رحلَ عن عالمِنا يوم الإثنين 16 كانون الثاني/يناير من العام 2023 عالمُ الاجتماعِ الفلسطيني إيليا زريق، عن عمرٍ ناهزَ 84 عام، وهو كاتبٌ وباحثٌ أكاديميّ، واستاذٌ فخريّ في علمِ الاجتماعِ في جامعةِ كوينز في كندا ويَشغَلُ منذُ العام 2017 منصبَ أستاذ زائر في معهدِ الدوحة للدراسات العليا – مركزُ دراسات النزاع والعمل الإنساني، ولقد ولد إيليا زريق في عكا في فلسطين المحتلة سنة 1939 وحصلَ على شهادةِ الماجستير من جامعة سيمون فريزر في كندا، وحازَ شهادة الدكتوراه من جامعة اسكس في بريطانيا .
لقد شَكَّلَ رحيلُ زريق خسارةً معرفيّةً فلسطينيّةً وعربيّةً وعالميّةً هائلة، حيثُ كانَ زريق ولعقودٍ طويلةٍ من الزمن، باحثًا وأكاديميًا له اسهاماته البحثيّة النوعيّة والهامة، والتي أحدثت نقلاتٍ نوعيّة وفارقة في تاريخِ دراساتِ علمِ الاجتماع، وتاريخ الاستعمارِ الصهيوني في فلسطين وسوسيولوجيا المجتمعاتِ الاستيطانيّة الكولونيالية، وأنماط المراقبة، والتي تمحوّرت دراساته ومؤلفاته حولها لعقودٍ طويلةٍ من الزمن، ويُمكِنُ الحديث عن عددٍ جيدٍ من المؤلفاتِ البحثيّة الجادة والنوعيّة التي خلّفَها إيليا زريق للباحثين والمهتمين في علم الاجتماع في المنطقةِ العربية والعالم، والتي من أهمها: “الفلسطينيون في إسرائيل: دراسة في الاستعمار الداخلي، وسوسيولوجيا الفلسطينيين، والرقابة والرصد والعولمة، والرقابة والاستعمار والخصوصية، الديموغرافيا والترانسفير: طريق إسرائيل إلى المجهول، وقضايا نظرية ومنهجية حول دراسة المجتمع الفلسطيني ومشروع إسرائيل الكولونيالي في فلسطين: المطارة الوحشية، والمراقبة وحفظ الأمن على الصعيد العالمي: الحدود والأمن والهوية.
ولقد كوّنت كلُّ هذه المساهمات البحثيّة مجتمعةً وغيرها من المؤلفات والمقالات البحثيّة التي عملَ عليها إيليا زريق خلال رحلة علميّة وبحثيّة طويلة، رافداً مهماً ونوعيًا من الروافد التي رفدت محاولات النهوض بالوعي المعرفي العربي والفلسطيني وجعله أكثر نضجًا وإدراكًا لحقائق النمو الاستعماري والاستيطاني الكولونيالي في المنطقة العربية، والّذي بات أكثر وحشيّةً وهينمة ونفوذ، تقول غانية ملحيس الباحثة والكاتبة الاقتصادية والسياسية الفلسطينية في مقالٍ لها نُشرت عبر الموقع الإلكتروني للمركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية – مسارات: “اهتم الأكاديمي البارز إيليا زريق بالبحث في أسباب وعوامل إخفاقاتنا المتتابعة في مواجهة الغزوة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية واستمرار العجز في وقف تقدمها. ودافعه الرئيس النهوض بالوعي المعرفي الفلسطيني والعربي لتبين سبل ومستلزمات النهوض”
لقد دفعَ عن هذا الإمعان في محاولةِ الفهم لطبيعة الموجةِ الاستعمارية الاستيطانية بالعموم، والصهيونية منها على وجه الخصوص، إلى استنتاجِ مجموعةٍ من الحقائقِ التي تميزُ المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني عن غيره من المشاريع الاستيطانية الاستعمارية التي شهدَها التاريخُ الإنسانيّ الحديث والمعاصر والتي أهمها، أن المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، يُعرّفُ مواطنتهُ على أنها المزج بين الدين اليهودي والقوميّة المستحدثة، ما يجعل من المستحيل تحويله إلى دولةٍ وطنيّة، كما حدثَ في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا وجنوب أفريقيا، كما تشيرُ إلى ذلك غانية ملحيس في ذات المقالة.
ولقد شَكَّلَ حضور الدكتور إيليا زريق في فضاءِ دراساتِ علمِ الاجتماعِ في المنطقةِ العربيّة، داعيًا مستمرًا إلى النهوض بعلمِ الاجتماع وتكثيفِ حالة الدراسة الأكاديمية والعلمية والجهود البحثية المُتقدمة والنوعية له في المنطفة العربية التي هي أحوج ما تكون إلى إحداث تقدماً علميًا ومنهجياً في علم الاجتماعِ وسوسيولوجيا المجتمعات العربيّةِ في الشرقِ الأوسط، وواعيًا في ذات الوقت إلى تطورِ العلومِ الاجتماعيّةِ العربية، والعلاقات القائمة بينها، وإلى أنها تعاني من الضعف المنهحي لإعتمادها الهائلة على المفاهيم الجاهزة والمستوردة من تجربة المجتمعات الأوروبية، مرجعاً ذلك إلى أسباب متعلقة بهمينةِ النُظمِ السلطوية العربية، وغياب الديمقراطية، وشيوع الاستبداد، وفي مقابلة معه أجراها موقع العرب أكدَّ دكتور الراحل إيلياء زريق على غياب الاهتمام المؤسسي للمؤسسة الأكاديمية العربية بالقيمة المعرفيّة لعلمِ الاجتماع، وعدم التركيز عليه، كما هو حادث لدى علوم طبيعية وانسانية أخرى، يقول:” أن اهتمام العالم العربي بعلمِ الاجتماع ضئيل جداً، مشيراً إلى أنه على الرغم من أهمية العلم للمنطقة إلا أنه ليس له هذه المرتبة العالية مثل ما للهندسة، والمحاماة، مضيفاً أنه يأمل من خلال معهد الدوحة للدراسات العليا، ومن خلال قسم الاجتماع والأنثروبولوجيا رفع الاهتمام بهذا العلم”
وتبزرُ أكثر القيمة المعرفيّة المرتفعة لأبحاث ودراسات الراحل إيليا زريق وخاصة تلك المتعمقة في سوسيولوجيا المجتمعات الكولونيالية الاستعمارية في المنطقة العربية، لأنها عانت ولا تزال تعاني من أشكالٍ متعددةٍ ومتنوّعةٍ من أنماطِ هذا الاستعمار، حيث عانت المجتمعات العربية من الاستعمار الفرنسي والإيطالي والبريطاني، ولا تزال ارتدادات هذه المعاناة حاضرةً في مناحي مختلفة من الحياة في الفضائين العام والخاص في المنطقة العربية، وفي فلسطين لا يزال المجتمع العربي الفلسطيني إلى اليوم يعاني من موجاتٍ متتاليةٍ ومستمرةٍ من الاستيطانِ الصهيوني، ويشيرُ الراحل دكتور إيليا زريق في هذا الإطار إلى أن القيمة المتجددة لعلم الاجتماع وتعاطيه المتقدم مع متطلبات الحداثة وطبيعة الحياة المعاصرة التي تعتمد فيها المجتمعات الإنسانية، ولاسيما العربية منها على منتجات الحداثة والعالم المفتوح من خلال الانترنت تعطيه أهمية مضاعفة خاصة في ظل ِالتطورات التكنولوجية الهائلة التي يعيشها العالم يقول: “نريد أن نلقي الضوء بصورةٍ أكبر من خلاٍل قسم الاجتماع في المعهد -يقصد معهد الدوحة- هو تأثير التكنولوجيا على المجتمع، وبصورة خاصة وسائل الاتصالات ومدى تأثيرها على البيئة الاجتماعية، ولو لاحظت أن هذه الوسائل مؤثرة جدا في الخليج، وانظر إلى استهلاك قطر في الإنترنت، تجده مرتفعا جداً”.
ويضيف الراحل دكتور إيليا زريق في مقابلةٍ أجرتها معه ميدان: أهمية أن يعي الجيل الجديد من صغارِ السن -مقارنة بعُمري- أهمية المراقبة، فلا أظن حقيقة أن هناك وعيا بالعالم العربي عموما بأخطار المراقبة، ومن يستخدمها، وكيف تؤثر أدوات المراقبة على السياسة، الحكومات، وتأثيرها بصورةٍ مباشرةٍ على المستهلك العادي. في الحقيقة هناك فجوة عميقة حين مقارنة الأبحاث التي تتصل بالمراقبة في الدول الغربية مع نظيراتها العربية
نعم، الجيل الجديد يفتقد الوعي بأهمية المراقبة، حيث ما زالوا يفكرون بطريقة تقليدية، ويعتقدون أن مواجهة الحكومات مع شعبها يقتصر على العنف المباشر، أي باستخدام أدوات القمع المادية، وهذا صحيح إلى حدٍّ بعيد، لكن في الوقت ذاته، هنالك أدوات جديدة ومؤثرة بدأت بأخذ موقعها، وتزامناً مع عدم رغبة الحكومات باستخدام البطش ضد شعبها بصورة دائمة، فإنها تلجأ لمراقبتهم عن كثب، عبر التنصت على مواطنيها ومراقبتهم على كل ما تطوله أدواتهم، وبذلك فإن الحكومات قادرة على تشكيل تصوّر بتفاصيل دقيقة عن الشخصيات قبل اعتقالها. خذ إسرائيل كمثال، دراسة أنظمة الرقابة عند هذه الدولة كفيل بتبيان أخطار الرقابة، وأهمية الانتباه لهذا العامل وتأثيراته، فأنظمة الرقابة تعد إحدى أدوات الحرب الرئيسية التي تستخدمها إسرائيل، وكما قلت، ما زال التفكير التقليدي يعتقد أن الحرب مُقتصرة على الدبّابات والجيوش، والمواجهة المُباشرة.
وظلّت فلسطين حاضرةً في عقلِ ووجدان الراحل دكتور إيليا زريق، التي اغترب عنها لسنواتٍ طويلة طوّف فيها العديد من العواصم والبلدان، إلا أنها ظلّت حاضرةً حضورًا يمكن ملامسته من خلاله قراءة النتاج البحثي للراحل والذي تحضرُ فيه فلسطين حضورًا معرفياً ووجدانياً، فهي أما عن فلسطين من حيث كونها الوطن المقود، أو عن مجتمعها، أو عن الاستيطان الّذي يحيطُ بها، لقد شكّلت فلسطين ولسنواتٍ طويلةٍ بوصلة الفهم والدراسة والبحث والحنين للدكتور إيليا زريق، ويمكن لنا من خلال استعراض مؤلفاته بالعموم، وكتاب “مشروع إسرائيل الكولونيالي” وباستعراض فصوله وخاصة الافتتاحية التي يبيّن فيها العلاقة بين إسرائيل والكولونيالية والأدوات المخابراتية والمعلوماتية المستعملة للحفاظ على بقاءِ المشروع الإسرائيلي أن نلحظَ ذلك في أطرٍ معرفية وبحثية موضوعية موثوق بها.
رحل دكتور إيليا زريق تاركًا إرثًا معرفياً من المؤلفات والمقالات والأبحاث التي ستعيش طويلاً وتظل رافدًا معرفياً وعلمياً لعدد كبير من الباحثين والمهتمين في المنطقة العربية والعالم.