءِ وفقاً لزاويةِ نظرٍ مُختلفة، وهو بذلك ينزع الفعل من مسار نموه الطبيعي، ليُنتج تشوهاً خاصاً يتناغم مع ما تريده ذائقته، وذائقة غيره، ثم يتتبع إيقاع هذا التغير بالكثيرِ من الإصغاءِ والتقدير، أنَّها إذنْ عمليةُ خلقٍ موازنة، لكنها في الوقتِ ذاتِهِ لا تستدعي شيئاً من العدم، بل تعيدُ ترتيبَ الموجوداتِ في أطرٍ جديدة ومغايرة، يقول حسين البرغوثي في “مرايا سائلة” مشيراً إلى هذه الرغبة الأصيلة: “كل فنان خالق عند نتشه، ماهية الإنسان، جوهره، حاجته الأصل، ليست الشهوة، ولا السيطرة، ولا الاستهلاك، ولا أن يحمل أعباء الوطن، أو الألوهة، أو العائلة، أو الفن، بل الخلق. نعم الخلق.”
لنرى كيفَ يتجلى هذا الخلق في صورةٍ شعريّةٍ طازجةٍ ومتفرّدةٍ في “بحثت عن مفاتيحهم في الأقفال” في نص مجاز الطفل يقول أمير حمد:
“اللغةُ برجٌ
يقفُ الطفلُ على حافةِ
شرفةِ طابقِهِ الأخير
يطلبُ منَ الأمِ صُنعَ بحرٍ
في البانيو وقتَ الاستحمام
توافقُ الأمُ؛ لأنها تبصرُ صفائرها فيه.
فيسحُ مقلّصًا جَسَدَهُ
قدر المستطاع
تغيبُ الشمس الرملية سريعًا
ينزلُ الطفلُ البرجَ واقعًا.
حين يزيل سدادة “البحر”.”
اللغة برجٌ والبيانو بحرٌ ترخي الأمُ ضفائرها فيهِ والجسدُ يتقلّصُ ويسبحُ في الماء، والطفلُ يقعُ من على برجِ اللغةِ حينَ يُزيل سُدادةِ البحر/ البانيو. مجموعةٌ من الصورِ الشِعريّةِ المُتفرّدة، يُكوّنها الإمعانُ الدقيقُ في التفاصيلِ الصغيرة، في الموجوداتِ الضئيلة والعاديّة، والتي يُمكن، بعد إعادةِ ترتيبٍ ذكيّةٍ لها، أن تصبحَ مفعمًة بالشِعر.
تعيدُ المجموعةُ الشِعريّة إقامة علاقاتٍ جديدةٍ من الأمكنةِ بالعمومِ والقدسِ على وجهِ الخصوص، علاقاتٌ جديدةٌ يُديرها منطقُ شاعرٍ يُجرّب ولا يأبهُ بالنتائج، القدسُ مدنيةٌ صخبة وضجِرة وتثيرُ المخاوفَ والقلق، مدينةُ تستدعي أسئلةً لا إجاباتَ لها، ومثقلة بِتاريخٍ لا يُمكِنُها من التعاطي مع الواقع، شكلٌ شِعري تَجريبي جديد للتعاطي مع القدس، ويُمكِنُ بعدَ قراءةِ النصوص (قصر الملك قرب القدس، القدس، أسوار البلدة المقدسة، قطار القدس يافا) الشعور بذلك بصورةٍ عالية.
“ما أحببتك يومًا
أطاردُ قلبي في أزقتكِ وأنتِ مدينةُ تنفخُ حجارتها في الأبواق؛ كي ترشد الجنود.”
تُنزِلُ النصوصُ الشِعريّةُ القدسَ من السماءِ إلى الأرض، وتُعيدُ تَقديمها وفقًا لمعالجاتٍ شِعريّةٍ تتعاملُ معها ليسَ بِوصفِها نصًا مُقدسًا، ولكن بوصفها مدينةُ المُعاشِ اليوميّ من تفاصيلِ الاشتباكِ والانتظارِ والضجرِ والدروبِ المُوصدة والصراع ِالمتأجج.
