“كيف نحصل على السعادة”، “سر السعادة”، “فن السعادة المفقود”، “طريق السعادة”، “مئة سر بسيط من أسرار السعادة”. هذه بعض من عناوين الكتب التي تتحدث عن السعادة وهي في مجملها تعتمد على نصائح تزعم أنه بمجرد ما يقوم المرء بتطبيقها سيصل إلى السعادة. لا شك أن الرغبة في الوصول إلى “السعادة الدائمة” هو ما يضمن لهذه الكتب الانتشار الواسع. ولذلك تنتشر نصائح أو توصيات يمكن العثور عليها في سوق السعادة هذا وليس على المرء إلا أن يطبقها. يقف وراء هذا السوق شركات كبرى وأخصائيين نفسيين (تحديداً ما يعرف بعلم النفس الإيجابي) ونظام رأسمالي يسعى لترسيخ فكرة أن السعادة أو عدمها هو مسألة شخصية منفصلة عن الظروف الاجتماعية(٢). يشكل هذا جوهر النقد الذي يوجهه علماء الاجتماع المعنيين لهذه المقاربات بالإضافة إلى أنهم يرون أنها تعزز البحث الفردي عن نموذج موحد يصلح لأي مكان وزمان لكنه أيضاً نموذج “أناني”. خلال بحث ساهمت فيه مع باحثين آخرين في إسبانيا وجدنا أن مستهلكي الألبسة الجاهزة بتجنبون المعرفة عن ظروف العمل اللاإنسانية في معامل الألبسة. المعرفة قد تولد مشاعر “الذنب” الذي يعكر صفو السعادة في عملية الاستهلاك. في نفس الوقت انتقلت إلى مدينة إسطنبول للبحث في ظروف العمل هذه وآثارها على الرفاه الذاتي للعمال اللاجئين حيث استخدمت مقاربة تعتمد على منظور سوسيولوجيا الانفعالات وأحاول في هذا النص إيجازها. وأعتقد أن هذه المقاربة كما نتائجها تهم اللاجئين أنفسهم أولا قبل غيرهم. وذلك بسبب طغيان هذا المنظور الاستهلاكي للسعادة والذي لا يقود إلا إلى توتر أكثر على المستوى الشخصي وإساءة فهم أكثر لتجارب الآخرين ومشاعرهم بحيث أنهم يبدون مستسلمين أو مسؤولين عن “عدم سعادتهم”.
طور عالم الاجتماعي الإسباني إدواردو بيريكات مقياساً لدراسة ما يسميه الرفاه الاجتماعي – الانفعالي، بالاعتماد على النظريات السوسيولوجية حول الانفعالات التي تنطلق من فرضية أن معظم الانفعالات تتشكل خلال عملية التفاعل الاجتماعي، إنه “حالة انفعالية عامة ومستقرة نسبياً تشير إلى التقييم الانفعالي، الإيجابي أو السلبي، الذي يقوم به الفرد لنتائج مجمل تفاعلاته الاجتماعية”. يميز بين أربعة مستويات أو أبعاد. باختصار، الأول هو التفاعلي (مرتبط بالتفاعل مع الآخرين في الحياة اليومية) يمكن تلخيصه بمقدار “المكافآت الرمزية” التي يتلقاها المرء بشكل طوعي من الآخرين ولهذا الغرض يتم قياس التعرض للوحدة والكآبة(٢). الثاني ما يسميه عامل الحال أو الشروط الموضوعية التي يعيشها الفرد ولذلك يقيس السعادة والمتعة. العامل الرابع هو عامل التحكم ويتعلق بطريقة ودرجة التحكم التي يتمتع بها الفرد على العناصر الرئيسية في محيطه ويتجلى باختبار الهدوء والراحة والطاقة الإيجابية. أما العامل الأخير فيتعلق بالعامل الشخصي (علاقة المرء مع ذاته أي الفخر والتفاؤل). يتم السؤال عن هذه الانفعالات من خلال سؤال الأفراد عن مدى الشعور بها خلال فترة محددة (الأسبوع الماضي). لماذا هذه الانفعالات دون غيرها؟ لأن ما يهمنا هو هذا النوع المحدد من الانفعالات التي تعرف باسم الانفعالات البنيوية وتستمر لفترة أطول بالمقارنة مع غيرها من الانفعالات (إنها مستقرة إلى حد ما ومتكررة) والأهم ارتباطها بالظروف الاجتماعية ونمط حياة الأفراد. إذاً من خلال معرفة هذه الانفعالات يمكن فهم التقييم الذاتي للأفراد لهذه الجوانب الأربعة (التفاعلي، الشروط الموضوعية، التحكم والقوة، الشخصي) وبالتالي دراسة رفاههم الذاتي كحالة مستقرة نسبياً وغير مرتبطة حصرياً بالجانب الشخصي للأفراد. فهذا المقياس لا يتجاهل الشخصي وإنما يربطه مع الجوانب الثلاث الأخرى. هذه المقاربة التي اعتمدتها في بحث إسطنبول حيث أجريت مقابلات مع 62 لاجئاً سورياً يعمل في صناعة الألبسة في إسطنبول.
إن الشعور بالسعادة والاستمتاع بالحياة والرضا عن الحياة كلها تعكس تقييماً إيجابياً للظروف الموضوعية الأساسية التي تحدد وضع الفرد في الحياة. لم يشعر غالبية المشاركين أنهم استمتعوا بالحياة أو شعروا بالسعادة خلال الأسبوع الماضي. ظروف عملهم لا تترك أي هامش لأنشطة الاستمتاع فهم محرومون من الوقت والمال بسبب ساعات العمل الطويلة والأجر المنخفض. كما توضح إحدى اللاجئات “إذا نظرت لها (إسطنبول) ستقول إنها جميلة، لكن هذا إذا كان بإمكانك الخروج والتجوّل فيها، لكن ليس بهذه الطريقة”، (تشير إلى ظروف عملها التي لا تسمح لها بذلك).
ومع ذلك، فهم يبحثون عن لحظات ليكونوا مع العائلة والأصدقاء، أو للانضمام إلى أنشطة جماعية يمكن أن تساعد في إقامة علاقات أفضل مع الآخرين في اسطنبول. في الواقع، عندما كنت أسأل “متى شعرت أنك تستمتع بالحياة”، عادة ما يذكرون هذه اللحظات. على سبيل المثال، كانت المواجهات الأسبوعية بلعب كرة القدم واحدة من أكثر الاستراتيجيات شيوعاً التي استخدمها العديد من المشاركين الشباب في هذا البحث لإدارة الانفعالات للشعور بالتحسن على الرغم من ضغوط العمل. ومع ذلك، حتى هذا النشاط يأتي مع بعض العقبات، بسبب إدراك سوء الفهم أو الرفض. كما يشرح أحدهم: “كرة القدم هوايتي. أذهب للعب، لكن تجدوهم يسألونك إذا كان لديك هذا في سوريا. آه، نحن من كوكب آخر لذا تسألني هذا السؤال؟ أشياء كثيرة عنا تفاجئهم عندما يكتشفون أنها موجودة في سوريا!”
في الأدبيات المتعلقة باللاجئين، يُنظر إلى مشاعر اللاجئين في الغالب من خلال مقاربة مرضية ترتكز على التراوما (مابعد الصدمة). لذلك قد نتفاجأ، إذا ما اعتمدنا على هذه الأدبيات، بشعور العمال اللاجئون بالفخر والإيجابية تجاه أنفسهم، وكذلك بتفاؤلهم: “أتينا إلى هنا وبدأنا من تحت الصفر ليس من الصفر” هي الجملة (أو ما يشابهها) التي تتكرر كثيراً عند السؤال عن الانفعالات المرتبطة بالجانب الشخصي. استناداً إلى البيانات الكمية المستخرجة من استطلاعات مختلفة وبالطريقة نفسها التي اعتمدتها، قارن إدواردو بريكات وماريا جوليا أكوستا البعد الشخصي بين العمال الأوروغوايانيين في ظروف عمل مختلفة، وبين العمال وبقية السكان، وبين البلدان المختلفة. يؤكدون أن “أولئك الذين يواجهون درجة أكبر من عدم اليقين، هم أيضاً أولئك الذين يتمتعون بمزيد من القوة”(٣). علاوة على ذلك، كان العمل الرئيسي لمعظم هؤلاء العمال اللاجئين في صناعة النسيج في وطنهم، مما يوفر لهم فرصة نوع من الاستمرارية في مسارهم المهني. العمل في مدينة جديدة بعيدة عن البيت المفقود، والقدرة على إنقاذ الأسرة، أو مساعدة أفراد منها بعد عملية الهجرة القاسية هي مصادر الفخر التي تتكرر في أغلب الأحيان في المقابلات.
يتجلى فقدان السيطرة على الحياة التي يعاني منها العمال اللاجئون في الحالات الانفعالية للتوتر والاسترخاء. الإجهاد هو نتيجة عجز في القوة للتعامل مع موقف معين يضطر المرء للتعامل معه بطريقة ما. يثير القلق التوقع بحدوث شيء سيء. يعيش العمال اللاجئون باستمرار في المجهول (التهديدات الاقتصادية والقانونية والسياسية). يبقى السؤال عما يمكنهم فعله لاستعادة السيطرة. من وجهة نظرهم، في وضعهم الحالي (القانوني والاقتصادي والاجتماعي)، يبدو أن الهجرة هي الحل الوحيد.
لقد أدى فقدان اللاجئين للسيطرة على حياتهم إلى حرمانهم من قدرتهم على التخطيط للمستقبل. تميز آن نيلسن بين الأحلام والآمال والخطط(٤). يرتبط (الحلم) بعالم خارج الزمن والمكان. هنا، لا يوجد التزام من صاحب الحلم. أما الأمل فهو يدخل في عالم الممكن، على الرغم من أنه لا يزال يحتوي على جوانب من عدم اليقين لا تسمح بتحويله إلى خطط. عندما يعبرون عن “خطتهم” للهجرة خارج تركيا، فإنهم يفعلون ذلك دائمًا بتعبير مثل “إذا سنحت لي الفرصة” أو “إذا كان بإمكاني”. تعكس هذه الجمل الشرطية حالة “عدم اليقين”. الأحلام هي الأكثر انتشاراً، تليها الآمال. هذا أمر مفهوم عند النظر في العوائق العديدة التي تقيد حركتهم ليس فقط عبر الحدود، ولكن أيضاً داخل تركيا. هناك أيضاً عقبة اقتصادية تتمثل في تغطية تكاليف السفر. ومع ذلك، هذا لا يعني أنهم لا يخططون للمستقبل: إنهم يفعلون ذلك، ولكن فقط بخصوص الأحداث التي يعتقدون أنهم يتحكمون فيها (الزواج، تغيير مكان العمل، مساعدة الأسرة… إلخ). عادة ما تكون الخطط المهنية خارج منطقة سيطرتهم. لذلك، فإن الطريقة الوحيدة للسيطرة عليها هي الهجرة. في خطابهم، تظهر الهجرة كاستراتيجية “محتملة” للهروب من الغموض والهشاشة في تركيا والسيطرة على الحياة الخاصة، لا سيما في المجال المهني. أشارت الأغلبية إلى أنها ستغادر تركيا إذا سنحت لها الفرصة بذلك. أعرب عدد قليل منهم عن رغبتهم في الاستمرار في نفس المهنة، ولكن فقط في ظل ظروف أفضل. لم يرغب أحد تقريباً في الاستمرار في مكان عمله الحالي: من وجهة نظرهم، لقد فروا من أحد أشكال الجحيم (الحرب والاضطهاد) لكنهم الآن يجدون أنفسهم في شكل آخر منه.
باختصار، وجدت في هذا البحث غلبة للكآبة الناتجة عن عجز في المكانة والقوة، وكذلك الشعور بفقدان السيطرة على الحياة. هذا مختلف عن تلك الناتجة عن أحداث وقعت قبل الهجرة (التراوما) والتي غالباً ما يعزو إليها المختصين النفسيين كل المشاكل والأزمات النفسية التي يعاني منها اللاجئ. هذه الانفعالات والمشاعر مرتبطة عما يحدث “الآن” خلال تفاعلاتهم اليومية في مكان إقامتهم الحالي. مع ذلك، وجدت أن هؤلاء العمال اللاجئين فخورين وإيجابيين مع أنفسهم. ما هو متعلق بالشروط الموضوعية والتفاعل والتحكم سلبي للغاية، لكن ما هو متعلق بالشخصي وتقديرهم لذاتهم إيجابي للغاية. أزعم أنه من ناحية يفسر هذا سبب اعتقاد معظمهم أن الهجرة خارج تركيا حلاً. فهم يرون أنه فيما لو أتيحت لهم الفرصة للهجرة، سيكونون قادرين على بدء حياة جديدة أفضل (فالمشكلة في الشروط والظروف الموضوعية التي ليس لهم سلطة عليها). الهجرة هنا تبدو استراتيجية “محتملة” للتحرر من العنف المؤسسي الذي يعانون منه في تركيا. من ناحية أخرى تضع هذه النتائج على محك الشك الافتراضات الرئيسية التي تنطلق منها المقاربات النفسية العلاجية التي ترى المشكلة في الشخصي وتتجاهل الجوانب الأخرى. وهذا على الأرجح ما يتسبب بسوء الفهم أو خيبة الأمل لكثير من اللاجئين عند تعاملهم مع العيادات النفسية.
هذا النص مبني على بحث ممّول من قبل برنامج البحث والابتكار التابع للاتحاد الأوروبي، ماري سكلودوفسكا-كوري، بموجب المنحة رقم 841144 – مشروع FGMESI
الهوامش