تُتاح لنا فرصة الآن، لبدء حديث عِلمي وبنّاء عن الموسيقى والإنتاج الفنّي والشرعية الفنية (artistic legitimacy) وعمليات التسليع (commodification process) الفنّي وما يرافقها من سياسات وتوجهات ثقافية، اجتماعية وهوياتية. فما هي الشرعية الفنية ومن يعطيها؟ ما الاسباب وراء تشريع انتاج موسيقي معين وآخر لا، أو نوع موسيقى معيّن وآخر يُشَيْطن ويتم تحريمه على أساس مبادئ معينة. قد تكون دينية، أو هوياتية وثقافية ومنها سياسية واجتماعية. ما هي العوامل الأساسية في عمليات تشريع إنتاجات فنية؟ وما علاقة عمليات التسليع الفني في هذا الشأن؟ كيف ينعكس هذا على الواقع اليومي والحياتي في ممارسة الموسيقى أو إنتاجها أو حتى استهلاكها في ظل الصراعات التي تحصل حاليًا؟ خاصّة في مصر مع رئيس نقابة الموسيقيين الجديد.
هناك مفاهيم سوسيولوجية وثقافية تساعدنا على تحليل الممارسات في المجال الفنّي. مفاهيم عالِم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، مثل “الحقل (field)” ورأس المال الثقافي (cultural capital) يوَفرون نظرة تحليلية واسعة للمجتمع وعالم الثقافة والفن، وبهذه الحالة، الموسيقى. قبل التطرق إلى مفهوم الحقل، هناك حاجة للإضاءة على فكرة الفن كممارسة جماعية أو مُنتَج جماعي. شدّد بورديو على هذه الفكرة (art as a collective product)، فـ”العمل الفني موجود على النحو هذا فقط بفضل الاعتقاد (الجماعي) الذي يعرِّفَه ويعترِف به كعمل فني.” يوضح هذا أهمية النظر إلى الفن (الموسيقى في هذه الحالة) كإنتاج جماعي لنتكمن من استيعابها بشكل شامل. يَفرض علينا هذا أن نأخذ في الاعتبار العوامل والجهات الفاعلة العديدة التي تجعل الفن على ما هو عليه، مثل: المستهلكين، وشركات الإنتاج، والمذيعين، والإعلام والفنانين، والنقّاد، وسياسات الدولة، والسياق الاجتماعي، والظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية (بورديو، 1993، ص 36). باحث مثل هاورد بيكر (Howard Becker) مهمًا عند النظر الى عالم الفن والإنتاج الثقافي، حيث يتحدث عن العملية التعاونية والشبكات وأنماط النشاط الجماعي التي تنتج الفن (بيكير، 2008). ومن الممكن أن هؤلاء الفاعلين في نشاط الإنتاج الفنّي غير محصورين في مساحة جغرافية واحدة، بل يمتدون عبر الحدود والقارات المختلفة. وبالطبع، وخاصةً في هذه الحالة، دور الدولة محوري. حيث تحدث كل هذه العمليات ضمن قوانين وتشريعات كل بلد ومعظم المؤسسات الثقافية تابعة لنفس الطبقة الحاكمة.
بشكل عام، إن الحقل عبارة عن “حقل صراعات” يتصارع فيه اللاعبين الاجتماعيين مُستخدمين ما يملكون من رأس مال (اقتصادي أو ثقافي او اجتماعي او سياسي)، ويتنافسون على مراكز اجتماعية مهيمنة ومُسيطرة. فتتكون علاقات بين مختلف المراكز داخل هذا الحقل، والعلاقات هذه توجِّه الاستراتيجيات التي ينفذها شاغلين المراكز المختلفة في الدفاع عن مراكزهم أو تقويتها للحفاظ على هيمنتهم داخل الحقل. فيعملون كحرّاس (gatekeepers) أمام الوافدين الجدد الذين يتطلعون لتكريس وتشريع انتاجاتهم الفنّية. وهناك حقول مختلفة منها سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي. هنا، الحديث سيكون عن الحقل الثقافي بالتحديد (حقل الانتاجات الثقافية (Field of cultural production)). سأعرض بعض من صفات الحقل الثقافي، والتي تهمنا هنا في هذه الحالة لكي يتم توضيح مفهوم الحقل وديناميكياته والتوسّع قليلُا في عمليات التشريع والتسليع الفنّي.
