قدمتُ إلى باريس للمرّة الأولى في ليلة من ليالي أيلول الباردة من عام 1955. وصلتُ عبر القطار القادم من روما إلى محطّةٍ مضاءةٍ بزينة عيد الميلاد، أوّل ما أدهشني هو مشهدُ تقبيل الأزواج بعضهم البعض في كل مكان، في القطار وفي مترو الأنفاق وفي المقاهي والمصاعد، كما لو أنّ الجيلُ الأوّل بعد الحرب قد ألقى كامل طاقتهِ في الاستهلاك العام للحب، الذي كان لا يزال المتعةَ الوحيدة المُتاحة بعد الكارثة. يتبادلون القُبل في منتصف الشّارع دون القلقِ إزاءَ إعاقة المُشاة الذين يتفادونهم دونَ النّظر اتجاههم أو الالتفاتِ إليهم، كما يتفادون كلابِ الشوارعِ في قرانا التي تتشبّثُ ببعضها البعض لتتزاوج في منتصف الساحة. لم تكن تلك القبلات المُتطايرة في الهواء الطلق مألوفةً في روما -التي كانت أوّل مدينةٍ أوروبيّةٍ عشت فيها -ولا بالطّبع في بوغوتا الضبابيّة المحافظة في تلك الحقبة، حيث كان من الصعب التقبيل حتى في غرف النوم.
كانت تلك الأوقات العصيبةُ للحربِ الجزائريّة. في الخلفية، ما وراء موسيقى الأكورديون الباعثة على الحنين المنتشرة في الزوايا وأبعد من رائحةِ الكستناءِ المُحمّصةِ في المناقل على الأرصفة، كان القمع شبحًا لا يَشبَع. فجأةً ودون مُقدّماتٍ تجدُ الشرطة وقد أغلقت مخرج أحد المقاهي أو الحانات العربية في شارع سان ميشيل ليَنهالَ عناصرها بالضّربِ على كلّ من لا تبدو عليه سحنة مسيحيّة. كان أحدهم، لسوء الحظ، أنا.
لم تكن التفسيرات تُجدي نفعًا ليس لأجل سحنة الوجه وحسب، إنما اللّكنة التي تحدثنا بها الفرنسيّة كانت سببًا للهلاك أيضًا. عندما وضعوني في الزنزانة مع الجزائريين للمرة الأولى في مركز شرطة سان جيرمان دي بري، شعرت بالإهانة. إذ أن دخول السجن يندرج ضمن الأحكامِ المُسبقةِ في أميركا اللاتينيّة؛ كان عارًا آنذاك. ويعود ذلك لعدم امتلاكنا وضوح التمييز بين الأسبابِ السياسيّة والعامة في مرحلة الطفولة، ثمّ تولّى كبارنا المحافظون أمرَ تعزيزِ تلك المغالطات والإبقاء على الارتباكِ لدينا. كانَ وضعي أكثر خطورة، لأنّهُ وعلى الرّغم من أن رجال الشرطة اقتادوني لاشتباههم بأنّني جزائريّ، إلّا أنّ من كانوا معي في الزنزانة شكّوا بأمري عندما أدركوا أنّني وعلى الرّغم من وجهي الأشبه ببائع أقمشةٍ مُتجوّل، لم أكن أفهمُ حرفًا من هرجهم. ومع ذلك، ولأني وإيّاهم أصبحنا زوّار دائمين لأقسامِ الشرطة الليليّة انتهينا إلى فهمِ بعضنا البعض. ذات ليلة، أخبرني سجينٌ أنّني كي أكون بريئًا بعين بقية السّجناء فمن الأفضل أن أكون مذنبًا، ثم ضمّني للعمل ضمن جبهةِ التحرير الوطنية الجزائريّة، كان ذاك الدكتور أنيد طبّال Anied Tebbal أحد أصدقائي العظماء في تلك الفترة والذي توفي لاحقًا لسببٍ بعيدٍ عن الحرب بعد استقلالِ بلاده.
