“دخلنا القرن الجديد بلا بوصلة”، بهذه المقولة المكثّفة افتتح اللبنانيّ أمين معلوف الكلمة التمهيديّة لكتابه “اختلال العالم”*، وعلى هذا المعنى اتكأ في معالجاته الحكائيّة الفلسطينيّ عبد الغني سلامة في مجموعته القصصيّة المعنونة بـ”شبابيك الجيران- دار الشروق للنشر والتوزيع. عمان، 2022” المكوّنة من ستّة عشر قصّة احتوتها ٢٢٤ صفحة، تفاوت بعضها في الشّكل والحجم، وتكامل بعضها الآخر في المضمون والمعنى.
تهتمّ قصص سلامة في هذه المجموعة بثلاثة قضايا أساسيّة ترتبط كلّ منها بالأخرى، الإنسان والوطن والتطوّر التكنولوجيّ، وأثر كلّ عنصر من هذه العناصر على الآخر، فقضيّة القيم الأخلاقيّة الفاسدة في المجتمع، لا شكّ تترك علاماتها الواضحة على المشروع الوطنيّ، فيما الوطن يعاني من سلوك وأطماع الإنسان في الماضي والحاضر، وما صاحبهما (أي الإنسان والوطن) من إغراءات التطوّر التكنولوجي الهائل ومحاولات استبدال الأوّل بالرّوبوت، واختصار الثاني في قرية كونيّة واحدة.
مفهوم التناسخ وسرياليّة المشهد
بدأ الكاتب من العاديّ واليوميّ في حكاياته الثلاثة الأولى، وهي بالمناسبة القصص التي لو ركّز سلامة قليلاً لاستغنى عنها، إذ كانت هي الأضعف فنيّاً من وجهة نظري في هذه المجموعة، التي سريعاً ما انطلقت لفضاءات وقضايا أجمل وأعمق مع القصّة الرابعة المعنونة بـ”المنسيّون” والمرتبطة أولاً بالقضيّة الوطنيّة، وثانياً بإنسان هذا الوطن، وتتكامل بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ مع القصّتين التاليتين (شعبان 1948- البيرة 2018) ولننتبه مع هذه القصص الثلاث لأمرين أساسيّين، الأوّل يشير إلى توظيف الزّمن بداية من العناوين للإضاءة على المشكلة الوطنيّة التي طال أمد حلّها إلى يومنا هذا “وكأنّنا نشاهد فيلماً دراميّاً، نترقّب نهايته بلهفة(ص٤١)؛ والثّاني يتعلّق بتأثّر وربّما استفادة الكاتب ممّا أنتجه آخرون حول هذه القضيّة، حيث يشير مضمون هذه القصص الثلاث، إلى رواية “قابض الرّمل” لعمر خليفة، وهي رواية كُتبت على شكل نوفيلا، الأمر الذي يمكن للقارئ أن يلاحظه أيضاً حين يطالع القصّة الحادية عشر المعنونة بـ”حين غابت الشمس” إذ يتشابه موضوعها مع رواية “العمى” للبرتغالي جوزيه ساراماغو، إلّا أنّ عبد الغني وُفِّقَ في تطوير أفكارهما، فقدّم شكلاً فنيّاً ثالثاً يخصّه من حيث شكل الحبكة وصيغ المعالجة.
في قصّة “شبابيك الجيران” وهي القصّة الأجمل على كلّ المستويات وتأخذ المجموعة اسمها، يلجأ عبد الغني إلى حيلة فنيّة ذكيّة، مكّنته من توظيف ما يُعرف بمفهوم تناسخ الأرواح، وهي فكرة فلسفيّة ودينيّة، لصالح التنقل الذهنيّ غير المرئيّ بين الماضي والحاضر والمستقبل، مستفيداً من الذاكرة بوصفها حاضنة أحداث وشخوص وتفاصيل يمكننا استدعاؤها متى شئنا، والتغيير أو التعديل عليها كيفما أحببنا أو تمنّينا، فإنّ البطلة العجوز غيداء، ومن دون أن تعي، ترى نفسها في شابّة تقطن في العمارة المقابلة لها، منذ لمحتها للمرة الأولى لتمارس عليها وعلى حياتها الأسريّة فعل التلصّص، فتنسج الأحداث وتتابعها وتناقشها مع زوجها كما تراها وتشتهي أن تكون، ليفاجئ القارئ في نهاية القصة بأنّ “هذه العمارة خالية من السّكان ومهجورة منذ أكثر من ثلاثين سنة (…) وزوج غيداء لا يقيم معها إلّا في حدود إطار صورته المعلّقة على الحائط منذ مات قبل خمس وعشرين سنة”(ص82-83).