إن المتغيرات داخل الحقل الثقافي كثيرة والثوابت قليلة؛ هي عملية بناء وإعادة بناء مستمرة. تتسم بنية الحقل بالهرمية والمنافسة والتوزيع غير المتكافئ للموارد الثقافية، فهناك مبادئ وأعراف مبنية على توجهات الطبقة المهيمنة. عندما يحدث تغيير في مجال ما، مثل قدوم أو صعود فنانين جدد او تبلور نوع موسيقى جديد تتغير علاقات القوة والشرعية داخل هذا الحقل. يتغير بالتالي “عالم الخيارات المتوفرة للمنتجين والمستهلكين للاختيار من بينها” (بورديو، 1993، ص 30). قدرة الوافدين الجدد على تجاوز النمط السائد للفكر والتعبير، من خلال إعادة إنتاج أفكار في “سياق اجتماعي غير متطابق” أو معارض أو مختلف عن السائد تنتج صدامات أو صراعات بين مختلف الجماعات. يتطابق هذا مع حقيقة أن الموسيقيين المصريين الذين يقدمون منظورًا جديدًا في “مجال الموسيقى” أو حتى أنماط جديدة تمامًا من الموسيقى تُخلق نظرات متنوعة وصدامات بين اللاعبين المهيمنين والوافدين الجدد. خاصّة أخرى لحقل الثقافة هي الشرعية الفنية واحتكار الشرعية، وهي القدرة على إعطاء قيمة لإنتاج أو مُنتِج فنّي معين. تحتكر بعض الجهات (منها نقابة الفنانين أو معاهد وأكاديميات للفنون ومنتجين مهيمنين على الساحة الفنية ومجلات ووسائل إعلام فنية) السلطة لتكريس المنتجين والمنتجات بتشريع إنتاجات موسيقية معينة وليس غيرها، بناءًا على معتقدات وسياسات للجماعة الفنية (المرجع نفسه، ص 42).
إن عملية التشريع الفنّي متنوعة ولديها عدة جوانب. تتطلب خلق مبادئ تقييم مستقلة لتكتسب الجهات نفسها الصلاحية والمصداقية لتشريع إنتاجات فنية وإعطائها قيمة فنية وثقافية وبالتالي سوقية واقتصادية مالية. يكون هذا على شكل مؤسسة ثقافية أو نقابة أو دولة أو شركات انتاج خاصة وغيرها. كوّن بعض الباحثين نموذجاً (Lena & Pachucki, 2013) يوضح مكوّنات عمليات التشريع والتي ستساعد في فهم العملية والسياسات التي تعتمدها هذه الجهات.
أول عامل هو إضفاء الطابع المؤسساتي على المعايير والممارسات وهياكل السلطة المتعلقة بالإنتاج الثقافي (الموسيقي في هذه الحالة). هكذا تتكون وتتماسك بها الجماعات الفنية؛ عن طريق مأسسة المعتقدات التي ستتم جميع الإنتاجات لهذه الجماعة بناءً عليها. ومنها المادة الفنية وأبعاد العمل وعلاقة الفنان بالمستهلكين (مستمعين وجمهور). ثانيًا، ترسيخ جوهر الخطاب والتبرير لمصداقية إضفاء الشرعية، لتُكتَسب سلطة وصلاحية إضفاء الشرعية الفنية والهيمنة على الخطاب الفني عن طريق نقّاد فن وشبكات إعلامية وفنانين آخرين. بهذه الطريقة يحددون القيمة الاجتماعية “للسلع” الثقافية والفنية ويميزون بين ما يعتبرونه هم “فن” وما هو “غير فنَي”. ثالثًا، يجب أن يكون هناك عدد من المساحات المخصصة لإنتاج واستهلاك العمل، ساحات أو مسارح أو مراكز ثقافية تحتضن الإنتاج الفنّي. رابعًا، ظهور المجالات الفرعية والصراع والوفاق فيما بينها. حيث تتفرع المجالات الموسيقية وتختلف الإنتاجات والمستمعين والفنانين عن بعضها ويتكون جماعات فرعية وحقول مصغّرة فرعية (subfields). وأخيراً، تعبئة الموارد المادية والمؤسسية، بما في ذلك تلك الآتية من فنون أخرى، مثل الدورات الجامعية والمختارات الأدبية وغيرها (Becker, 2008; Lena & Pachucki, ibid).