تقدمُ هذه الطريقة الحداثيّة والمنطلقة من الذاتِ الشِعريّة أولاً، ثمَ المتصلة بالفضاءِ العام المُحيط بها، شكلًا مغايرة للقدس، صورةً مختلفةً، أوربمّا تكون خادشة لحضورِ المدنية في ذهنيّةِ التلقي العام والموضوعة في قوالب جاهزة. يشيرُ أدونيس في كتابهِ زمن الشعر إلى هذا المعنى في معرضِ الحديثِ عن الشِعرِ في الحداثِةِ الشِعريّة “الشعر يُغيرُ الواقع، لا من حيثِ أنه يقلبه سياسياً أو قتصادياً أو اجتماعياً، بل من حيث أنه يتجاوزه ويقدم صورة جديدة لواقعٍ جديد أفضل وأغني”*.
والنصوصُ هنا تقدمُ صورةً جديدةً لواقعٍ جديد، إلا أنه ليسَ بالضرورة ِأن يكونَ واقعًا أفضل وأغني، أنه الواقع الّذي تُبصِرَهُ الذات المُتفرّدة في مدينةِ المَجموع، إلا أنها ذات شِعريّة لا تريدُ أن تكونَ مرآةً لما يريده الآخر، بالقدر الّذي ترغبُ أن تكون ذاتها. وهذا التناول المُختلف للقدس ينسحب ُإلى أماكنٍ كثيرةٍ أخرى، أريحا، البحر الميت الجولان، البحر المتوسط، حيث تُقيم النصوص بذات الطريقة علائق مختلفة للأمكنة، عين ثالثة تُبصِرُ واجهاتٍ كثيرةٍ لامرئيّةٍ مختبئةٍ خلفَ طبقاتٍ كثيفةٍ من المرئيّ والمحسوس.
“إذا حدّقت في خشبِ قمرٍ
لم يعد يصعد من نوافذ قصر هشام
ستسمح حوافر الموج
تصطكُ بالكبريت
على صخور البجر الميت
غير بعيد من هنا.”
وكنتُ اتسألُ أثناء قراءة المجموعة، البحرُ المفردة التي تَحضرُ في أغلبِ النصوص، حضورًا طاغياً، البحرُ الساكن، الغاضب، المثيرُ للقلقِ والمُثيرُ للسكينةِ كذلك، (البحر المتوسط، البحر الميت، الخارجة من البحر، كما يقف الشعراء أمام البحر، عظام البحر، أجمل من موتك أمام البحر، قناديل البحر) توظفُ النصوص الشعريّة في المجموعةِ الشعريّةِ البحرَ في سياقاتٍ متعددة وضمن محاولات شعِريّة شديدة التباين في إعادة تقديم البحر كما يبدو لشاعرٍ يسكن الجبل، وكما يقف الشعراء أمام البحر.
“أقفُ أمامكِ كما يقفُ الشعراءُ أمامَ البحر
أتقمّص سمكةً سدّت بزعانفها ثقوبَ شبكتها
رغم أنها تعلّمُ أنها ستكون الطبق الرئيسي
حين تعودُ المراكب إلى أهلها.”
البحر قدرُ الشعراء، كما أنهُ قدر السمك، لا يمكن الفكاك من البحر، كما لا تريدُ السمكة الفكاك من الشباك، لأن مزيدًا من الغرق يعني مزيدًا من الحياة، أنه هوس البحر الّذي يلاحقُ طفلَ الجبل كما كان يقول حسين البرغوثي. “كانت تبدأُ مُطاردة البحرِ لي في حُلمي في بيروت، وأنا طفل صغير جالس على حجرٍ في رمال الشاطئ عارياً، وملابسي بيدي، وأُحدِّقُ في البحر مذهولاً وخائفاً” وعلى الشاعرُ أن يسبرَ نواياه ربمّا تفعل القصيدة ذلك، ربما…
*أدونيس، زمن الشعر، دار الساقي للتشر والتوزيع، لبنان، 2005