في ظل نظام رأسمالي وسوق حر، استطاعت السياسات النيوليبرالية والاستهلاكية اجتياح جميع العوالم وليس فقط عالم الاقتصاد والتجارة. بل الثقافة والمجتمع والسياسة وحتى الروحانيات. فتحوّل عالم الفن إلى سوق سِلع تجارية له قوانين ومؤثرين ومهيمنين، بالإضافة إلى تأثير علاقات ما بعد الاستعمار بين المُستعمِر والمُستعمَر والإمبريالية الثقافية والتبعية التي ترافقهم في مختلف الحقول والعوالم. في حقل الموسيقى مثلًا، يظهر هذا من خلال التبعية الفنّية وعدم التكافؤ في التبادل وتوزيع الموارد الموسيقية والثقافية. فالموارد الثقافية محدودة في سوق الفن ومعظمها محتكر من الغرب وما يسمى “فضاءات ثقافية مركزية”. وفي الفضاءات الهامشية (فلسطين في هذا المقال خاصة والمنطقة عامّةً) الموارد المتوفرة محتكرة من قِبل احتلال وطبقة سياسية حاكمة أو مؤسسات خاصة محصورة في طبقة اجتماعية معينة وبناءً على قواعد معينة يتم توزيع هذه الموارد واكتساب رأسمال معين.
اعتمد ارتباط عالم الفن بحقل الاقتصاد على صعود السياسات النيوليبرالية في الولايات المتحدة وأوروبا خلال العقود الماضية، والتي أنتجت، بحسب تومي سورو (2021)، تقليل في التمويل للثقافة وصعود تسويق (marketization) الجامعات وخصخصة المؤسسات الثقافية (متاحف، معارض فنية)، بالإضافة الى إعطاء أهمية للتعليم الأكاديمي والمؤهلات وتأثيره على الرحلة المهنية للفنانين. على الرغم من أن علم الاجتماع والانثروبولوجيا يقرّان بأن الفن عبارة عن عملية تشاركية وجماعية تتضمن مجموعة من الأشخاص المتخصصين وتقسيم للعمل (division of labor)، الطبيعة التجارية لسوق الفن فرضت نظرة فردية (singular) للفنانين (بورديو، 1993؛ سودي، 2020). نلاحظ أنه أصبح الفنانون يعتمدون استراتيجيات تجارية تبرز مواهبهم الاستثنائية ويشرعون في عمليات بناء “علامات تجارية (brand)” ليتمكنوا من تسويق أنفسهم وبالتالي التقدم في عالم الفن. لقد تم ترويج هذه الصورة للفنانين على أنهم عمّال مستقلين مثاليين وغير مهمشين في نظام رأسمالي هدفه تغيير النظرة إلى العمل والإنتاج من تنظيمية الى عمالة مستقلة ومبادرات فردية لكي يتمكن من إنشاء رؤوس أموال ناتجة عن العمالة الفردية (Ibid). وبالطبع هنا يعلق الفنانين أو الموسيقيين في هذه الحالة بين عمالة فنية وابداعية أو اكتساب رأسمال وتيسير الأمور.
أصبح هناك ازدواجية في صورة الفنّانين في عالمنا؛ “يُنظر إلى الفنّانين على أنهم شخصيات متميزة، ومنفردة، ومبدعة، مع درجة عالية من الحرية في عملهم، والتي تُعتبر أمر خاص وراقي مقارنة بأنواع الوظائف الأخرى. من ناحية أخرى، يبدو أن الفنانين مُعرّضين مباشرةً لتأثيرات ترتيب العمل النيوليبرالي المرن (والذي يفتقد لشبكات أمان).” يجب عليهم التفاوض باستمرار حول الفرص المتاحة لوقت قصير ومتقلبة في نظام هرمي، وبسبب طبيعة العمل الفني كعملية باطنية (internal) بالعادة يفعلونها بمفردهم إلى حد كبير. وهذا يدفعهم لخلق علامة تجارية لأنفسهم كما ذكرنا. هذه الازدواجية تسمح باستغلال الفنّانين وعمالتهم من قبل شركات التسجيل والمؤسسات الثقافية وغيرهم من فاعلين في عالم الفن. بالاضافة إلى ذلك، يصبح الإنتاج الجماعي للفن أو العمل الجماعي في حقل الفن (الموسيقى) مشحون، وغير قابل للتنظيم بسبب النظرة الفردية التي تم إنتاجها، لأن كل فنّان/ة يريد/تريد النجاح والتقدم في عالم الفن وبالتأكيد اكتساب الربح المالي، فالعمل الجماعي يصبح تحديًا أكبر (سودي، ص4-5).