ففي الحقل الثقافي، يقول بورديو بأن الأعمال الفنية الابتداعية (innovative) أو التجديدية هي عبارة عن “اتخاذ مواقف” (position-taking)؛ وتكون بهذا المعنى، الأعمال الفنية هي تجسيد للفنان. ولكن لا يُنظر إلى كل هذه الإنتاجات الفنية الجديدة على أنها فن شرعي (legitimate art) بل يتم تنظيم الابتكار والإبداع مؤسساتيًا بناءً على الحدود التي تقيّد الحريات المتاحة في الحقل الثقافي، فلا إمكانيات غير الإمكانيات التي تتكون وتتوفر عبر الشبكات المُهيمنة والمعتقدات التي تم مأسستها (بورديو، 1996، ص 235). بالنسبة إلى بورديو، هذا الابتكار محدود وهو موجّه لسد “ثغرات هيكلية” في الحقل الثقافي لها وظيفة معيّنة وهي ترك مجال للتطوير أو التوسيع. الاتجاهات المحتملة للتنمية، والسبل الممكنة للبحث التي يجب قبولها والاعتراف بها على أنها معقولة أو مقبولة تأتي عن طريق ومن خلال العلاقات المهيمنة. بهذا الأسلوب يتم السيّطرة أو التحكم في الإبداع والتجديد الثقافي ووضع حدود له، ليكون هناك قبضة على السردية الفنية الثقافية وتطويره.
هناك ثلاثة مبادئ للشرعية قدمها عالِم الاجتماع الفرنسي ويمكن اكتساب الشرعية الفنية عن طريقها والاعتراف بالإنتاجات الفنية (نفس المصدر، ص 50-51):
-
مبدأ محدد للشرعية، وهو عالَم الفن المستقل، “الفن من أجل الفن”، أو هي الشرعية التي يكتسبها “المنتجين الذين ينتجون لمنتجين آخرين.” شرعية تُكتسب من فنانين ومنتجين آخرين.
-
الشرعية التي تتناسب مع الذوق “البرجوازي” والتكريس الذي تمنحه الجهات المهيمنة من الطبقة البرجوازية والمؤسسات الخاصة، مثل المؤسسات الثقافية والأكاديميين الذين يقرون الذوق الجمالي والأخلاقي (وبالتالي السياسي والاجتماعي).
-
الشرعية التي تسمى “الشعبية” (popular). الاعتراف أو التكريس الذي تعطيه خيارات المستهلك “العادية”. وتكتسب هذه الشرعية عن طريق أعداد المستمعين او المبيعات.
وهذه الثلاث طرق لاكتساب الشرعية الفنّية تندرج تحت نطاق النظام الرأس المالي والسياسات النيوليبرالية، فضلًا عن الأسواق الاستهلاكية. هناك حاجة ماسّة لبناء أو دعم مبدأ شرعية ناقد وبنّاء أو خلق أدوات إضفاء شرعية مستقلة غير هرمية عادلة. ليكون الفن والإنتاج الثقافي قادر على النقد البنّاء والتعبير الشامل للواقع الاجتماعي والسياسي.