عقب مرور خمسة وعشرين عامًا، عندما دُعيت إلى احتفالات الذكرى السنوية للاستقلال في العاصمة الجزائر، صرّحتُ لأحد الصحافيين بشيءٍ بدا من الصعب تصديقه: “الثّورة الجزائريّة هي الثّورة الوحيدة التي سُجِنتُ من أجلها”. مع ذلك، فإنّ باريس آنذاك لم تكن باريس الحربِ الجزائريّة وحسب، بل أيضًا كانت المنفى الأشمل على الإطلاق في تاريخِ أميركا اللاتينيّة منذ زمن طويل.
في الواقع، كان خوان دومينغو بيرون Juan Domingo Perón -الذي كان حينئذ شخصًا مختلفًا عما صاره في السنوات اللاحق- على رأسِ السُّلطة في الأرجنتين، وكان الجنرال مانويل أودريا Manuel Odría في البيرو، والجنرال روخاس بينيلا Rojas Pinilla في كولومبيا، والجنرال بيريز هيمينيز Pérez Jiménez في فنزويلا، والجنرال أناستاسيو سوموزا Anastasio Somoza في نيكاراغوا، والجنرال رافائيل ليونيداس تروخيجو Rafael Leónidas Trujillo في سانتو دومينغو، والجنرال فولجينسيو باتيستا Fulgencio Batista في كوبا. كنّا كثرٌ هاربين من مجموعة البطاركة المتزامنين تلك، لدرجة أنّ الشاعر نيكولاس غيلين Nicolás Guillén كانَ يَطلّ كل صباح من شرفته في فندق غراند سان ميشيل في شارع كوهاس ويتلو بالإسبانية الأخبار التي قرأها للتو في الجريدة عن أحداث أمريكا اللاتينية. ذات صباح جهر: “سقطَ الرجل”. بالطّبع كان واحدًا من المجموعة، لكننا استيقظنا جميعًا وداخل كلّ منّا حماسٌ لفكرة أن يكونَ الذي سقط هو حاكم بلده.
عندما وصلتُ إلى باريس لم أكن سوى كاريبيّ خام. أكثر ما أدينُ به لهذه المدينة التي خضتُ معها الكثير من المعارك القديمة، والعديد من قصصِ الحبّ الأقدم، هو أنّها ستمنحني منظورًا جديدًا أكثر وضوحًا وأشدّ رسوخًا لأمريكا اللاتينية. باتت الرّؤية الشّاملة، التي لم تكن قد تكوّنت لدى أيّ منّا داخل بلداننا، جليّة هنا حول طاولةِ القهوة المستديرة وانتهى بنا الأمرُ إلى إدراكِ أنّه وعلى الرّغم من كوننا من دولٍ مختلفة، كنّا جميعًا أفراد طاقم واحد على متنِ القارب نفسه. تكفينا جولة في المقاهي المُزدحمةِ في حيّ سان جيرمان للقيام برحلة حول القارّة ومقابلة كُتّابها وفنّانيها وسياسييها المغضوبِ عليهم أو من هم على وشك أن يصبحوا كذلك. بعضهم لم يأتِ في موعدهِ المُعتاد، كما حدث لي مع خوليو كورتاسار، الذي أثار إعجابي منذ قرأت حكاياته الرائعة عن الوحوش، والذي انتظرته لمدة عام تقريبًا في مقهى old navy حيث أخبرني أحدهم أنه اعتادَ التردد إليه. لألتقي به أخيرًا بعدَ حوالي خمسة عشر عامًا في باريس أيضًا، كانَ لا يزال كما تخيّلتهُ منذ فترةٍ طويلةٍ: الرجلَ الأطولَ في العالم الذي لم يتّخذ أبدًا قرارًا بالتقدّم في السِنّ. النسخةُ المطابقةُ لذلك اللاتينو أمريكي الذي لا يُنسى في إحدى قصصه (من السماء الأخرى) الذي يهوى الذّهاب في ضباب الفجر لمشاهدة عمليّاتِ الإعدامِ بالمِقصلة. كان يمكن استنشاق أغاني جورج براسينس مع الهواء. الجميلة، كونسيبسيون كينتانا Concepción Quintana وهي باسكيّة متهورة جعلناها واحدةً منّا نحن اللاتينو أميركيّون، من مهاجرين ومنفيّين، القادمون من بلدانٍ مختلفة، إلى حدّ أنّها قامت بمعجزةِ طهي أرز الباييلا اللذيذ على لهبِ الكحول لعشرة أشخاص. أطلق بول كولود، أحد الفرنسيين المنضمين إلى مجموعتنا تلك، اسمًا لحياتنا في تلك الفترة: البؤس الذّهبيّ.