أما قصّة “في مقهى الانشراح”، فإنّ قارئها من قاطني مدينة رام الله سيشعر للوهلة الأولى أنّ الكاتب يتحدّث عنه بشكل شخصيّ، حيث يعكس روّاد المقهى حياة شريحة واسعة من شرائح مجتمع الطّبقة الوسطى، مع بعض استثناءاتٍ صعوداً وهبوطاً، فـ”لمقهى الانشراح أوجه عدّة، يبدّلها كلّ ساعة، تماماً كما تفعل رام الله”(ص50)؛ التي تتميّز بهذا الخليط الغريب العجيب، الجامع بين طيّاته عادات وسلوكيّات بشر توافدوا من كافة مدن وقرى الضّفة الغربيّة، ليشكّلوا معاً مشهداً مجتمعيّاً مصطنعاً ومعقّداً ومجنوناً إلى حدّ بعيد، ففي “مقهى الانشراح كلّ شيء غريب، متوقع”(ص54).
في هذا المقهى تستطيع أن ترى كلّ تناقضات الحياة في رام الله، فـ”لوهلة قصيرة أحسست أنّ كلّ روّاد المقهى مزيّفون، أردت أن أصرخ في وجوههم: أيّها الكذبة والفارغون”(ص54)، وفي لحظة أخرى تخرج إلى هذه المدينة، لتُصدم بأكثر التناقضات سرياليّة “كنّا نهتف ضدّ السّلطة، وضدّ الحلّ السلميّ، والتنسيق الأمنيّ، ثمّ تشابكت الهتافات وتداخلت الشّعارات على نحو مجنون وغريب.. ما أوصل مشهد الجنون إلى ذروته أنّي لمحت أبي في الصّف الأماميّ من الجنود، يحمل درعاً من البلاستيك المقوّى… فيما كنت أنا وسهام ملثّمين، ما جعلني أطمئنّ بأنّه لن يميّزنا، ولكن هل سيكون نصيبنا من الضّرب على يديه؟ كان سؤالاً مرعباً”(ص60-61).
معالجة ذكيّة لقضايا شائكة
ثمّة معالجة ذكيّة لعدد من القضايا المهمّة والخطيرة والحسّاسة في آن، وردت في قصّة “من يجرؤ على شتم الرّئيس؟”، إذ يتوقّف الكاتب في هذه القصّة أمام ثلاثة قضايا أساسيّة في حكاية واحدة، هي “سفاح القربى/ وصورة المرأة المعنّفة في المجتمع العربيّ/ وقضيّة الفساد السياسيّ والأخلاقيّ لبعض رجالات السّلطة”؛ توقّف سلامة أمام هذه القضايا ليمارس حقّه المشروع في النّقد اللّاذع للكثير من الممارسات المسكوت عنها اجتماعيّاً وسياسيّاً، حيث تعدّ قضيّة سفاح القربى إحدى أكثر القضايا المخيفة على المستوى الاجتماعيّ، فضلاً عن قضيّة الفساد الأخلاقيّ والسياسيّ لبعض رجالات السّلطة، وما بينهما يتجلّى تواطؤ مجتمع الذكورة مع ما يحدث للأنثى من حيث تعريفها الجندريّ؛ في هذه الحكاية تتعرّض “سمر” بطلة القصّة للتحرّش والاعتداء الجنسيّ من قبل والدها المسؤول الكبير في الحزب، فيما تتعرّض الأمّ لتعنيف الأب كي تصمت، لتحاول كلّ واحدة منهنّ تقديم شكوى لأجهزة أمن ترفض من الأساس فكرة قبول الاتّهام لهذا المسؤول، صاحب الشعارات الوطنيّة الرنّانة، الأمر الذي يدفع سمر للتفكير في حيلة تمكّنها من أن تفضح والدها وتقتص منه، فكان أن فكّرت في تسجيل صوته وهو يحاول الاعتداء عليها، لتعمل على استفزازه بسؤاله: “تخيّل لو تعرف قيادة الحزب بأنّك تتحرّش بابنتك؟؟ فبهت أبو الرّعد، واكفهر وجهه (…) أجاب بعصبيّة: خرا عليك وعلى الحزب.. ولمواصلة استفزازه، قالت: فكيف لو عرف السيّد الرئيس بذلك؟ هنا بلغ أبو الرّعد حدّاً غير مسبوق من العصبيّة (…) فردّ بصوت أعلى: يلعن أبوك، على أبو السيّد الرئيس (…) هل تزاودين عليّ… أنا من يدلّس على الناس بحبّ السيّد الرئيس”(ص71-72)، ويستمر في شتمها وشتم الرئيس، لتحذف صوته المتحرّش بها، وتبقي على قذفه وشتمه لها وللرّئيس وتقدّم تسجيلها للأجهزة الأمنيّة التي تتّخذ أمراً بتصفيته، وهكذا تتخلّص وأمّها من همٍّ ما كانتا ليتخلّصنَ منه إلّا بهذه الطريقة، التي انتهت بمشهد استدعاء لخّص مآل كلّ فاسدٍ ومفسدٍ وتابعٍ، حيث “قرع الباب شابّ أنيق بثياب رسميّة، وسلّم سمر رسالة مختومة من قيادة المخابرات، وبداخلها النصّ التالي: يحضر شخصان فقط من العائلة، لاستلام جثّة عبد الغفار، بعد دفع 25 فلساً رسوم الرصاصة التي تكفّلت بإنهاء حياة الخائن الذي تجرّأ على شتم السيّد الرئيس”(ص74).