غير عملية التشريع الفنّي، التسليع له دور ايضاً في حقل الإنتاج الثقافي والفنّي، فممكن أن يتم تسليع إنتاج موسيقي كي يتم تشريعه أو لاكتسابه الشرعية الفنية بإحدى الطرق المذكورة. يصبح غرضٍ ما سلعة عندما يتم إدماجها في دوائر التبادل التي تتضمن المال كوسيط للقيمة التبادلية. بعض من مراحل التشريع الفنّي تتطابق مع عملية التسليع. مثل إنتاج خطابات تبرر عظمة الأعمال أو الحفاظ عليه مع مرور الزمن أو إعطائه أهمية خاصة عبر مراجعات أو تحكيم منتجين وفنانين آخرين مهيمنين (حمو، 2016 ص 68). كما ذكرنا، هناك أشكال لإنتاجات فنية قد يثبت أنها غير مقبولة، بناءً على معايير ومعتقدات الجماعة المهيمنة. وهو إشكال يؤدي بالعادة إلى انخفاض القيمة الفنية للمُنتج، على سبيل المثال، من خلال الذعر الأخلاقي أو الديني أو السياسي الاجتماعي الايديولوجي. وبالتالي يتطلب تحليل الشرعية الفنية إيلاء اهتمام واضح لعمليات نزع الشرعية التي تواجهها في ظروف معينة، والتي تنطوي أيضًا على هياكل الفرص، وتعبئة الموارد، وخطابات التبرير (نفس المصدر). هنا نصل لحالة مصر والأحداث التي تحصل مع نقابة الموسيقيين.
هناك صراع قائم اليوم في المنطقة وبالتحديد في مصر، حيث يمكننا أن نشهد عمليات إضفاء الشرعية الفنية والموسيقية (ونزع الشرعية أيضًا) وهي تحصل. فنقابة الموسيقيين في مصر برئيسها الجديد مصطفى كامل تُشرّع أنواعًا معينة من الموسيقى وكذلك بعض مغنيي الراب وتحرّم غيرهم، مثل سحب الشرعية الفنية من موسيقى المهرجانات مبدأيًا، ثم تشكيل “لجنة” وعقد اجتماع لمراجعة الموضوع والمنع “جاء برضى الجمعية العمومية ولحماية الذوق العام في البلاد”. ثم تم وضع مجموعة قوانين يجب على المطربين الخضوع لها لممارسة الغناء، وهي: التوقف عن جميع الألفاظ الخارجة للذوق العام والبذيئة؛ الغناء برفقة فرقة موسيقية مكونة من 12 عضوا عاملًا، وأخذ موافقة من النقابة لممارسة العمل بالخارج بالإضافة الى منع وضع كلمة “مهرجانات” بعد عنوان العرض او الاغنية فحسب ما قاله النقيب الجديد، “مفيش حاجة بعد كده اسمها “أغانى مهرجانات” تانى”. ووافقوا المطربين على الشروط الجديدة لكي يتمكنوا من ممارسة فنّهم. وبهذا الشكل يتم الهيمنة على الإنتاجات الموسيقية والفنية وسرديتها لتتطابق مع تطلعات الجماعة المهيمنة والطبقة الحاكمة. أما الراب فحسب الفنانين الذين يخضعون لمبادئ وقيم النقابة يسمح لهم بممارسة وانتاج الموسيقى. هناك مفاوضات وصراعات تحصل بين مهيمنين في حقل الثقافة ووافدين جدد ينتجون موسيقى مبتكرة تجديدية بألحانها وكلماتها. وبالطبع، هناك أسباب وسياسات وراء هذا الصراع وعمليات التشريع الفنّي هذه.
من المهم الإشارة الى أنه قد اختلفت ردود أفعال الفنانين على قرارات نقابة الموسيقيين. وهذا لأن كل فنَان لديه/لديها قدرات معينة ويحمل/تحمل رأس مال معين ممكن ان يكون اجتماعي (المعارف التي لديهم) أو سياسي (هل لديهم ارتباطات سياسية تساعد في التعامل مع الأمور المجتمعية) أو ثقافي (هل لديهم إمكانيات ثقافية معترف بها) أو اقتصادي (القدرة المالية والاقتصادية). بعض الفنانين عارضوا وآخرين خضعوا لكي يتمكنوا من ممارسة موسيقتهم. هنا نصل الى المفارقة والتناقض التي يحكم على الفنانين بطريقة شديدة، العمل الفنّي والإنتاج الثقافي الحر والمستقل والواقع اليومي وحاجة العمل والعيش وتحصيل الكلفة المعيشية.