لم أمتلك تصوّرًا واضحًا عن وضعي سوى تلك الليلة التي وجدتُ فيها نفسي فجأةً على أطراف حديقة لوكسمبورغ دون أن أتناول ولو حبّة كستناءٍ واحدة طوال اليوم ودونَ مكانٍ للمبيت. تجوّلتُ لساعاتٍ على طول الجادات على أملِ أن تمرّ الدورية التي كانت تعتقل العرب كي تأخذني أيضًا لأنام في زنزانة دافئة، لكن وبالرّغمِ من بحثي الطويل لم أُصادفها. عند الفجر، لمّا بدأت القصور على ضفّة نهر السين تتكشّفُ عبر الضّباب الكثيف، توجّهتُ نحو المدينة بخطواتٍ طويلةٍ وحازمةٍ بوجهِ عاملٍ نزيهٍ نهضَ للتوّ قاصدًا مصنعه. وبينما كنت أعبر جسر سان ميشيل شعرتُ بأنّي لستُ وحدي وسط الضباب إذ تمكّنتُ من تمييزِ وقعِ خطىً لشخصٍ يقتربُ في الاتجاه المعاكس. لمحتهُ يسير على الرصيفِ نفسه وبنفسِ إيقاعي، في لحظة تقاطعنا عند منتصف الجسر رأيتُ عن قربٍ سترتهُ المنقوشة باللونين الأحمر والأسود وشَعرهُ الأشعث وشاربه التركي ووجهه الحزين من الجوع المتأخر والنوم السيئ، رأيتُ أيضًا عينيه تفيضان بالدموع. تجمّدَ قلبي لأنّ ذاك الرجل بدا وكأنّهُ أنا عائدًا في الاتجاه المعاكس.
كانت هذه أكثر ذكرياتي زخمًا عن باريس تلك الفترة وقد استحضرتُها بقوةٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى الآن بعد عودتي إليها قادمًا من ستوكهولم. لم تتغيّر المدينة منذ ذلك الحين.
إلا أنه، وعندما عدتُ مُجدّدًا عام 1968، مدفوعًا بالفضولِ لرؤيةِ ما حلّ بالمدينةِ بعد الانفجار العظيم خلال أحداث شهر أيّار*، لاحظتُ أنّ العُشّاق توقفوا عن تبادلِ القُبَلِ كالسّابق في الأماكنِ العامّة واسُتبدِلَت أحجارُ الشوارع المرصوفةِ بالحصى وأزيلت أجملُ لافتاتٍ كُتبت يومًا على الجدران على الإطلاق: “ليتولّ الخيال السلطة”، “تحتَ الرصيف يوجدُ الشاطئ”، “نتحابُّ بعضنا فوق بعض”.
بالأمسِ، بعد زيارةِ الأماكن التي كانت لي في يومٍ من الأيّام، لاحظتُ شيئًا واحدًا جديدًا: بعض الرجال من البلدية يرتدونَ ملابس خضراء، يتنقّلون في الشوارع على درّاجاتٍ ناريّةٍ خضراء ويحملون الأيدي الميكانيكيّة -كتلك التي يستعملها مستكشفو الفضاء- لتنظيفِ الشوارعِ من الفَضَلات التي تُخلّفها آلافٌ من الكلاب الشاردة كل أربع وعشرين ساعة في أجملِ مدينةٍ في العالم
* الثورة الطلابية في مايو 1968.