من المهم الاشارة إلى أن سوق الفن المعاصر قد تطور منذ التسعينيات، وأنتج هذا التطور ممارسات جديدة وبنية تحتية ومعايير وأدوار مهنية جديدة لإنتاج الفن، حتى طرق التسويق وتداوله تطورت وتجددت. ومع عمليات الخصخصة والدعائية أصبح هذا السوق فيه تقلبات في الأسعار والطلب على السلع الثقافية أو الانتاجات الفنية. على سبيل المثال، في الهند، وبعد موجة “ازدهار (boom)” اتسمت في المبالغة في التجارية (over-commercialization) ارتفعت أسعار الفن ثم هبطت بشكل كبير، وأتى ركود في عام 2009 و”أعرب العديد من الفنانين والتجّار وجامعي التحف والقيمين على حد سواء عن أسفهم لأن الفن الهندي أصبح موضوعًا للمضاربة المالية التي فشلت في النهاية، على حساب الفن، والفن المعاصر على وجه الخصوص، فيتم إنتاج الفنانين (بصورتهم الفردية) بشكل مفرط تحت الضغط لتلبية طلب السوق وهذا أنتج فن متوسط غير مؤثر لم تدوم قيمته” (نفس المصدر). نورد هذا للإضاءة على أن عالم الفن هو سوق ضخم يضم لاعبين عديدين ومتنوعين، له بنية هرمية وتغيّرات وتحولات مثل أي سوق تجاري.
لمعرفة كيفية التقدم والتعامل مع هذا السوق وأيضاُ لمناهضة هذا الشكل التجاري الاستهلاكي للفن، والذي من المفترض أن يكون ناقد وبنّاء، علينا معرفة ما هي مكوناته وبنيته. فغير البنية الهرمية والتوزيع غير المتكافئ للموارد، هناك لاعبين عديدين في حقل الثقافة (حقل الموسيقى في هذه الحالة). من أهم اللاعبين في هذا الحقل ولديهم دور في إعطاء القيمة للانتاج الفني أو الفنان، بحسب ليزي (2016)، هم وسطاء العمل (work intermediaries). الوسطاء (mediators)، الذين يحددون علاقة الجمهور بالعمل الفني مثل بائعي الكتب او عاملين المتاحف أو الراديو. المثمّنون (Appraisers-prescribers) وهم نقّاد الفن او”الخبراء”. الكادر الاداري للمؤسسات الثقافية، إدارة المتاحف أو منظمين برامج الراديو. الموزعين، وهم وسطاء السوق الفني، مثل مالكين ديور السينما أو موزعين الموسيقى والأفلام على السوق. وسطاء الإنتاج (intermediaries of production)، والذين لديهم دور في خلق المنتج الفني وإيصاله إلى السوق، مثل الناشرين أو منتجين الموسيقى ومالكين معارض الفن. وسطاء العمل الفني (intermediaries of artistic work) يقعون بين الفنانين والموَظِّف في سوق العمل مثل المدراء أو العملاء (agents and managers). فمثلًا، يعمل مديرو الاستوديوهات بمثابة حراس بوابات (gatekeepers) عن طريق فهمهم للأسواق العالمية والمحلية وتداول السلع الثقافية (الموسيقى) ولهم تأثير كبير على الفنانين ودرجة (وشكل) انخراطهم في هذا الحقل أو السوق عن طريق سيطرتهم على الشبكات التي تُكوّن عالم الموسيقى (ستوكس، 2004، ص53).
يلعب وسطاء العمل الفنّي دورًا حاسمًا بالنسبة للفنانين في السوق الثقافي. نظرًا للطابع التجاري لعالم الفن، الحصول على الاعتراف والتقدير (recognition) بالإضافة إلى خلق قيمة لمنتجاتهم الفنية أمر مهم وحاسم للفنانين. هنا، التركيز على حقل الموسيقى بالتحديد، فالحديث سيكون عن وسطاء العمل الفنّي، وهم الوكلاء والمديرون، الذين يقعون في موقع حسّاس جدًا، وهو وسط العلاقة المتوترة بين النزعة التجارية والإبداعية الموجودة في حقل الثقافة والموسيقى. إن خلق القيمة الفنية لمنتج موسيقي وفنّي يأتي عن طريق تراكم رأس المال الرمزي. لأن يحتاج رأسالمال إلى الاعتراف ليكون له قيمة. هناك ثلاث طرق يساهم بها الوسطاء في خلق قيمة للإنتاج الموسيقي بالإضافة إلى الاعتراف برأسمال ثقافي معين للفنانين (ليزيه، 2016، ص 47).