أمر من الممكن حسمه بنظرة أوّلية على سياسات النقابة هذه الفترة، هي وزن وأهمية الإنتاج الموسيقي الذي ظهر في آخر عقد. هذه الإنتاجات الثقافية التي ظهرت بعد اهتزاز أدوات الدولة خلال العقد الماضي قبل أن تعود بمحاولة الهيمنة والسيطرة على الإنتاجات الفنية وسرديتها. يُظهر هذا أن المنتجات الثقافية هذه لها قيمة، ومؤثرة ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا. وقد رأينا أن بعض الفنانين خضعوا لهذه السياسات بعد تغريمهم وآخرين عارضوا وقاوموا الموضوع مثل مولوتوف حيث قال أن فن الشارع لا يحتاج إلى نقابة. ويدل هذا على الفجوة ما بين الشارع والموسيقى الشعبية ونقابة الفنانين ومبادئها على الجهة الاخرى. هناك توجّهات فنية ثقافية مختلفة كليًا.
بناءً على ما ورد سابقًا من مفهوم الحقل وعمليات التشريع والتسليع. هناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء أفعال نقابة الموسيقيين في مصر. أولًا، هي محاولة وجهد للهيمنة والسيطرة على الخطاب الفني وسرديته. فأرقام المستمعين في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا (مع تحفظي على المسميات هذه) تتعاظم وتتزايد، ومع استخدام شبكات التواصل والمنصات الرقمية للاستماع قد زاد الاستماع على هذه المنصات 95.3% من السوق الإجمالي (IFPI, 2022). فالسيطرة على السردية الفنية والخطاب يسمح للجهات المهيمنة باختيار ما هو مضمون الانتاجات الموسيقية ولمن وأين تُنتج وعلاقة الفنانين مع الجمهور، عن طريق تحديد شكلها ومضمونها لكي تتطابق مع المبادئ التي تم مأسستها بناءً على علاقات القوة التي تُكوّن حقل الثقافة هذا. نظرًا إلى السياسة القمعية والحكم العسكري القائم في مصر، من منظور النظام ومؤسساته الانتاجات الثقافية يجب أن تتماشى مع النظرة “الوطنية” القائمة.
السبب الآخر اقتصادي، ما يعكس عملية التسليع الفني. يتغاضى الكثيرون عن الجانب الاقتصادي الاستهلاكي الرأسمالي عند الحديث عن الإنتاج الموسيقي والفن بشكلٍ عام. عالم الموسيقى هائل وله قيمة اقتصادية عالمية ضخمة، قيمة السوق العالمي للموسيقى هي 25.9 مليار دولار اميركي لعام 2021، وقد ازدادت العام الماضي 18.5%. أما في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا ارتفعت إيرادات الموسيقى بـ35% لتصل الى 89.5 مليون دولار أميركي (نفس المصدر) وهذه أرقام مهمة وتشير الى نمو عالم الموسيقى في المنطقة. وقد أصبح من الصعب تهميش موسيقى الراب وسحب شرعيتها بعد أن تم تشريعها شعبيًا عبر أعداد المستمعين والمردود الاقتصادي أيضًا. فبالنسبة للمؤسسات الثقافية وشركات التسجيل الخاصة ونقابة الفنانين، تتوفر فرصة جديدة لتسليع موسيقى الراب والشارع لخلق وتوسيع الأسواق الاستهلاكية وبالتالي الربح المالي. لكن، هذه الانتاجات، أو “السلع”، عليها أن تتطابق مع المبادئ المُختَلَقة لدى النقابة وسرديتها، و”ترتقي” لنظرتهم للفن وما هو الفن الذي يُعرض وما الفن الذي يروّج ويباع. وبهذه الطريقة يُجبَر الفنانون (ليس جميعهم) الخضوع لهذه السياسات.