النوفيلا مقابل القصّة
اللّافت للانتباه في مجموعة “شبابيك الجيران” أنّ الكاتب عمل على تقديم أكثر من قصّة بموضوع واحد، كما هي حال القصص الثلاث التي أشرنا إليها في بداية هذه القراءة (المنسيّون/ شعبان 1948/ البيرة 2018)، وكذا الحال مع قصتيّ (مجرّد برغي/ وأكوان موازية) والتي احتشدتا في حوالي 68 صفحة، وتتحدّث الأولى عن المصير المشترك للبشريّة بعد خروج قمر اصطناعيّ عن مساره، واحتماليّة اصطدامه بالكرة الأرضيّة وتدميرها في دقائق معدودة، فيما تتناول الثانية قصص ثماني طلاب دكتوراة تمّ اختيارهم وفق معايير معيّنة، راعت اختلاف الأعراق والثقافات، بعد موافقة وكالة ناسا على تمويل ودعم مشروعهم للسّفر عبر الفضاء، على متن مركبة أطلق عليها “عابرة الأكوان” برفقة ثلاثة روبوتات آلية، وبعد مرور سنة ونصف وفق تقويم كوكب الأرض، تعرّضت المركبة لهزّةٍ أفقدتهم الوعي لفترة زمنيّة غير معلومة، هبطوا بعدها على ما يشبه كوكب الأرض، ليبدأ كلّ منهم بالقفز نحو ما اعتقد أنّه موطنه الأصليّ ليواجه مصيراً مغايراً في الكثير من التفاصيل، لكنّه مشترك في التّحولات التي فاجأتهم.
هاتان القصّتان لو فكّر الكاتب في الاشتغال عليهما قليلاً مضيفاً إليهما قصة “قابيل @ هابيل. كوم” بعد إجراء بعض التعديلات الطفيفة، لكان خرج برواية قصيرة مهمّة وجميلة، تحديداً حين ينتبه القارئ المتفحّص للجوء القاصّ إلى فكرة تقديم معالجة أدبيّة ناجحة لقضيّة وطنٍ كالعراق، في وحدات منفصلة على صعيد الشّكل، متكاملة في المتن، حيث امتازت هذه الوحدات بالتنقّل المفاجئ على جبهة الحقب الزمنيّة المختلفة، الموحّدة على جبهة السياق المضامينيّ، وهي القصّة التي وردت بعنوان “ميلشيات أبو الكلاب” إذ استدعى الكاتب زمن الأمين والمأمون ليحاكي زمن العراق الرّاهن بعد الاحتلال الأمريكيّ، وما بينهما جاءت معالجته لفكرة الإخوة الأعداء “الأمين والمأمون” وهي الفكرة المتكرّرة منذ هابيل وقابيل، ما يعني أنّ الكاتب كان بإمكانه أن يعيد النّظر في بعض المضامين والأحداث ويوحّدهما مع قصّة المصير المشترك للبشريّة في ثوب روائيّ واحد، كان يحتمل أن ترافقه القضيّة الوطنيّة الفلسطينيّة، باعتبارها قضيّة حقّ في مواجهة باطل، ما يدعوني للقول إنّنا أمام مجموعة قصصيّة بنكهةٍ روائيّةٍ من جنس النّوفيلا، استطاعت أن تقدم معالجات ذكيّة لقضايا شائكة.