الطريقة الأولى هي بناء الصورة الفردية للموسيقي “تفرّد (singularity) الفنان وعمله وحرفته وصورته”؛ وهي مقدمة لعملية بناء العلامة التجارية كما ذكرنا من قبل. بهذه الطريقة يتم بناء “المُنتَج”، وهو أساس الترويج، على أساس الجمهور المُستهدَف. بعد هذه العملية، هناك مرحلة بناء القيمة الرمزية، باستخدام الأعمال الترويجية واستراتيجيات لزيادة الظهور العام. ثم ينتقلون إلى القيمة السوقية للفنانين وإنتاجاتهم التي من الممكن تحسينها من خلال المعرفة الخاصة لدى الوسطاء في سوق الفن، من التحولات الاقتصادية والسوقية والتقلبات، مثل ديناميكية العرض والطلب (supply-demand) أو الجمهور والفضاء المستهدفين. أخيرًا، الطريقة الثالثة التي يساهمون بها في خلق القيمة هي من خلال رأس مالهم الاجتماعي (الشبكة الاجتماعية). فكل ما ازدادت “المعارف” كل ما كان هناك فرص عرض أو توسع أكثر، كل ما استطاع الوسيط مراكمة رأسمال رمزي أكثر، عن طريق الظهور في حفل، أو مجلة موسيقية أو عرض ترويجي.
علينا الحديث قليلاً عن راس المال الرمزي هنا لأنه ظهر في المقال بضعة مرّات. من المهم التشديد على أن رأس المال الرمزي ليس نوع رأس المال، بل هو ما يصبح عليه عندما يتم الاعتراف برأسمال معين (وممكن أن يكون ثقافي أو اجتماعي أو سياسي) والاعتراف به كرأسمال له قيمة، وهكذا يصبح له قيمة “رمزية”. على سبيل المثال، يجب الاعتراف برأسالمال الثقافي (مهارات ومعرفة ثقافية) من طرف معين حتى يكون ذا قيمة. يحصل هذا عن طريق عملية المَئسسة، فتتلخص في تحويل الرأسمال الثقافي إلى مؤهلات أكاديمية معترف بها قانونيًا. بهذه الطريقة يضمن الشخص راسمال ثقافي معترف به وله قيمة ثابتة.
مثلًا، إذا كان لديّ شهادة في الإنتاج الموسيقي، يجب أن يتم الاعتراف بهذه الشهادة من قبل مؤسسة أو جهة معينة يكون لها “مصداقية” أو “سلطة”، لكي تصبح “شهادة كفاءة ثقافية” ويكون لها قيمة واقعية وفعلية (بورديو، 1993، ص 37-38). في عالم الإنتاج الموسيقي، الرأسمال هذا يُكتَسب عن طريق التعلم أو سلسلة تجارب وخبرات، والتي هي مجموع الموارد الثقافية الموزعة بطريقة غير متكافئة ويهيمن عليها الرأسمال الاجتماعي والثقافي. بمعنى آخر إن هذا الاعتراف برأس مال معين يتم بناءً على العلاقات والشبكات المهيمنة على مجال الموسيقى. مهم الإشارة هنا إلى العامل الطبقي والاقتصادي. إن عملية المأسسة تجعل من الممكن تحديد قيمة اقتصادية لهذه “الشهادت” (والتي تُعتبر رأسمال ثقافي مُمأسس). يُحدد معدلات تحويل (exchange value) بين رأس المال الثقافي ورأس المال الاقتصادي (بين الشهادة والمال) من خلال ضمان القيمة المادية. وهذا المعدل للتحويل بين رأسمال اقتصادي وثقافي ينتج القيمة ويثبتها، على شكل رأسمال ثقافي. بمختصر، يتم بيع وشراء الرأسمال الثقافي بناءً على المؤسسة وبحسب القيمة المادية، يتم اكتساب الكفاءات (شهادات) اعتمادًا على المؤسسة وموقعها بين الشبكات والعلاقات المهيمنة في عالم الثقافة. في حالتنا، أيّ فلسطين، من يملك سلطة تحويل رأس مال معين وكيف يتم منحه قيمة؟ هل هي جهة رسمية أو دولية أو مدنية؟ مهما كانت ستكون إما سلطة فلسطينية سلطة الاحتلال أو منظمة خاصة.
أمر محوري هو ملاحظة المصطلحات الاقتصادية والسوقية المستخدمة في الحديث عن وتحليل المعاملات الثقافية، وإنتاج الموسيقى وتوزيعها واستهلاكها. مصطلحات مثل، ترويج، سعر السوق، ازدهار، رأسمال، قيمة تبادلية، عرض وطلب. هذا للتشديد مجددًا على الطابع الاقتصادي والواقع التجاري لعالم الموسيقى والثقافة.
هناك نظرية في علم الاجتماع تسمى “نظرية المطابقة الثقافية” (cultural matching theory) وهي باختصار ترمي إلى أن الأفراد من مختلف طبقات المجتمع يقدمون فن مختلف لحرّاس بوابات (gatekeepers) سوق الفن أو حقل الموسيقى، ويتم التمييز (ليس بقصد) لصالح المنتمين للطبقات العليا وهذا لأنهم يرون أن فنّهم أرقى أو أعلى مستوى من فن الطبقات الأخرى (ستريب وآخرون، 2021). وبهذه الطريقة يتم إعادة إنتاج التقسيم الطبقي للمجتمع. علينا الاشارة هنا أن هذا التمييز والذي هو لا يكون متعمد بل له طابع وظيفي في نطاق علاقات القوة والتوزيع غير المتكافئ للموارد والفرص المتاحة لمختلف الأشخاص في مختلف الطبقات الاجتماعية، فهنا عامل القصد أو العمد يمكن تجاهله لأن البنية الحاضرة والطبقة والعلاقات المهيمنة، لها تأثير كبير على الفرص المتاحة لمختلف الفنّانين من مختلف الطبقات وهذه هي النقطة التي تهمنا. مجموعة من الباحثين قاموا باختبار هذه النظرية، ووجدوا أن هناك ثلاث أسباب لتقديم نظرات مختلفة لحراس البوابات (الجهة التي يتم التقديم إليها)، السبب الأول أن الاشخاص من مختلف الطبقات يتوصلون إلى استنتاجات مختلفة عن ما يريده هؤلاء الجهات، بناءً على التنشئة والبيئة والتعليم التي تم الترعرع فيه. ثانيًا، لو كان لدى شخصين من طبقتين مختلفتين نفس الأفكار لن يكون لديهم الموارد أو الكفاءات نفسها لإنتاج هذه الفكرة وتقديمها. ثالثاً، إذا شخصان من طبقات مختلفة كان لديهم نفس الفهم لنظرة حراس البوابات ونفس النظرة الثقافية لن يتم تقديم الأفكار في نفس الوقت أو الطريقة عالأغلب لأن الأشخاص يحتكون بأفكار أو أساليب داخل بيئتهم أولًا، ثم أساليب وأفكار من بيئة أخرى، على الأغلب ستكون طريقة التقديم مبنية على بيئة الشخص وليس الجهة التي يتم التقديم لها (نفس المصدر).
بالتأكيد هذه العوامل والتأثيرات ليست ثوابت ولا حقائق، إنها قابلة للتغيير وبالطبع هناك حالات خاصة وطرق ممكن للشخص التعامل مع هذه البنيات والعمليات. دراسات كهذه مهمة كمثال ونقطة نقاش لمعرفة السياسات والشكل التي يتم تقديم الفن فيه وكيف يتم قبوله ليكون لدينا القدرة على التعامل معه أو تغييره. بعض الاختلافات التي تم تحديدها في الاختبار، والتي توفر أو تعيق الفرص عند تقديم عمل فنّي، هم العامل الاقتصادي والعامل اللغوي. العامل الاقتصادي، بحسب الدراسة، يؤثر على كفاءتين، الأولى هي التجارب والخبرة، لأن بالعادة تكون الخبرة عن طريق تدريب مثلًا ويجب أن يكون لدى الشخص وقت وإذا كان الشخص يعمل أو تعمل سيكون من الصعب خوض تجربة تدريبية لأن عليهم البقاء في العمل والوقت غير متوفر. وثانيًا، يؤثر على القدرة على التواصل بين الثقافات (cross-cultural communicator)، فالأشخاص الذين ليس لديهم رأسمال اقتصادي كافي لا يكون لديهم نفس نسبة الموارد الثقافية ولم يتعرضون بنفس النسبة إلى ثقافات أخرى. الاختلاف الثاني هو اللغة، فتأثير اللغة واللهجة محوري. كما أوردنا سابقًا، التعليم والطبقة والبيئة يؤثرون على لغة الإنسان ولهجته (بورديو، ص20)، في الدراسة هذه وجدوا أن اللغة لها تأثير على تقديم الفن والأسلوب المعتمد لدى الأشخاص من مختلف الطبقات والخلفيات، من أخطاء إملائية الى قواعد أو حتى كيفية فهم فكرة أو جملة معينة. تستخلص الدراسة أن النظرية قوية ومتينة على أرض الواقع لكنها ليست ثابتة وغير قابلة للتغيير (ستريب وآخرون).
دراسة حديثة أخرى نُشرت وكان لها صدى في حقل الموسيقى تشير إلى أن الموسيقى الإلكترونية يبقى منغلق أمام الطبقة العاملة (Brook et al., 2022) وظروف صعود هذه الموسيقى، بالتحديد التيكنو كان مرتبطًا بهذه الطبقة، لكن من خلال عمليات التسليع وخلق الأسواق الاستهلاكية أصبحت عالم هرمي منغلق. نرى هذا أيضًا في دراسة عن موسيقى الراي والراب والهوية “الفرانكو-مغربية” (Franco-Maghrebi) في فرنسا (Gross, McMurray & Swedenburg, 1994). تورد الدراسة أنه بعد أن كانت الراي موسيقى شعبية تحاكي الشارع الجزائري وغيره، تم تسليعها في فرنسا، وخلق لها سوق تجاري لاكتساب ربح مالي، بناءً على تصنيفات معينة (بالعادة هوياتية)، وبالتالي أصبح هناك عروض رأي في وسط باريس ولم يعود مرحب في الجزائريين في هذه الأماكن لأن يروهم أنهم من فئة “أقل شأنًا” وغير مرحب بها في هذا المكان. تحولت الراي في فرنسا من موسيقى شعبية تحاكي الشارع إلى سلعة ثقافية تمثل النبذ الاجتماعي تجاه طبقة أو جماعة معينة وتعيد إنتاج التقسيمات المجتمعية المصطنعة.
في مثال أقرب إلى منطقتنا، هناك دراسة تتحدث عن الفن “العربي المعاصر” وصعوبة تعريفه وتحديد معالمه أو خصائصه. وكيف الفن المعاصر في المنطقة “العربية” عالق بين النظرة الإسلامية للفن والنظرة التقليدية والتأثير الغربي والسيطرة من الطبقة السياسية على التطور الفني. نقطة مهمة في هذه الدراسة، تهمنا للمقال وبعيدة عن المسميّات الهوياتية، أنه في ظل هذه العوامل والتأثيرات، أصبح الفن “العربي المعاصر” ليس له هوية موحّدة ويتمثل بمجموع كلّي لجهود فردية. فكل فرد ينتج بحسب تجربته/ا ونظرتهم الى الفن والجماليات (لطفي، 2020). هنا النقطة التي تهمنا، الطابع الفردي الذي تم تعريف فيه الفن العربي المعاصر. من الممكن أن يكون أمر إيجابي من ناحية التطور والتجديد وفرص التعبير. لكن كما أوردنا سابقًا، هذه هي النظرة الغربية التجارية إلى الفنان، ونرى تأثير المنظور الغربي والسياسات النيوليبرالية وبالاضافة الى علاقات التبعية. فالفنّانين في المنطقة وبناءً على الأسلوب الفردي في حقل الفن، أولًا، أصبح من السهل استغلالهم؛ الكثير من الفنانين (الموسيقيين)، هدفهم الهجرة أو الوصول الى مؤسسات ثقافية غربية (وهو أمر منطقي ومفهوم لأن معظم الموارد والفرص في عالم الفن موجودة عند الغرب ومؤسساته وفي المنطقة هنا لدينا أنظمة منغلقة استبدادية)، ممكن أن يكون تمويل أو دار نشر أو شركات تسجيل. بالاضافة الى ذلك، هذا الأمر يخلق نوع من التبعية في الثقافة، فيتم إنتاج وتقديم الفن (بالتأكيد ليس كله) على أساس النظرة الغربية و وما يُعتقد هذه المؤسسات الغربية وحرّاس البوابات يعطون أهمية مثلًا او نوع الموسيقى أو الأسلوب المعتمد وحتى اللغة المستخدمة. مثل نظرية المطابقة الثقافية، هنا يتم قبول الفن الذي يتماشى مع نظرة الدولة أو المؤسسة أو الجهة المعينة التي يتم التقديم إليها بغض النظر إذا هو تمويل أو عرض أو معرض أو عملية تسجيل ألبوم موسيقي مثلًأ. أو يتم تسليع الانتاج الفنّي وإدخاله إلى السوق التجاري، على أساس مبادئ ومساومات معينة يضطر الفنانين عملها للتقدم في هذا السوق وتجريده من كل صلة أو أهمية سياسية واجتماعية وثقافية. وهناك عامل التنافسية الناتجة عن تفرد صورة الفنان وقلّة الفرص المتوفرة.
في فلسطين، إذا أراد/ت الموسيقي/ة اكتساب رأسمال ثقافي أو شرعنة رأسمالهم لكي يكون له اعتراف ويصبح له قيمة رمزية في سوق الفن، وبالتالي قيمة مالية، الخيارات المتاحة هي الجهات الرسمية في فلسطين (على الصعيد الرسمي المعترف به). وهم السلطة الفلسطينية ومؤسساتها أو الاحتلال ومؤسساته. والاثنين لديهم سردية معينة وقبضة عليها من ناحية الثقافة وما هو الفن وما الفن التي سيتم تشريعه (او عكس ذلك و”تجريمه”). بالطبع ممكن أن يكون هناك مؤسسات خاصة أو مدنية تحررت من هذه القبضة بطريقة أو أخرى، لكن سيكون هناك أيضا معايير معينة لديهم بناءًا على الممولين أو نظرتهم الأيديولوجية أو السياسية أو مصالحهم الاقتصادية. وهناك عامل الطبقية وهو من أهم العوامل المؤثرة والحاضرة في هذا السوق وغيره. خيار آخر يكون منظمة أو مؤسسة دولية أو غربية (ألمانيا، فرنسا، إنكلترا، هولندا أو الولايات المتحدة مثلًا) لكن سيكون هناك أيضًا قوانين أو تعليمات لعملية القبول أو التشريع أو الاعتراف بالإنتاجات المُقدمة، فهناك لغة وسردية معينة مهيمنة في كل حقل وفضاء تعتمد على من هم الفاعلين الأقوياء فيه.
بعد ما ورد في المقال عن حقل الموسيقى والسوق الثقافي، وبنيته الهرمية والتوزيع الغير متكافئ للموارد واحتكار عمليات التشريع الفني والتسليع، بعض الحلول التي نراها هي صعود أو إنشاء “فضاءات بديلة” (Alternative spaces) تتكون من شبكات أفقية (في العديد من الأحيان) للإنتاج والتوزيع. بالعادة تكون ردّة فعل ناقدة أو معارضة للطبيعة الاقتصادية والتجارية لعالم الموسيقى وتكون مستقلة وتوفر فضاء أو قاعدة بديلة للفنانين، للتعبير وبناء هوية فنّية تكون بعيدة عن السوق التجاري أو الفضاء المهيمَن عليه من قِبل جهات معينة. هذه البدائل بالتأكيد مهمة، فهي توفر مساحة لإكتساب مهارات موسيقية معينة عن طريق ورشات عمل مثلًا، توفير أدوات ودعم واقعي ممكن أن يستفيد منه الموسقيين عند الدخول إلى سوق الموسيقى وبالتالي يكون لديهم القدرة لأن يتواجدوا ولو ليس بقوة في عالم الفن (سودي، 2020).
لكن كيف لنا أن نذهب أبعد من ما هو “بديل”؟ كيف لنا أن نخلق قاعدة أو بنية أو شبكات جديدة وليست بديلة؟ لأن البديل يبقى جزء من التجاري. في فلسطين (وبالتأكيد البلاد المجاورة جزءًا لا يتجزأ) عدم الوقوع في فخ “الفضاء البديل” أمر محوري، لأن فائدته بنّاءة إلى حد معين. مصطلح “بديل”، في هذه الحالة هو مثل، “هامشي” أو “مُعارض” نسبيًا للفضاءات الفنية المهيمنة والسوق التجاري وبهذا التعريف والأسلوب من الممكن ترسيخ وإعادة إنتاج البنية الهرمية والطبقية لعالم الفن لأنه يعزز الهيمنة على عالم الفن عن طريق خلق فضاء هامشي. يصبح هذا العالم ثانوي ويعتمد وجوده على عالم الفن التجاري “المركزي”. يصبح ردة فعل ومرتبط بالعالم التجاري ويتم تعريفه على هذا الأساس. وهنا بالتحديد تقع وتكمن أهمية بناء أدوات وقواعد شرعية مستقلة غير تبعية. فكيف ننهي هذه التبعية؟ تبعية لشرعية جهات معينة او لعالم الفن التجاري المحتكر؟ الجواب بالتأكيد ليس سهل أو بسيط وهو بحاجة لجهد جماعي، لكن من المهم البدء في النظر والتفكير والتحليل والنقاش.
هناك مشاريع وتجارب مهمة من داخل فلسطين، تطورت لتصبح قواعد بنّاءَة وداعمة، أصبحت نقطة إنطلاق لموسيقيين فلسطينيين وغيرهم من بلاد مجاورة. قواعد توفر فضاء للتعبير بعيدة (قدر المستطاع) عن السياسات الأيديولوجية والهوياتية القائمة، وبالطبع، بعيدة عن التجارية والهرمية الحاضرة في سوق الفن العالمي والتي تتطلب في العادة مساومات من الفنانين. سنتناول باختصار هنا مشروعين كمثال، باعتقادي من الجيد النظر إليهم وعملية التطور في السنوات الاخيرة.
بعض الصفات لمشاريع باعتقادي تكون مهمة ومثمر النظر إليها، بحسب ما ذُكر سابقًا، والتي تجعلهم محوريين ومشاريع قابلة للتطور والتوسع وبناء مصداقية وبالتالي شرعية موسيقية وفنّية من دون المساومة أو اعتماد علاقة تبعية لجهة معينة. واحدة من الصفات، أن يكون المشروع له القدرة على إلغاء أو معارضة الصورة “الفردية” للموسيقيين أو الفنّانين، يكون حاضنًا وجامعأً، لجميع الفنّانين الراغبين وليس فئة معينة؛ فيكون هناك عامل جماعي وتنظيمي. صفة ثانية، أن يكون شامل ويتسم بالتنوع في العمل وما يوفره ليكون هناك قدرة على إلغاء دور الوسطاء في سوق الفن، وبالتالي من الممكن أن يتحرر الفنانين من المساومات التي بالعادة عليهم فعلها من أجل التقدم في السوق أو أن يتمكنوا من الإنتاج أو الحصول على الاعتراف الفنّي والشرعية. بالاضافة إلى ذلك، هناك عملية بناء مصداقية واعتراف وشرعية فنّية من أسفل الى الأعلى، وهذا عن طريق الفن والسردية الفنّية الناقدة للواقع وليس عن طريق الدعائية. وهذا يتطابق مع نوع الشرعية الشعبي وليس مربوط في السوق او عدد المبيعات أو الطبقة البرجوازية أو جهة مؤسساتية معينة. فاللغة المستخدمة والمواضيع الحاضرة في الإنتاجات الفنّية يجب أن يكون لها صدى في الشارع والصعيد الشعبي. رابعًا، أن لا يكون المشروع محصور بأمر واحد أو جبهة فنية واحدة ليكون هناك مجال للتطور والتوسع، مثل إنتاج موسيقى وأفلام أو وثائقيات وتنظيم وأيضًا مقابلات وغيرها من أعمال ثقافية. خامسًا، هم ربما صفتين لكن يمكن جمعهم بصفة واحدة لأنهم مترابتطين إلى حدٍ ما، وهم التواصل وخلق الفضاء. إنشاء فضاءات للتعبير والتواصل أمران محوريان، فهم يوفران مجال لاكتساب الخبرة للموسيقيين والفنّانين الصاعدين وأن يكتسبوا مهارات والاحتكاك والتواصل مع فنانين آخرين. هذا يخلق، مع الوقت، بيئة مشتركة يتم تقارب الأنظار فيها حتى إذا لم تكون اللغة أو الأفكار مشتركة، فالتواصل والتعبير له طرق أخرى غير اللغة. ومن هنا يمكن بدء عمليات التشبيك ليتم تطوير وتثبيت مشاريع وأفكار شمولية وحاضنة.
مشروعين أعتقد لديهم هذه الصفات أو الخصائص، وليس بالضرورة جميعها. بعيدًا عن الآراء الفردية والشخصية، مشروعان من الجيد النظر إليهم من ناحية التطور وبناء الشبكات، وخلق سردية واسعة هم بلاتنم وراديو الحارة (بالطبع هناك مشاريع وأفراد أخرى مهمة جدًا، هذا فقط مثال لربط النقاط بالواقع). فمثلًا بلاتنم يصفون أنفسهم بـ”ملاذاً” للفنانين العرب وليس فقط الفلسطينيين، وهنا نرى العامل الجامع في المشروع للضم والدعم والتشجيع، وهو عكس الانغلاق واعتماد دور حرّاس البوابات. ثانيًا، طريقة العمل والأشخاص وما يوفر هذا المشروع للفنانين من “إطلاق الموسيقى وتنظيم الجولات وتأمين التغطية الصحفية”، هكذا يمكن إلغاء دور الوسطاء الفنّيين هنا. هناك أيضًا عامل الشرعية والتي يتم اكتسابها من الأسفل، ويمكن رؤية هذا من خلال الشعبية التي اكتسبوها وأعداد المستمعين والحفلات المقامة في مختلف بلاد المنطقة وأوروبا مثل لندن وقريبًا إيطاليا. بالاضافة إلى ذلك، يتطابق المشروع مع عامل التنوع، من موسيقى إالى فيديو وغيرها، وهذا يفتح المجال للتعاون والتشبيك مع مختلف الفنانين والجهات المستقلة. أعتقد أن هذه المشاريع المستقلة مهمة، فهي منصة داعمة وحاضنة ولها تأثير موسيقي وثقافي، وعلينا النظر إليها بطريقة أعمق لمعرفة كيفية تطويرها لتكون بداية بناء شبكات فنّية ثقافية مستقلة جديدة في المنطقة تخولنا أن نخلق نظرة جديدة للفن الناقد البنّاء وقادرة على معارضة الثقافة الفردية، التجارية (والقمعية في منطقتنا).
المشروع الآخر هو راديو الحارة، وهو راديو مستقل، تم بناءه خلال الكوفيد-19 ومقره رام الله في فلسطين. تحوّل هذا المشروع، وبسرعة، إلى منصة واسعة للتعبير والتواصل والتشبيك للفنانين وغيرهم في فلسطين وباقي المنطقة. فهم يعطون المجال والفضاء للموسيقيين لمشاركة موسيقتهم، حتى لو لم يكونوا معروفين في حقل الموسيقى. وبالإضافة هناك برامج حوارية ومقابلات عن الثقافة والفن وغيرها، وهذا أمر مهم جدًا لبدء نقاش عام عن حالة الفن والثقافة في المنطقة وكيف من الممكن تطويرها وتوسيعها. لقد اكتسب راديو الحارة مصداقية في السنوات الماضية في الشارع الفنّي والثقافي، في السنوات الماضية من خلال، أولًا، توفير الفضاء كما ذكرنا، وثانيًا، عن طريق بث ودعم القضايا الأساسية التي تشغل الشارع وليس الطبقة الحاكمة أو السياسية. من القضية الفلسطينية، وقضايا سياسية واجتماعية في المنطقة، والقضايا العمّالية، ودعم الحراكات الشعبية في مناطق عديدة وليس البلاد المجاورة فقط. لقد نجحوا في راديو الحارة، بجذب الأنظار إلى القضية الفلسطينية، وغيرها من قضايا في العالم. لقد تم خلق مشاريع مثل، “الجبهة الصوتية للتحرير” (Sonic Liberation Front) والتي جمع مختلف الموسيقيين من مختلف أطراف العالم لإنتاج موسيقى لدعم القضية الفلسطينية.
بالتأكيد الموضوع بحاجة إلى نقاش وجهد كبيران، لكن المشاريع والإنتاجات الثقافية الصاعدة مهمة، ويمكن في هذه المرحلة بدء مشروع فنّي ثقافي شامل، يعطي الأولوية للتشبيك مع مختلف الأطراف والذين يشاركون النظرة الشمولية والجامعة الناقدة للفن والواقع، لكي نتمكن من خلق شبكات وعلاقات جديدة. ومع الوقت، يتم توسيعها وتثبيتها وبالتالي ممكن في المستقبل أن تتحول لبنيات ثقافية أو ثقافة سائدة غير تابعة لجهات رأسمالية أو أيديولوجية أو دعائية أو دكتاتورية وغير مبنية على الهوياتية، أو العنصرية، أو الطبقية. ممكن أن يكون موضوع الشرعية الفنية والثقافة، باعتقادي، نقطة نقاش نستطيع الانطلاق منها للحديث عن البنية الثقافية التجارية المهيمنة حالياً، ونقطة نقد بنّاءة للإنتاجات الفنّية الحالية من مختلف الفنّانين، وأيضًا النظر في كيفية بناء شبكات وبنيات جديدة. ويمكن من هذا الاتجاه البدء في معالجة مسائل التمويل، المحورية بالطبع والتي تحتاج إلى تعمّق ومقاربات جماعية وواقعية.
الخلاصة هي أنه في حالة فلسطين مثلًا إذا أرادوا الموسيقيين تشريع انتاجاتهم الفنية، الخيارات محدودة وضيقة. فواحدة تقع في فخ التطبيع والاستسلام الى نظرة الاحتلال وسياساته وسرديته للثقافة والفن. والأخرى هي السلطة الفلسطينية وسرديتها المنغلقة على أفكار رجعية وعالقة في نهج ثقافي محتكر على مبادئ خاصة لا تنعكس على الشارع او نظرة الشارع وتفتقد إلى عامل المقاومة. فلا يمكن التمدد أو التطور الى ما هو أبعد من نظرة السلطة ومبادئها. ونرى ذلك من خلال الاعتقالات التي تحصل، ومنع حفلات أو عروض معينة، بالإضافة إلى الرقابة على الكلام في الانتاج الموسيقي، والترهيب والتخويف اذا هناك عرض أو إنتاج لا يتناسب مع ما تراه السلطة “فن شرعي” أو سرديتها. هذه جميعها طُرق للحد من أي أعمال ثقافية ممكن أن “تخرق الجو العام” او تغيّر الخيارات المتوفر للفنانين والشباب للإنتاج والاستماع والتعبير والنقد وقدرتهم على بناء شبكات جديدة ليكتسبون قوة التأثير. والخيار الآخر، هو مؤسسات خاصة أو تجارية أو غربية تفرض مساومات على الموسيقيين سياسية أو غيرها ويتم تسليع الإنتاجات الموسيقية وتجريدها من أهميتها السياسية والاجتماعية والثقافية.
ومن هنا تأتي فكرة كتابة هذا المقال، ولهذه الأسباب أعتقد أنه أمر محوري خلق شبكات جديدة وليست “بديلة”. وفي بلاد غير فلسطين هناك مشاريع أخرى حاضنة بنَّاءة يمكن بناء شبكات معها؛ من لبنان، إلى الأردن وسوريا والعراق والسودان والمغرب وغيرهم، وبالطبع، الشتات.
المراجع