السبب الأخير الذي نورده هنا، هو باعتقادي، إعادة إنتاج علاقات القوة المهيمنة وتقوية المراكز المُكتسبة من الطبقة الحاكمة واللاعبين المهيمنين داخل الحقل الثقافي. بعد التغيرات التي حصلت في اخر 10 أعوام من تغيير في النظام السياسي وعلى الصعيد الإجتماعي، والان التغيير في النقابة، هناك حاجة لتثبيت السردية الوطنية لدى النظام ومؤسساته فتعيد هذه العمليات إنتاج حدود الحقل وشبكاته وإعادة تعريف من هم أعضاء الحقل أو الجماعة الفنية المعترف بها وما هي الإنتاجات الموسيقية الشرعية ومن يمكن تسميتهم فنانين وما هو غير ذلك.
السبب وراء كتابة المقال هي لأهمية التحليل الشامل والنقدي في مجال الثقافة والفن بالإضافة إلى النظرة الاجتماعية الواسعة. هناك حاجة ماسّة لفتح نقاش عام في المنطقة عن الموسيقى والإنتاج الثقافي بشكل عام. فالحقل الثقافي بمرحلة تطوّر ونمو ومن الضروري معرفة من الفاعلين المهيمنين وما هي التوجهات الثقافية في مختلف البقع الجيوغرافية. من المُمولين والداعمين لإنتاجات موسيقية معينة ومن يدعم غيرها؟ هذه هي المرحلة التي تظهر فيها الثغرات في البنيات الثقافية الحاضرة. هنا تتكون الفرص للصراع والنضال والمفاوضات لكسب شرعية فنية واعتراف فنّي وتوسيع حدود الحقوق والفرص المتاحة للفنانين الصاعدين. كيف لنا أن نبني مصداقية فنية شاملة ونخلق أدوات شرعية فنية مستقلة غير هرمية يكون لها نهج أسفل الى الأعلى (bottom-up)؟ التحديات مخيفة والمسار طويل، لكنه بنّاء. حتى الموسيقيين الذين يهاجرون إلى برلين وباريس وأمستردام يصارعون لكسب الشرعية والاعتراف الفني بإنتاجاتهم. فالموسيقيين في المنطقة في وضع صعب على صعيد الشرعية الفنية في الوقت الحالي، فعلى الرغم من المواهب التي نراها، والافكار المتنوعة، والفن النقدي الواعي والبنّاء، عالقين بين فكَّي أدوات تشريع فنّية اضطهادية، واحدة غربية دعائية مبنية على التسليع الهوياتي وأخرى شرقية استبدادية مبنية على القمع والهيمنة.
بالطبع يمكننا التعمق أكثر بكثير بالأفكار المطروحة هنا، هذا المقال محاولة لإعطاء نظرة تحليلية مبدأية على المجال الثقافي والإنتاج الفني. ويوجد أفكار عديدة للتغيير والتجديد والتطوير والنمو. لكن مشروع كهذا هو مشروع جماعي، جامع وليس فردي. يحتاج الى تشبيك وتنظيم بين فنّانين وباحثين ومنتجين مستقلّين يرون ما هو أعمق وأبعد من البُنيات والقيَم الثقافية والسياسية القائمة والمختلقة عند الطبقات الحاكمة والمهيمنة والأنظمة الاستبدادية. سيكون هناك في المستقبل القريب مقالات أخرى تتعمق أكثر في المفاهيم المذكورة هنا مثل الشرعية الفنية والتسليع ورأس المال الثقافي وهجرة الفنانين والعلاقة بين العمالة والطبقية والانتاج الفني وغيرها من مفاهيم في حقل الثقافة تساعد في تكوين نظرة أوسع لعالم الثقافة والإنتاج الفنّي.
المراجع: